news-details

المجاهد أحمد قاسم رباح

 المجاهد أحمد قاسم رباح (ابو محمد) 1900- 1979

في أحد لقاءاتنا الروتينية اليومية في ديوان عائلة الربحات الكريمة، مجموعة من الأتراب والاصدقاء المتقاعدين وبعد احتساء القهوة السادة وانتهاء احد الزملاء من عرض سيل طُرَفِهِ و مُلَحِهِ اللاذعة والهزلية التي أنعشتنا وغسلت وجوهنا من كسل الصباح، أخذنا نتجاذب الحديث وكان ذا شجون، تناول الحديث بجدية شيخنا كبير القدر والمقام الطاعن في السن، حيث عاد بنا الى سنوات الخمسينات من القرن الماضي يروي حكاية قاتمة وسوداء لرجل ناله الكثير من براثن ومظالم الحكم العسكري البغيض هو السيد احمد قاسم رباح (ابو محمد)، شدتني الحكاية وهزتني من الأعماق وأججت أحاسيسي في داخلي، فشددت الرحال بصحبة صديقي الى دير حنا الى بيت نجله السيد فهمي احمد قاسم رباح  (ابو الراغب)، ليروي لنا بعضا من سيرة والده الكفاحية.

أوقفنا السيارة في الموقف وقفنا امام بناية ضخمة فاخرة وشاهقة طرقنا الباب اشرع لنا استأذنا وولجنا غرفة الاستقبال، ردهة رحبة جميلة اصطفت في جنباتها كنبات فاخرة وثيرة، جلسنا فراح يرحب بنا (ابو الراغب) بحفاوة جارفة وحميمية، ترتسم على وجهه البشوش ابتسامة عريضة وهو يعتمر الكوفية والعقال يحافظ على اصالة عروبته، وقد لفت انتباهي صورة لرجل بهي ّالطلة جميل الشكل طويل القامة نحيف الجسم علقت في صدر غرفة الاستقبال، ارتشفنا القهوة ورحنا نتجاذب اطراف الحديث ولاحظ نظراتي نحو الصورة فببداهته القوية قرأ تساؤلي الذي كتمته في داخلي فأشار ببنانه وقال تلك صورة تذكارية لوالدي، فانتهزت الفرصة وخاطبته قائلا: وهل بك لو سمحت ان تتكرم علينا وتحدثنا عن سيرة حياته فقد جئنا لهذه الغاية، نظر إلينا واتّسمت نظراته بالاستغراب، أطرق قليلا أشعل لفافة ومجّ منها نفسا ونفث الدخان، وقد غمرت وجهه مسحة من الخجل، ثم قال:

ان والدي خبر عاديات الدهر ذاق حلوها وذاق مرها، وقد جاهد والدي في حياته ليحافظ على كرامته ويحافظ علينا، كان والدي مختارا في القرية زمن الانتداب ووجيها ميسور الحال، اذكر وانا طفل اننا عشنا ببحبوحة، كان يملك اكثر من الف دونم من الارض الخصبة وقطيعا من الماعز والغنم يزيد على 150 رأسا، هُجّرنا من حطين سنة النكبة في 16-7-1948، وحطَّ رحالنا في وادي سلامة وهناك وجدنا المرعى والماء، رفض والدي ان يواصل الرحيل ويلحق بأقاربه واحدى زوجاته الذين واصلوا طريقهم الى لبنان وقال والدي: اريد ان ابقى هنا قريبًا من حطين اشتم الهواء القادم منها من الشرق انتظر العودة اليها، وبعد مدة من اقامتنا في وادي سلامة  أقدم احد الصهاينة برفقة احد الاشخاص العرب وسطا على القطيع وهو في المرعى في الوعر ونهبه فانتقلنا بعدها الى قرية دير حنا وسكنا فيها، صمت قليلا وتكدّر جبينه ثم واصل حديثه قائلا: بعد ما نهبوا القطيع ضاقت سبل العيش امام العائلة وكانت البطالة متفشية في القرى،وراح المتربصون من اعوان السلطة لضيق العيش يساومونه على بيع بعض من املاكه لحل مشكلة الضائقة فكان يرفض رفضا قاطعا، صبر والدي على شظف العيش وقد جاهد ليضمن لنا لقمة الخبز. اقول جاهد واشدد عليها لأنه صبر على الضيم وصابر، وبفخر واعتزاز اقول  انه كان مجاهدًا حقيقيًا، فقد تقلّد السلاح وحارب مع المحاربين لصد جيش الهاغنا في معركة ضارية دفاعا عن قرية لوبية في16 -7- 1948 ، فقد جرح فيها واستشهد رفيق دربه في حمل السلاح الشاعر الشعبي محمد يوسف الحطيني شقيق الشاعر الشعبي المعروف مصطفى ابو السعيد الحطيني، وبعد أن تركزت اقامتنا الدائمة في دير حنا، كثرت استدعاءات الحاكم العسكري والمخابرات لوالدي في سبيل اقناعه ببيع أملاكه وكانت السلطات تدرك جيدا انه اذا ما هوى ورضخ فسيتبعه الآخرون من مهجري حطين في دير حنا، كانوا يعتقدون انه هو المفتاح الذي سيفتح لهم باب شراء الأرض من مهجري حطين.

ويتابع: ففي غمرة ضائقة العيش ورفضه لمحاولة البيع لم يكفّ الحاكم العسكري عن استدعائه فحاول بالترغيب والترهيب كسر صموده، عجم عوده فوجده عصيًّا فأوغر له صدره، فأخذت السلطات تمارس سياسة الاعتقال فتعرّض عدة مرات للاعتقال والضرب والاذلال والاهانة، ففي احدى مرات الاعتقال ضُرب ونكِّل به بقسوة مفرطة ولم يوقفوا الضرب حتى اغمي عليه وظنوا انه فارق الحياة، وهو الوجيه المحترم والمبجل في قريته، ففي سنة 1954 امعنوا في صلفهم واوغلوا في مضايقته لم يتورعوا من اعتقال جميع افراد العائلة بمن فيهم والدتي المريضة حملوها على الفرشة واعتقلونا صغارا وكبارا ولم يشفع لنا صراخنا وبكاؤنا وزجوا بنا في سجن عكا مدة 13 يومًا. كنا نسمع صراخ وتأوّهات والدي من داخل غرفة السجن وهم ينكلون به لإرغامه على تنفيذ رغبتهم فخاب ظنهم وصمد امام عصا الجلاد، اطلق سراحنا امّا هو فقد حكم عليه بالسجن الفعلي مدة ثلاثة اشهر وجدير بالذكر من محاولات الاغراء التي مارسوها بداية سمحوا له ضمان 150 دونما من الزيتون من اموال الغائبين فكان وشريكه يتعاطفون مع المهجرين فيتقاسمونَ الزيتون معهم، ولما لم يُجدِ هذا الاغراء نفعا عادوا وحظروا عليه تلك الامكانية وسدوا امامه جميع السبل لتجويعه وعائلته للهدف نفسه الذي كانوا يصبونَ اليهِ، فراح يبحث عن وسيلة تعطيه بعض القروش فاضطرَّ ان يقوم بضمان عين البلد ليبيع الماء لبعض المستهلكين ليحصل على بعض القروش الزهيدة لشراء بعض حفنات الطحين لنجد ما نسد به رمقنا.

صمت قليلا ثم استطردَ يقول: بقينا نعاني لسنوات طويلة حتى كبرت ونزلت الى سوق العمل اجني بعض الليرات لإنقاذ العائلة من حياة البؤس والفقر والحضيض وآمنت أنه بعد العُسرِ يُسرا وبعد الضيق يأتي الفرج فكدحنا وكددنا، وقد أثمر كدحنا. وكان فضل والدي انه ارسى في بحر حياتنا مرساة الصمود. مدِّ يده وسوّى ابو الراغب كوفيتهُ عن جبينِهِ وكانت قد عَلت اشراقة على وجهه وقال: انظروا الى هذه البناية الضخمة الشاهقة والارض عمرناها من كدنا وعرق جبيننا ولم نفرط بشبر من الارض، ثم قال اقول كان والدي مجاهدًا بحق وحقيقة وقال الله يرحمه واحتبست الدموع في مقلتيه، شكرناه وغادرنا دير حنا وقد تلقينا درسا في الشهامة والنبل والصمود والاباء. هذا غيض من فيض مما سمعناه من أبي الراغب عن مظالم السلطات ومعاناة والده، حكاية رأيتها جديرة بالنشر.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب