على مدى التاريخ حاولت أمم انشاء نظام قيمي متفق عليه، يعرفها كشعوب. الفيلسوف السياسي جون رونز وصف هذا النظام بـ "السلع الاولية" أو "الرئيسية"، التي هي فوق الخلافات السياسية أو الايديولوجية. هذه السلع هي تعبير عن الهوية والذاكرة التاريخية واساطير وروح كل دولة. محاولة اقامتها تصبح معقدة اكثر عندما تكون الأمة تتكون من عدة مجموعات عرقية ودينية.
الديمقراطية والرأسمالية في الولايات المتحدة لها هالة تقريبا دينية للقيم الاساسية. رغم أنه حدث فيها تآكل كبير في عهد دونالد ترامب. في فرنسا ايضا يتم ذكر بين الفينة والاخرى قيم الحرية والمساواة والأخوة التي مصدرها الثورة الفرنسية، كروح قومية، رغم أن الاقليات في الأمة، بالاساس المسلمين من شمال افريقيا، تشعر بالاغتراب عن الدولة وعن القيم التي تعرضها.
في اسرائيل محاولة خلق روح مشتركة بالهام من حركة العمل على مختلف اجيالها، أدت خلال السنين الى بلورة هويات مختلفة، وعلى الاغلب منفصلة عن بعضها. حلم المجتمع المتجانس واجه صعوبات كثيرة، وبعد ذلك ايضا واجه معارضة من قبل مجموعات لم تنجح في الاندماج في مشروع بناء الأمة.
هكذا بدأ الصراع على صورة المجتمع بين من يشكلون الهوية المتجانسة، الاحوسالين (الاشكناز العلمانيين القدامى والاشتراكيين والقوميين حسب باروخ كمرلينغ)، وبين مجموعات وقوى اخرى منها العرب والشرقيين والمتدينين، الذين يدفعون قدما بأفكار الاختلاف وتعدد الثقافات.
من ناحية نظرية، النخبة السياسية طرحت فضاء للتنوع الثقافي، لكنها فعليا أيدت سياسة بوتقة الصهر التي معناها الانفصال عن كل المميزات الخاصة للتقاليد والمعتقدات الطائفية وخلق نظام ثقافي توجد فيه عناصر ثقافية مختلفة، لكن في اساسه محكوم من قبل مكون مهيمن واحد.
بوتقة الصهر لم تنجح في صهر المجموعات في اسرائيل في ثقافة واحدة متجانسة. ايضا نموذج الثقافات المتعددة لم ينجح بسبب العداء والكراهية بين اليهود والعرب، بين الاشكناز والشرقيين، بين الحريديم والعلمانيين وبين اليمين واليسار. المسؤول عن تأجيج الكراهية بين المعسكرين السياسيين، اليمين واليسار، هو رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو.
وأكثر من أي سياسي آخر فقد هز نتنياهو القيم التي اعتبرت بالخطأ قيم مشتركة: السيادية، الجماعية، العلمانية والاشتراكية. ومثل حركة العمل التاريخية تمسك نتنياهو بعدد من القيم المبلورة الخاصة به، وشبيها بالمعسكر الآخر هو حاول ويحاول بصورة قمعية، وغير ديمقراطية، أن يفرض على اسرائيل هوية موحدة: دينية اكثر، قومية متطرفة اكثر ورأسمالية.
المركبان الاساسيان الاخيران اللذان ما زالا يجمعان معظم مواطني اسرائيل اليهود (وليس العرب) ويخلقان الشعور بالانتماء هما دولة يهودية وروح الأمن. إن رؤية اسرائيل كدولة يهودية، ليس بالضبط بالمعنى الديني، تسود في أي استطلاع للرأي العام أمام تأييد صغير نسبيا لنموذج دولة كل مواطنيها.
الأمن القومي هو روح تطورت خلال الصراع بين اسرائيل والفلسطينيين، وهو يتبلور الى درجة ان يصبح بنية تحتية "نفسية – اجتماعية" لمعتقدات ومواقف حول الصراع، الذي يجد له مكان واسع في وعي المجتمع الاسرائيلي وزعمائه. هذا الوعي الامني يتم نشره بواسطة وسائل الاعلام والكتب والبرامج التعليمية.
إن الجهد لتشكيل أمة اسرائيلية واحدة تقوم على اساس قيمي مهيمن، فشل في السابق ومحكوم عليه بالفشل الآن ايضا. إن زيادة المجموعات التي ترضع معتقداتها ورؤيتها من مصادر مختلفة، واحيانا متناقضة، ليست وصفة لانتاج أمة متماسكة. الواقع الحزين يظهر أنه فقط الصراع بين اسرائيل والفلسطينيين، يمكن من قيام الأمة الواحدة (اليهودية، لكن ليس الاسرائيلية) على خلفية تأييد الجمهور الحاسم لقيم الدولة اليهودية وروح الأمن.
إضافة تعقيب