news-details

الكلمة الحرة ونبض الأحرار! | رياض خطيب

من خلال مواكبتي لما ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعبر بعض الصحف العربية، وخصوصًا صحيفتنا الرائدة والمميزة الاتحاد، عنوان هويتنا الثقافية والحضارية والفكرية وإحدى الصحف المميزة في عالمنا العربي، أجد أننا كأدباء ونقاد وصحفيين وقراء نسينا أو تناسينا أن هناك في التراث العالمي الأصيل الحر مدخرات أدبية وثقافية لأدباء وكتاب عالميين، هي إرث للحضارة الإنسانية الحرة وملك لكل الناس الشرفاء، من أجل رفع سقف ومستوى الوعي والأصالة الحقيقية لكل الباحثين عن الحرية والتحرر.

ومن مثلنا نحن، أبناء الشعب العربي الفلسطيني الذي ما زال يعاني منذ قرن ونيف من موبقات أخطر وآخر احتلال عسكري في العالم، هذا الاحتلال الذي كان إفرازا لأخطر مؤامرة ممنهجة على أيدي الدوائر الصهيونية والإمبريالية العالمية، والتي كانت تهدف إلى الاستلاء على أرضنا الفلسطينية من خلال أبشع عملية تهويد وتهجير قسري، وبأبشع أساليب القمع والتنكيل القذر.

بطبيعة الحال، تعرض قبلنا وغيرنا من الشعوب إلى مثل هذا النهج، وكان أدباء وكتاب هذه الشعوب دوما في الخندق الأمامي مع أبناء شعوبهم في مقارعة هذا الاحتلال، وزرع روح المقاومة والتحدي لأبناء شعوبهم. وكان لأديبنا الراحل الخالد حنا مينة دور مهم وأساسي في زرع روح المقاومة لدى أبناء شعبه السوري، من خلال ما سطر من روايات خالدة في مقارعة الاحتلال التركي للواء الاسكندرون، ومن ثم مقارعة الاحتلال الفرنسي والإسرائيلي لاحتلال الأراضي السورية، ولقد كان سباقا في نشر تجربة شعبه السوري وتجربة شعوب أخرى عانت من ظلم وتعسف أنظمتها والاحتلال الأجنبي لبلادها، وعلى الأخص ما خص به شاعر الحرية ناظم حكمت، حيث خصص رواية وملخص كامل لتجربة ناظم حكمت من خلال إصداره المميز ناظم حكمت السجن.. المرأة.. الحياة.

هذا الإصدار المميز حول تجربة أديب وشاعر مقاوم وضع كل إمكاناته الشعرية والأدبية أمام أبناء شعبه التركي، وذلك من أجل المساهمة في معركة التحرر من الحكم الاستبدادي الرجعي آنذاك، والذي حول تركيا كلها إلى سجن كبير واسع لكل من رفع صوته وطالب بالعدل والعدالة الاجتماعية.

هذا الشاعر الأممي بامتياز، والذي خاطب من خلال إنتاجه الشعري والأدبي كل أحرار وشرفاء العالم، وكل المقاومين ضد الظلم والظلام، مستهلا سيرة ناظم حكمت بحكاية للسفاح تيمورلنك، الذي سجل تاريخه بأحرف من دماء الشعوب التي داس على أشلاء وجثث شعوبها من اجل الوصول إلى المجد.

بعد توارد انتصاراته، أقام تيمورلنك احتفالا على أرض الخباء على سجاد لا يضارعه روعة وبهاء، وانتصب ثلاثمئة إبريق ذهبي من أباريق الخمر، وكل ما يليق باحتفال ملكي. جلس خلفه الموسيقيون، وعند قدميه جلس أنسباؤه وجماعة من الملوك والأمراء والزعماء، وكان أدناهم إليه شاعره كرماني، والذي سأله تيمورلنك وقد أخذه العجب بنفسه:

 "يا كرماني بكم تشتريني لو عرضت في سوق للبيع؟"، فأجابه قائلا: "بخمسة وعشرين دينارا!"، فقال تيمورلنك في كثير من الدهشة:

 "ولكن حزامي وحده يساوي هذه القيمة!"، فأجابه: "إنما كنت أفكر في حزامك وحده، لأنك أنت لا تساوي فلسا واحدا!".

كذلك خاطب الشاعر كرماني ملك الملوك رجل الهول والشر تيمورلنك!

ليس مهما ماذا فعل تيمورلنك بالشاعر، ولكن خلاصة الفصل أنه ارتفع مجد الشاعر صديق الحق فوق مجد تيمورلنك، وليسبح في مجد الشعراء الذين لا يعرفون غير كلمة الحق الجميلة التي لا تهاب.

وفي تاريخ الأمم الحديث، هناك العشرات من الشعراء والأدباء الذين قالوا كلمتهم ثم عانقوا الموت والألم والسجن على شرف ما قالوا.

إن الكلمات مواقف، وحين تتوحد الكلمة مع الموقف هذا هو البركان الهادر الذي يزلزل الأرض تحت أقدام الطغاة والمحتلين، وهذه الحكاية كانت نقطة الانطلاق وصفارة البداية التي وضعها أمامه أديبنا الراحل حنا مينة للحديث عن التركي الثائر ناظم حكمت، فناظم حكمت بما خطه من أحرف وكلمات وأبيات شعرية ثائرة ومنتفضة، وضع حجر الأساس لفكره ونبضه الثائر الذي لم تخمده كل سنوات السجن والعذاب، فقد قضى جل عمره متنقلا بين السجون والزنازين التركية، زارعا روح الأمل وشعلة المقاومة والتحدي في نفوس أبناء شعبه المعذبين.

لقد حول أيام السجن القاسية المريرة إلى نقطة انطلاق نحو تحدي الواقع وزرع الثقة والأمل في نفوس أبناء شعبه التركي، الذين يذوقون ويلات الظلم والمعاناة من هول بطش القوى الرجعية والظلامية، التي حولت شعبها إلى عبيد من أجل تحقيق أجندتها الخاصة على حساب لقمة عيش الغلابة والمعترين، وهم الغالبية العظمى من أبناء هذا الشعب.

أيام السجن إذا هي الدفيئة والحاضنة لأجمل ما كتب ناظم حكمت من أشعار، وكلنا يذكر ما كتبه المناضل بطل نفق الحرية محمود العارضة في قصيدته الرائعة حول الناصرة وأهلها، ولإخوته العمال والمعذبين، ولزوجته ورفيقة دربه منور، ولابنه محمد الذين لم يره إلا من خلف القضبان.

وفي هذه الأبيات والقصائد الشعرية التي كتبها ناظم حكمت من خلف القضبان تجلت أبهى صور إنتاجه الفني الأصيل والملتزم، وحتى إنها كانت الشمعة التي كشفت الطريق نحو الخلاص وطريق المقاومة، ومع مرور الأيام وتوالي إسقاطات الحرب العالمية الثانية، وتوغل الجيش النازي في الأراضي السوفياتية، تجلت أجمل صور الأممية الصادقة لدى هذا الشاعر العظيم، وأصبح صوت الأحرار ومناصرة المقاومة السوفياتية للوحش النازي، وكتب هذه القصيدة الرائعة لنصيرة الثورة السوفياتية التي أعدمها الألمان:

"في أوائل كانون الثاني

في ظاهر مدينة فيرنا

أعدم الألمان

فتاة نقية كالثلج

في الثامنة عشرة من عمرها

نصيرة

من موسكو،

أحبت، فهمت، آمنت

وانخرطت في الحركة

........

ها هي ذي تتأرجح على حبل المشنقة

تتمثل فيها عظمة الإنسان

وكما تقلب بشغف

صفحات "الحرب والسلم"

كانت يداها في الظلمة

تتحسسان أسلاك الهاتف

لتقطعاها

أو تحرق مستودعات العدو

اعتقلت في اليوم الثاني

قبل إنجاز عملية جديدة

وعلى حين غرة

كانت النجوم تسطع في السماء

وقلبها الفتي يخفق بهلع

ويدها المضطربة تحمل البترول

انقض عليها الأعداء

ساقوها

أودعوها غرفة صغيرة...".

ويكمل في مقطع آخر:

"تانيا!

أنت صغيرة أعدمت

وأنا شاعر سجين

أنت ابنتي

أنت رفيقتي

أنحني فوق رأسك

حاجباك دقيقان

وعيناك بلورتان...

ويتابع بمقطع آخر هذه الملحمة الإنسانية الخالدة:

نحن مئتا مليون إنسان

هل بوسعكم أن تشنقونا جميعا؟".

حال تانيا وشعبها الروسي آنذاك هو كحال شعبنا الفلسطيني في المناطق المحتلة، كلما زاد الإرهاب والقمع الاحتلالي زادت وتيرة المقاومة وتوحدت القلوب وتألفت من أجل دحر هذا الاحتلال الغاصب وتحرير الأرض، كما فعل الشعب السوفياتي الذي انتصر وحقق الخلاص للبشرية من خطر الوحش النازي.

هذه حقيقة وفلسفة ناظم حكمت الأممية بامتياز، وكان دوما نصير الشعوب المستضعفة وضد همجية الإمبريالية وعدوانها، وقد كتب كلمات أيضا للشعب الكوري الذي تعرض إلى العدوان الأمريكي آنذاك، قال:

"في الوقت الذي جاء ولدي إلى الدنيا

ولد أطفال يشبهون عباد الشمس

في كوريا

لقد ذبحهم "مارك آرثر"

فماتوا قبل أن يذوقوا حليب أمهاتهم

عندما جاء ولدي إلى الدنيا

ولد أطفال في سجون اليونان

أعدم آباؤهم رميا بالرصاص...".

ولو امتد به العمر وواكب مأساة شعبنا الفلسطيني وما حل به من نكبة، لكان خلد هذه الملحمة بأجمل قصائده.

وكما كتب عن الثورة والثوار في العالم، كان في هذا القلب الكبير متسع من المساحة لكي يتغزل بزوجته منور ويعبر عن حنينه القاتل لابنه محمد، لتتشكل أجمل ملحمة إنسانية نابضة بالحياة. كتب لمنور هذه الكلمات:

"لقد حفرت بظفري

على جلد سواري

فأنت تعلمين أنه لا يوجد

في السجن سكين ذات مقبض صدفي

" ممنوع استعمال الأدوات القاطعة"

ولا شجرة شيرين ينطح رأسها السماء

بل توجد في الباحة شجرة صغيرة

ولكن ممنوع حتى على السحاب

أن يعلوا رؤوسنا...".

كانت منور بالنسبة لناظم نحلة ضائعة طوال ثلاثة عشر عاما، وكان ضياعها مصدر إلهام صاغ منه ناظم أجمل قصائده في الغزل والحنين إلى الوطن، ومناجاة الأرض التي يطأ والهواء الذي يتنفس.

هذا ملخص بسيط لتجربة ورحلة ناظم حكمت، والتي من المفروض أن تكون عبرة لكل الذين يبحثون عن أفق ومساحة حرية تحت الشمس.

وهنا أوجه نداء والتفاتة إلى نقادنا بالأساس، من أجل الاهتمام بنقل تجربة شعراء آخرين وآدباء آحرار، لكي يكتمل المشهد الإنساني بأجمل صوره، ونشكل مع أحرار العالم جوقة وناقوس، من أجل تحقيق الحرية والسعادة والعيش الكريم للإنسانية جمعاء...

 

//ص

الشاعر الثوري ناظم حكمت

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب