news-details

الفنان جنديًا ومحاربًا: عن زاهد عزت حرش بعد رحيله | ناجي ظاهر

عرفته الساحة الثقافية الفنية منذ ردح زمنيّ قارب الخمسة عقود، ناشطًا ثقافيًا اجتماعيًا، فنانًا وكاتبًا شاعرًا، ورغم أنه قضى جُلّ فترته في عالمنا مقعدًا على كرسي ذي عجلات، تُمكنه من التحرّك حينًا بيسر وآخر بعسر، غير أنه كان، كما عهدته، شعلة متقدة من العطاء والنشاط، على أكثر من جبهة وفي أكثر من خندق. هو الفنان زاهد عزت حرش، ابن مدينة شفاعمرو الذي غادرنا يوم الجمعة الفائت، 2-12-2022، تاركًا وراءه تراثًا متعدّد الأنواع والابعاد، وحُلمًا دائم التطلّع إلى مستقبل أفضل وحياة حرة كريمة.. له ولأبناء شعبه.

ولد زاهد لعائلة سورية وفدت إلى البلاد من موطنها الأصلي سوريا عام 1946، وكان مولده بعد هذا التاريخ بعقد من الزمان، في مسقط رأسه مدينة شفاعمرو. التحق والده بصفوف الحزب الشيوعي وكان ناشطًا فيه، وقد سار زاهد على خطى والده، وبقي سائرًا على هذا الطريق حتى أيامه الأخيرة، وبإمكان من يطّلع على شيء من إنتاجه الفني والادبي ملاحظة إخلاصه هذا للمبادئ اليسارية التي آمن بها واعتنقها منذ بداياته الأولى.

كما قلت كان زاهد شعلة متقدة من النشاط، وقد ابتدأ حياته بإقامة المعارض الفنية التشكيلية المنفردة والمشتركة، منذ أواسط السبعينيات حتى أيامه الأخيرة تقريبًا، وكان مشاركًا فعّالًا في العديد من النشاطات والفعاليات الثقافية الفنية كما كان بإمكانك ملاحظة وجوده في هذه القاعة أو تلك خلال هذه الفعالية الثقافية او تلك، قبلها وبعدها، وأذكر في سياق الحديث عن هذا الاتقاد، أكثر من سهرة سجالية، وهذه الكلمة مقصودة، قضيناها في بيته القائم في أحد احياء مدينة شفاعمرو الشمالية الغربية، وكيف كان يصول ويجول على كرسيه ذي العجلات، وكأنما هو يتحدّى الإعاقة، التي اقعدته منذ عام 1993، حتى أيامه الأخيرة، وما زلت أتذكر وجهه الوضّاح وثغره البسّام، وكأنما الأيام لما تمض ولما تضح ذكرى.

أقول هذا وأنا أفكر في العطاء الغني، الجزل الثرّ الذي خلّفه راحلنا الكريم، وأحاول فيما يلي أن أوجز القول في نقاط مركزة ومكثفة، وذلك احترامًا للمناسبة واختصارًا للقول. أما حديثي عمّا اتصف به راحلنا من حيوية وفعالية فإنني أشير إليه لسببين أحدهما أن الإعاقة قد تتحول بالإرادة الواعية الخلّاقة إلى قوة وعطاء والآخر أنه بإمكان الانسان المُعاق أن يتمرّد على إعاقته وأن يقدّم ما أراد وما أحب أن يقدمه لمجتمعه. فيما يلي أتوقّف عند ثلاث نقاط أراها هامة وجديرة بالإشارة في سيرة ومسيرة راحلنا، وسوف أبدأها بما يتعلّق بي، وهي:

*الناقد الفني: أتذكر أن زاهد حرش فاجأني في لقائنا الأول، بأنه من المتابعين لكتاباتي في مجال النقد الفني التشكيلي، كما أتذكر أنه أشار إلى كتابات نقدية فنية محدّدة، كانت قد شرعت في نشرتها ابتداءً من السبعينيات الأولى في صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية وابنتها طيبة الذكر مجلة "الجديد" المحتجبة للأسف، وقد لاحظت في فترة تالية أنه لا يتردّد في توجيه النقد المحب الغيّور البناء إلى هذه اللوحة أو تلك، هذا العمل الفني او ذاك، وفاجأني في فترة تالية باهتمامه في الايقونات البيزنطية القديمة  وفي الكتابة عنها، بل أكثر من هذا فاجأنا جميعًا بكتابات غزيرة في هذا الموضوع الهام، موضوع النقد الفني التشكيلي خاصة.. هذا المجال الذي تفتقر إليه وتحتاج حياتنا الفنية. 

*الشاعر: كان زاهد يكتب الشعر المحكي بين الحين والآخر، وعادة ما كان يُسمعني، خلال هذا الاتصال الهاتفي أو ذاك اللقاء الدافئ، بعضًا من أشعاره المتأثرة بالأجواء اللبنانية السورية، وأولى هذا الجانب الإبداعي اهتمامًا خاصًا، وقد اتصف ما كتبه من أشعار بنوع ما مِن السُخرية والشفّافية، وتوزّعت مواضيعه في هذا المجال على الحياة والمرأة والنقد الاجتماعي أيضا. وها أنذا أقدّم فيما يلي نموذجًا عشوائيًا من كتابته الشعرية:

عيونِك حَفَروا بِقَلبي سهَام/ كُل مَا بشوفُن بِالصُورَه/ بِتطَلّع فِيهُن مَا بنَام/ الصُورَه بِقَلّبِي مَحفُورَه/ مَا أحلّي حُب الّحَمَام/ مَع أَحلّي حِلّوِي وأَمُورَهَ/ عَم بَحلَم بِجَوّز خِيَام/تَحت ثِيابِك مَستُورَه/أنعَم مِن تِمثَال رخَام/ب ِتمَنَى خيَامِك زُوّرَه/ اَطيَب مِن تُفَاح الشَام/ فَوقُن كَرَزِهِ مَغرُورَهَ/ خَيَّاَل ومَا عِندِي لّجَام/وخَيِّلِي مِنِك مَقهُورَه/ عَم تُركُض خَلّف الأَوّهَام/ تَحت بلّوزِهِ وتَنُورَهَ/ غَرقَان بِبَحر الّغَرَام/ وغَاطِس بِأَحلَىَ جُوّرَهَ.

*الفنان التشكيلي: ابتدأت حياة زاهد العملية بدراسته الرسم الفني كما سلف، وهو ما سهّل عليه الدخول إلى عالم الفن التشكيلي الصعب العصيّ، غير أن من يتمعّن فيما خلّفه من إبداع فنيّ سيلاحظ دون جُهد كبير أن الرسم الفنّي ترك أثرًا واضحًا جليًا في تركته الفنية، وفي المقابل لهذا قرّبه الرسم الفني من الحس السياسي الاجتماعي الذي شغله طوال أيام حياته، ولعلّ مَن يتمعّن في لوحته الجدارية يلاحظ إلى توفر هاتين الصفتين، فهو ينفّذها بقلم الحبر، وهو يعلن بها محبته واحترامه الكبير لتراثه الثقافي الفني في البلاد.. ولأهله الأعزاء. 

مُجمل القول، كان الفنان الراحل صاحب موهبة متعدّدة الأوجه، فقد مارس الفن تنفيذًا ورسمًا، كما كتب الشعر العاميّ خاصة، وكان قبل هذا وبعده، شُعلة دائمة الاتقاد من النشاط، السياسي والاجتماعي ولم تقعده الإعاقة وإنما شكّلت تحديًا كبيرًا احتاج إلى قوة أكبر لمواجهته و.. هذا ما كان.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب