news-details

الموسم عَزَمان قَبِل

الفَجاج فوق الجبال مضرّج بلون لهَبيّ، ليل الصيف قصير، والصيف ضيف، لا نحسّ كيف يمضي من الشغل، من مشرقها لمغربها، وتكون العصافير قد بدأت يومها، تنطّ على التين والبطم، كل جنس ومواله، تفطر على نغمات وألحان، في انبساط ومرح، لا همّ دنيا ولا عذاب آخرِه.

ويبلج قرص الشمس، يفجّ ويفلش النور على رؤوس الجبال، تُحمرِق للحظات وتعود ككل يوم في هذا الموسم مثقلة بضوّ الشمس اللهّاب.

تتنهّض البلد، ويعمّ الروش، كلام وصياح:

  • يلله قوم!! تنهّض، حِمي النهار.
  • تقوم قيامْتَك والناس نايمة،

خطمات على الدروب، معزى وخيل وحمير ودجاج وناس، تنفض عنها النّعس والنوم، كل واحد وشغِلتُه، نحن الاولاد وفراخ الشباب، ننام على السطوح وعلى شول القمح، البيادر عامرة بالموسم، قمح وشعير وقطاني، حلشتها وحصدتها الأيدي الخشنة المجرّحة المشنظرة، ونحن مع أهلنا، عِزِب، ننام في الحقْلِه تحت السما والطارق، وطاوِط تحوم وتدور، وسراج الليل يلمع، وحوش وطيور تزعق، شبَث وهِسهس وخرفشة، حيايا وريح في الوعور، أحلام وهمهمة كلام، كل واحد وشغلتُه، قبل ان يطير الطفل، تعباية عِنب في سحاحير كبيرة، وعلى أكوام الجمَج دبابير وزقرط ونحل، الدواب تنقل احمال العنب الى صفد، ومعبيّة عنب يأتون من ترشيحا والرامة وقرى الشاغور والبطوف، ونحن ندرس الموسم على البيادر، ذراوة، وصُبّات قمح، وعلى البيدر مذراية وشاعوب، وحالول وكربال، وقضبان تبن، صبايا تبانات ينقلن أخياش التبن على رؤوسهن في الليل الى التبّان، يكفتنه من الروزنه.

ومن الكروم تروّح الحُرمة مع سارود عنب، سواريد مجدولة من القصب، وقرطلة تين بقراطي وبياضي وغزالي وشحماني وعْسالي، القرطلة مجدولة من عسالِج وفنود لُجيّنة بعد ازالة الشوك الحاد، كلها بلون بني فاتح، شلاعي المعزى في كل وعر البلد، غناني على الشّبابة الستاوية، ومعزى تورد على العيون، اول وردة وثاني وردة، حلابات يحملن الحليب على الدواب من عيون الجمَل والجبَل وسرطبا، سطليات وسطول نحاس ومناشِل.

حْواش كوسا زرقا وبيضا، وبندورة زهرية حامضة، لوبِه وبامية وفصوليه، وعرانيس ذرة صفرا نشويها في المرمعون. الخبازات من دغاميش الله على البراد يشعلن النار في المواقد ويعالين الصّاج، رقّ العجين على المرقّات، كل واحدة إلها رقّة، رقات جهالية وروحانية، والمرقّات عزّامة، طلميات مع زيت ولبنة خضرا من الزكاكير المعلقة، الفطور خفيف، خبز رقيق مع تين، وعنب وبطيخ، والعَشا شلباطة، كوسا وبصل وفلفل وبندورة، وطنجرة مجدّرة مع لبن وسَلطة بندورة وزتون مالح مع نكهة الفيجن.

الملاّيات يحملن جْرار الفخار عن عين النوم والجرون، أباريق عكاوية ترشح يبرد فيها الماء بين بيوت الحبَق واللمّام.

