news-details

الإنسان يبحث عن المعنى| عرين مخّول

يغدق علينا هذا العالم الأفكار والمفاهيم، ونسعى منذ نولَد أن نبحث في طيّات هذا الوجود على أجوبةٍ تشفي غليل الإنسان الّذي فينا، نكبر، نتلّقى علم المعاهد والجامعات، نكتشف أحيانًا أنّ ما عرفناه ليس المُبتغى الّذي تصبو إليه نفوسنا، نتخبّط وذواتنا ونُعاوِد البحث ثانيةً علّنا نقبض على ذلك الملء المعرفيّ والوجوديّ الّذي نتوق إليه.

أكبّ معظم الفلاسفة، على مرّ العصور، على دراسة  "البحث عن المعنى"، وكلٌّ منهم وصفه بلغته، وتلخّص البحث عن المعنى بلغة غالبيّة الفلاسفة أنّ هنالك نقطة في مجرى الوجود تستوجب التّوقف عندها والبحث في مكامنها، ألا وهي كيف يمكن للإنسان أن يحقّق ملء ذاته، وأهمّ من يمكن أن نورده في هذا الصّدد هو الفيلسوف الوجوديّ الدّنماركيّ سورين كيركيغارد (1813 – 1855)، الّذي عرّف البحث عن الذّات الّذي ينتهي بالفشل بـ "اليأس"، واليأس بلغة كيركيغارد ليس ذلك اليأس النّفسيّ الّذي يعرفه النّاس (Depression)، إنّما اليأس الّذي سببه أنّ الإنسان لم يحقّق ملء ذاته.

فحسب كيركيغارد إنّ الإنسان هو نتاج توليفة تجمع ما بين النّهائيّة واللانهائيّة، بين الزمنيّة والأبديّة، بين الضّرورة والحريّة، ولكنّ حينما يطغى قطب معيّن على القطب الآخر  يولّد ذلك في نفس الإنسان يأسًا، ونستطيع أن نرى في صدد هيمنة عالم اليوم على النّفس الإنسانيّة كيف يطغى قطب النّهائيّة والزّمنيّة ويغيّبا قطبي اللانهائيّة والأبديّة، إذ أنّ هذا العالم يعمل بشتّى طرائقه وموارده كي يشتّت بصيرة الإنسان نحو ذاته، ويبلبل نظرة الإنسان حول وجوده، ويغيّب صوت المطلق الصّارخ فيه: "إبحث عنّي"، فيعرض للإنسان صورًا وعروضًا تلعب على وتر النّقص الكيانيّ الّذي يسعى الإنسان لملئه من خلال كلّ فرصة تسنح له، ويذهب بعقائده الاستهلاكيّة مُتفلسفًا باسم الحقيقة بأنّ الفرح الحقيقيّ يجلس على رفوف الدّكاكين وبين أزقّة الرّاكضين وراء استهلاك المزيد، وهكذا يغيّب هذا العالم حقيقة الإنسان الأخيرة الّتي يتوّجب على الإنسان البحث عنها دائمًا وأبدًا، ويخفّف من جودة الوجود الإنسانيّ بجعله آلة تعمل لمصلحة الأنظمة الاقتصاديّة والسّياسيّة، ويزجّ الوجود الإنسانيّ برمّته جماعيًّا كان أو فرديًّا داخل زنزانة الاحتضار الأبديّ، الألم التّخبطيّ والبحث الاخفاقيّ.

لذلك، في ظلّ هذا العالم، بكلّ ما فيه من أفكار، مفاهيم ومعتقدات، يكتشف الإنسان في كلّ مرّةٍ أنّه ليس هناك معتقدٌ أو فكرٌ  استطاع أن يساعد الإنسان على تحقيق ملء ذاته، لذلك نرى الإنسان، بالأخصّ إنسان اليوم، إنسان الأغراض  والتّشيّؤ، إنسان المتعة المؤقّتة وإنسان التّواصل الافتراضيّ، يكتشف مرّة  تلو الأخرى، أنّ هناك، في الأعماق الإنسانيّة، حاجة تفوق اللحظة الزّمنيّة وشوق يتجاوز الخبرة الوقتيّة وتوق يتخطّى الفرح اللحظيّ، بل هناك صوتٌ صارخٌ في جذور الكيان الإنسانيّ: "أشعر أنّ هذا العالم لا يكفيني، أريد معنى"، ذلك الصّوت الصّارخ هو صوت الحقيقة؛ صوت الأبديّة الممتزجة بزمنيّة الإنسان، صوت المطلق الممتزج بحدود الوجود الإنسانيّ وصوت المعنى الصّارخ من عمق العبثيّة الوجوديّة الّتي أضجرت وجود الإنسان المعاصر.

أقول لكَ أيّها الإنسان، أنت الّذي تقرأ هذه السّطور حاليًّا: إنّك أثمن من كلّ جواهر هذا العالم، بل أنت جوهرة في حدّ ذاتها، اكتشف لمعانك، اكتشف خصوصيّتك، اكتشف مدى رحابتك وعمقك، إبحث عن المعنى، ليس ذاك "المعنى" المتسلّل إلى حياتك مرّة من خلال فكرة جميلة  لتأتي بعدها فكرة أجمل فتدحضها، وليس ذاك "المعنى" المتربّص وراء الإعلانات والمثاليّات الكاذبة الّتي توهمك بأنّك "لست جميلا"، "تحتاج إلى المزيد"، "سيّارتك لا تتلاءم وموضة هذا العالم"، "لا تسوى شيئًا" وبأنّك مجرّد كائن لا يُذكَر في قاموس هذا الكون، وليس ذاك "المعنى" الآخذ صورة الفكر  وشكل المنطق كي يقنعك بإلغاء كلّ ما يفوقك والاكتفاء بالعلم الإنسانيّ والإنجاز البشريّ، وأنّ كلّ ما توصّل إليه هذا العالم لهو  بمحض قواه وكلّ ما سواه غيبيّات لا طائل منها في "عالم المعرفة والتّطوّر"؛ بل ابحث عن المعنى، السّاكِن في أعماق أعماقِك، الهامِس بصوته الخافت والوديع، أنّك أكثر ممّا كنت تظنّ، وأنّه بالرّغم من كلّ المحاصيل الّتي جمعتها و "رؤوس الأموال" الّتي كدّستها والمعرفة الّتي اقتنيتها، هناك ما هو أكثر ملئًا وأغنى فكرًا وأعمق وجودًا، إتبع ذلك الصّوت، صوت المطلق القادر على إشباع جوع الإنسان الّذي فيك، الّذي ينتظرك أن تبحث عنه والّذي لمّا تجده لن تتركه أبدًا.

أن نريد على نحو لامتناهي معناه أن نريد اللامتناهي." – سورين كيركيغارد.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب