كتب عالم الاجتماع الكبير زيجمونت باومان عن ما بعد الحداثة أنها "انتصار للفكرة الليبرالية على المجتمع الليبرالي". بالنسبة له، تعبر ما بعد الحداثة عن انهيار الفكرة الليبرالية على ذاتها، حين يتحول الشك والنقد والكونية المميزة للفكر الليبرالي الى شك ونقد الشك ونقد الكونية بحد ذاتها. بما أن ما بعد الحداثة، بشكل عام، تجادل بأنه لا توجد حقيقة موضوعية وأن الأمر كله يتعلق بالتفسيرات والسرديات المختلفة، يُنظر إلى الفكر الليبرالي (بالإضافة إلى الديمقراطية والاشتراكية، إلخ) على أنها سرديات أخرى ونهج آخر يمكن رفضه باسم "حقائق" بديلة.
عندما يتم التشكيك في الشك نفسه باسم الـ"التشكيك"، عندما يرفض المرء الديمقراطية باسم الديمقراطية (أي باسم الحق الديمقراطي في الانتقاد)، عندما يعارض المرء المساواة باسم المساواة (أي باسم الحق المتساوي في اعتناق المعتقدات والأفكار التي ترفض المساواة)، وعندما يرفض المرء الكونية باسم "النسبية الثقافية والأخلاقية"- حينها يفسح الشك والكونية والنقد والديمقراطية والمساواة (بما في ذلك الأممية الشيوعية) المجال لواحد من اثنين، وبالعادة للاثنين معًا: (1) العدمية ("كل شيء ممكن"، كل شخص لديه حقيقته الخاصة، وكل "الحقائق" شرعية على قدم المساواة) ، و/ أو (2) حكم القوي - إذا "كان كل شيء ممكن"، فالذي يحدد سير الامور ليس العدل أو الحقيقة أو الجدير بذلك، ولكن الشخص الذي ينجح في شغل مناصب السلطة - الدكتاتور، أو الذي أطلق عليه كارل شميدت "القوي". والقصد هنا هو الديماغوجي الذي يتمكن من حشد المزيد من الدعم من الجمهور بشكل عام ومن هم في السلطة بشكل خاص. وفي كلتا الحالتين، الفكرة الديمقراطية (أو الليبرالية وفقًا لباومن) ستؤدي إلى القضاء على المجتمع الديمقراطي (أو الليبرالي) - ستؤدي التعددية إلى العدمية، وستؤدي العدمية إلى التنافس على السلطة المحضة - لأنه إذا كانت الحقيقة والعدالة نسبيين، فلا يوجد شيء يمكن المجادلة والمنافسة من أجله – والسلطة المحضة هي هيمنة المستبد، الذي يتمتع بفن الخداع، وموهبته الخطابة، اي الـ"ديماجوج".
إن عصر "الأخبار الكاذبة- fake news" التي نعيش فيه، والذي نشأت فيه شخصيات فاشية مثل ترامب، وأوربان، ومودي، وبولسينارو، ونتنياهو بالطبع ، تتميز بما ورد أعلاه: العدمية والقوة المحضة والاستبداد. كل هذه الظواهر، التي تقوم على الخطاب الديمقراطي ولكنها ذات جوهر سلطوي، تميز اليمين المتطرف، لكنها تبدأ في المقام الأول مع اليسار الذي تخلى عن الماركسية اللينينية، بسبب ما يسمى بمفكري ما بعد الحداثة، وبعض الشيوعيين السابقين. مفكرو "ما بعد اليسار" هم أولئك الذين من خلال نضالهم ضد الهيمنة وقوى القهر والاستغلال في المجتمع، جعلوا مفاهيم الحقيقة والديمقراطية نسبية لدرجة أنها انهارت على أنفسها، وهم الذين قدموا لنشطاء اليمين الفاشي (عن طريق الإهمال والخطأ وليس بنيّة خبيثة) أدوات لهزيمة المجتمع الديمقراطي بينما يحملون اسم الفكرة الديمقراطية اسمًا فقط. يمكن القول أن الفقر الديالكتيكي لما بعد الحداثة جعلها تلقي الطفل الثوري مع الماء الرجعي.
إن النضال ضد الهيمنة والقوى القمعية والاستغلالية لا يمكن خوضه من مفهوم "نسبي" للعدالة والحقيقة. بالتأكيد لا يمكن هزيمتها عندما تنفصل الفكرة المجردة عن ممارستها، ناهيك أن تكون الممارسة مناقضة للفكرة كليًا. اليوم، ربما أكثر من أي وقت مضى، هناك حاجة إلى ممارسة منظمة وواضحة تستند إلى التقليد المادي للماركسية اللينينية حيث يتم قياس أفكار المساواة والديمقراطية من خلال تحقيقها، أي في التطبيق الفعلي لمجتمع ديمقراطي قائم على المساواة. لانه في نهاية المطاف، "يجب على الفلاسفة تغيير العالم وليس مجرد تفسيره".
إضافة تعقيب