مساطيح التين البياضي على الشّيح، يرشون عليها السمسم وتوضع في قُفران، والقفير من الحلْفا او ورق النخل من العراق، مكوّمة عند البياعين في صفد، الكبير يوسع الزغير، ويُركس القطين بالأرجل بعد ان يغطّى بشقفة قماش، حتى يصمد ولا يسوّس، والقطين اما قُرص او شريحة، ويقايضون العنب بقطّين من فرعم والصفصاف وحرفيش والجش وميرون، وهناك يقولون: كل مِن في تينَك يا تَيّان. الجمر بعد الخبزة للقهوة المرة، ودقة المهباج عزّامِة، الشباب مع الشراويل البيضا والسودا والدكّة الجهالية، يقحفون الجمر في المجراد ويضعونه في المنقل او النُقرة وحوله معاميل القهوة، الدّلة والابريق الوسطاني والمصبّ، فناجين كبيرة عليها شام من الشام، مع عُقُل من راغب الصفدي، كل عقال مع شراريب فوق الحطات البيضا والحمرا.

النسوان يحمين البندورة، حوشتين ثلاثة، والازرار تُصفّط على المسطبة حتى تستوي وتحمر، وتفقش بالأيدي، وتُعالى مية البندورة على المواقد، دِبس البندورة لأيام الشتوية، مرقة بندورة مع جْريش غليظ او رز – طبيخ عرس، مع لحم معزى او جاج، فقعيّة اللبن مع اللحم، كلها لأيام وزربات الشتا في كوانين.

يدملون الفَقوس والحروش في التراب وهو على أمّه حتى لا تستهدي عليه الوحوش، الواويات سُلطة على الفقّوس، ونحن الاولاد اكثر، نقِبّ البيت ويتكشف الثّمر، ونسرق، والنساء مع دعوات غاضبة:

  • يوكلو سمّ يهري مصارينُن
  • الله ريتُه ساري هاري

نقرش الفقوس ولا تهتري مصارينا.

يروّح الغاوي وجفته على كتفه وجوز حجل مكحّل على زناره، يدقون الحجل كُبّة على بلاطة الكبة، الدقماقة عزّامة مثل المهباج ومرقّة الخبز، شخاتير الكبة والقابولية على طبق السُّفرة المنقش والجيران والمعازيم يستكثرون بالخير.

  • عمار ان شاء الله
  • يكثّر خيرَك ويرمي غيرك. يقول الواحد عن عِشره.

البصل المقلوع يظل في الحاكورة ويُغطى بعشب الخضيرة، والدرّيس الاخضر والشحشطون.

ونحن نغني:

ضربتني في البلوطة، خلّت دمي زعْطوطة، في حواكير البصل، والبصل ينقط عسل، دخلَك يا سيدي حسن، حمزة طابخة رقيقة.

ونلعب إحنا والبنيّات: قريمشي يا مْنِيمشي، يا حبّات دغيمشِه، بعثتني ستّي العجوز، أجيب كوز البصل، وقع مني وانكسر، حَلّفت لتعلّقني في الشجر، والشجر ملان كبوش، حِبي إيدِك يا عروس، يا ام الذهب والدبّوس، فِر يا حمام.

ونحرس ان تدقم اصابعنا في اصابع البنات، وأيدنا ممدودة على الارض. كل واحد يعدد الكلمات في دوره ويدقم إصبعه على كل الاصابع على الارض..

الجاج سارح في الحواكير، على الدروب والبيادر، يتفعفل على المزابل، ويبيض في الخُمّ، باب كل خم مشطّبة تطول بها البيض من جورة الرماد، والديوك تتقاتل والدم يرشل من العُرف، وزهر عُرف الديك احمر ومِحني مثل عُرف الديك.

الحمير تتمرمَغ بلذّة على المُرميغة بعد يوم عمل شاق، حطب وميّ وحراث.. و"رفيق" يقول:

عمّار الحيش، وحرّاث الهيش، ومعّاط الريش ما بصيروا من الناس. الحيش عن المشحَرة، والهيش عن الحمير، ومعاط الريش عن الصياد.

ضُمم الثوم الشامي تُعلق مع قلايد الفلفل وزُغدات الزّوفا.

ويبدأ زقّ الحطب والقرامي، حاجة البيت للخبز عشرين حملة حطب، تُلقح في كْديس، وأربعين لجن قرامي، قرامي سنديان ومَلّ وبطم، والشُعلة من الشيح اليابس والقشاقيش.

في توالي الصيف يبدأ سَلق القمح، بعد البيدر، قمح من الموسم الجديد، تقام موقدة خاصة للخلقينِة، في البلد عدد من الخلاقين، وهناك دور على الخلاقين، واكبر خلقينة خلقينة دار سْويد، وتُنشر البليلة على بلاطة الصفاية، وبعض سطوح الباطون، وعلى قياسات القش وحُصر الحلفا.

ونأكل البليلة مع ميّ وسكر، او نحمّص البليلة مع سكر، قلية قمح، وقلية حمص من الحمص الاخضر المفرك، أما الفول الاخضر فيشعط ويُعمل منه – بُشميط، وعندما يفرك القمح، نعمل منه ضُمما ونشعطه على البلان واللهب الخفيف ليصير فْريك، حب اخضر مع مشحات سود.

وللبلاّن الكثير من الفوائد، تُغطى بهم مساكب البندورة، حتى لا يتفعفل فيها الجاج، ولعمل الفريك والقلية، ونغني:

حُوحو يا برْدي، عودِة حطب ما عِندي، عندي شقفة بلانه، بتحرق راس الحمامة.

وهناك على كل بيدر – بلانة – لضَبّ البيدر، القمح والشعير والقطاني عن دواير العرَمِة، فالمذراية لا تحكر هذا الباقي من القصَل والحَب.

أكلة الهطليّة طيبة مع "خبز نِشا" على جاروشة الحجر الاسود، يجرشون القمح، حتى ينعم مثل "الصرصيرِة، ورغفان جريش القمح الناعم – ضيقة – مثل رغفان خبز الذرة، والهطلية من النشا والسكر والحليب، توضع في معاجن الفخار الاحمر الضيقة وهي ترجّ متماسكة، على الجاروشة يجتمع النساء – يجرشن القمح والفول والحمص والعدس، يترايحن وهن يمسكن مسكة الجاروشة من الخشب الماكن، ويُدرن الطبقة الفوقا الثقيلة على الطبقة التحتا الثابتة، وللجَرش هدير خشن عميق.

ومجموعة النسوان يخضنَ في الحديث: إشي كِش إشي تيعة، كلام بنحكى وكلام ما بنحكى. طبقة عا طبقة، والطبقتين معلّقة، والسياسابانِه دايرِه والعبِد في ايدُه مطرقة، ويُطرين حكي رزالِه ويتضاربن على الاكتاف وضحكات تشلع القلب، نشوي عرانيس الذرة على النار في الموقدة، ندملها في المرمعون، نكتّ عنها الرماد، أما الخُصل الشعرية الخضراء والبنية على العرانيس، فنعمل منها شوارب ولِحى على وجوهنا، والدواب تهرس العرنوس المنظّف المقحور من الحَب، بصوت لذيذ.

وكم أحب صوت الجاروشة والمطحنة، والبقر والمعزى والجمال وهي تجتر على مهلها، والقُرقة وهي تقرق للصيصان بعد ان ربخت وفقّست، وتبدأ الواحدة تعرف الفرخة من الديك، وتعاين ديك الترباية للمستقبل، الأحمر او الرّزي، والقرقة تهوش علينا اذا قدّمنا على الصوصان وكذلك على القطط، ورؤوس الصغار تطل من تحت اجنحة الأم، جْناح الإم بلِم، وهي تهجم بشراسة على الدجاج الذي يقترب من هذا الفوج الجديد، وحتى على الديك الذي يهرب مخذولا، ومع ذلك نقول: مثل القُرقة حِنيّه بلا دريّه فكأن أنثى الطير يجب ان تكون مرضعة مع درّ، وهي لا تشبع والصغار يلتقطون الحَب والفضلات.

أما فراخ العصافير والحمام فتظل تمد رؤوسها، ومناقيرها الطريّة مفتوحة بنَهم حتى تزقّها الأم.

يأتي الوقت وتُطلِّق القرقة فراخها، وحتى تغرّهم، وتنقدهم بقسوة بعد ان كبروا، وصاروا اصحاء وليس كصوص تشارين المعلوَس – يوكُل وبنين.

(يتبع الموسم في الخريف – تشارين)

 

كلام الصورة: عندما يفرك القمح، نعمل منه ضُمما ونشعطه على البلان واللهب الخفيف ليصير فْريك، حب اخضر مع مشحات سود

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب