news-details

الوطنية والمواطنة (8) رؤيا لتجديد المشروع السياسي للفلسطينيين في إسرائيل| أيمن عودة

 

تجديد المشروع الثقافي

نظرت إلى صورة أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسرائيلي في كتابيْ المؤتمريْن التاسع عشر والعشرين المنعقديْن في ثمانينات القرن المنصرم، فوجدت أمرًا لافتًا وهو أن القيادة السياسية الأولى بامتياز للمواطنين العرب هي القيادة الثقافية الأولى بامتياز أيضًا.

في ذلك الحين، حيث لم يكن محاضرون في الجامعات ولا مؤسسات مجتمع مدني ولا محلّلون بوسائل الإعلام المركزية، كنت تجد في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المفكرين مثل إميل توما وصليبا خميس والأدباء البارزين مثل إميل حبيبي، محمد علي طه ومحمد نفاع، والشعراء المطبوعين مثل سميح القاسم، توفيق زيّاد وسالم جبران، وسبقهم محمود درويش عضو الحزب الشيوعي الذي غادر البلاد. وتجد المساهمين الجادّين بالمسائل الفكرية والثقافية مثل إبراهيم مالك، جمال موسى، علي عاشور، نمر مرقس وزاهي كركبي. هؤلاء كانوا قيادة الشعب المركزية بالبُعديْن السياسي والثقافي في آن واحد.

أدبيات الحزب الشيوعي مثل الاتحاد، الجديد، الدرب والغد والتقدّم تميّزت بالربط بين الفكري، السياسي، الثقافي، اللغوي والفنّي. هذا إلى جانب عشرات إصدارات الكتب من شعر وأدب وفكر وتجارب ذاتية، وكذلك النشاطات القُطرية كمهرجانات الشعر، الصحافة والثقافة عمومًا. فلم يكن مهرجان سياسي لا يختتمه شاعر أو عرض فنّي.

في مختلف قرانا يذكرون دور نوادي الحزب في التثقيف، وبكل نادٍ مكتبة جدية للمطالعة في زمن ندرت به الكتب، وهناك الندوات مع الأدباء والشعراء وأصحاب القضايا السياسية الاستراتيجية أو الملحّة. يذكرون القادة المحليين وهم يزورونهم في البيت ويُقنعون، ويذكرون الشباب يَقرعون الباب لإيصال مجلّة الغد. بدأت الثقافة صنو السياسة ورافقتها كتوأمين سياميين، وفي القضايا الاجتماعية شقّت الثقافة الطريق أمام السياسيين، كتعريف جفين ويليامز بأنّ تحوّل مشروع إلى مهيمن، يعني: "عندما تتغلغل مفاهيمه وطريقته بترتيب الواقع وفهمه إلى جميع مستويات المجتمع: إلى مؤسساته، إلى حياة الأفراد، إلى الأخلاق، إلى العادات، إلى الدين وإلى جميع تجليات الثقافة".

***

الحركة الوحيدة التي نافست الحزب الشيوعي بمشروع ثقافيّ كانت الحركة الإسلامية منذ نشوئها، خاصة الجناح الشماليّ منذ أواسط التسعينيات حتى حظره. ويمكن القول إن حزب التجمع شكّل حالة أولية للمنافسة في سنواته الخمس الأولى، خاصة مع رفده بمثقفين ومحاضري جامعات ومديري جمعيات، قبل أن ينفضّوا عنه تباعًا بعد عقدٍ من تأسيسه.

هذا الدور الثقافي ضعيف اليوم، الأحزاب في هبوط تأثيريّ، مقابل تطوّر شرائح من الطبقة الوسطى في المجالات الفكرية، الثقافية، الأكاديمية والإعلامية. كان الحزب السياسي قوّة الجذب لهؤلاء، وبات اليوم أقلّ جاذبية. لهذا فبالإضافة للمشروع السياسي، يجب أن يكون في صلب التنظيم السياسي بُعدٌ ثقافيٌ كجزء عضويّ من البُعد السياسي، لتعزيز فكره، وشقّ الطريق أمام المشروع السياسي وتثبيته، وأن يكون جاذبًا لشرائح يساهم بتطويرها وتساهم بتطويره.

***

تلقّت الأيديولوجيات ضربة عالمية منذ انهيار المنظومة الاشتراكية. تأثّر اليسار في العالم وفي بلادنا من هذا الانهيار، وتلقّى البعد القومي العربي ضربة قاسية في عدوان 1967، كامب ديفيد 1978، حرب الخليج 1990، وفي الربيع العربي وآخرها سلسلة مشاريع التطبيع مع إسرائيل. الحركات الإسلامية في العالم العربي التي خرجت من عباءتها حركات تكفيرية تلقّت ضربة في النصف الثاني من الربيع العربي. وحُصر المدّ الوطني الفلسطيني في الضفة والقطاع ضمن نموذجين منقسميْن ومأزوميْن. وكذلك في داخل إسرائيل، فإن الأقلية القومية العربية التي طالما تأثرت من الامتدادات اليسارية، القومية، الإسلامية والوطنية، تحوّلت قطاعات واسعة منها إلى مجتمع استهلاكي، وللدقة إلى هامش المجتمع الاستهلاكي الإسرائيلي. وبأفول البُنى الاجتماعية التقليدية والهرمية ودون ظهور بديل مدني، أصبح هؤلاء المواطنون دون مرجعية تقليدية أو مدنية، فنشأت داخل هذا الفراغ الجريمة التي وصلت إلى أعلى النِّسب في العالم، ممّا أجّل الكثير من القضايا الرؤيوية وطنيًا واجتماعيًا، وأضحى موضوع مناهضة العنف والجريمة القضية الأولى طيلة العقد الأخير. علاوة على ذلك، تحت ذريعة أولوية مناهضة العنف والجريمة بدأ البعض بتسويغ خفض السقف السياسي لدرجة تبرير التحالف مع الحكومة مهما كانت يمينية، بادعاء ضرورة التحالف معها للانتصار على الجريمة.

***

 

اليسار في القيادة

 

لا يستطيع اليسار أن يكون قائدًا مركزيًا، خاصة في السياق الشرقي والعربي، إلا بالتصاقه الحقيقي بالناس وقضاياهم الحقيقية اليومية والاستراتيجية، والعمل المنهجي بينهم على تعميق الوعي والتثقيف وبناء مساحات من الهيمنة الثقافية، وبهذا فهو مُطالب ثقافيًا أكثر من غيره لأن فكره مركّب، أداته الحجّة والموقف، وهو الأبعد عن استغلال المشاعر الدينية والقومية الأولية.

اليسار في العالم العربي، ومنه الشيوعيون خصوصًا، لم يقعوا ضحية الأنظمة اليمينية كأنظمة الخليج العربي بكل مقدراته وحسب، بل وقعوا ضحية حتى للأنظمة القومية والتقدمية. وواحدة من تراجيديات الشيوعيين أنهم اتخذوا مواقف تخالف رأي ومشاعر الغالبية الساحقة من الجماهير في أكثر القضايا مفصلية ووجدانية في تاريخ الشعوب العربية، مثل قرار التقسيم (1947) أو الوحدة المصرية السورية (1958-1961) وهي محاولة الوحدة العربية الأولى بعد مئات السنين، ولكن رغم تبيّن جدارة (وصحّة، كما أعتقد) موقف الشيوعيين، ظلّ عدم الارتياح الشعبي تجاههم قائمًا حتى حين باتت الغالبية ترضى بأقلّ من التقسيم، أو تدرك خطر التسرّع وعدم الأخذ بالمحاذير يوم تأسيس الوحدة.

تصريح المفكر الماركسي د. سمير أمين بأن الشيوعيين العرب "ترجموا الماركسية ولم يعرّبوها" يظلم تجارب عديدة حاولت إيجاد معادلات ملائمة للسياق الاقتصادي الاجتماعي الثقافي وحتى الديني. ولكنّ الحرفية لدى شرائح واسعة من شيوعيي العالم العربي صحيحة وبعيدة عن الناس. وواحدة من المفارقات أنّ من يدافع عن أوسع الطبقات ويتحدث باسم النظريات الكبرى والمصطلحات الكبيرة هو من يدافع عن أبسط قضايا الفقراء والطبقة العاملة المسحوقة. ووجدت تراجيديا شخصية ورمزية من خلال كلام محمود أمين العالم، شيخ الشيوعيين المصريين، عن جلّاده في السجون المصرية، إبّان الناصرية، حيث كان الجلّاد يلعن نظّارات العالِم معتبرًا إياها من رموز البرجوازية، عدوّه الطبقي.

وإذا كان وجود المعسكر الاشتراكي ومواصلة التجربة وبثّ الأمل، إلى جانب المواقف السياسية المناصرة للشعوب والوقوف العسكري والمادي والثقافي مع الشعوب المقهورة شكل في السابق ظهيرًا للأحزاب الشيوعية العربية، فإن هذا كلّه قد انهار اليوم.

لكن في بلادنا اختلف الأمر في سياق المواطنين العرب، فعلى المستوى الوطني كان دور الشيوعيين ومن ثمّ الجبهة مثابرًا في قيادة المواطنين العرب، أحايين كانت القيادة بمفهوم حصول الجبهة على القوة الأولى انتخابيًا، ولكن ما لا يقلّ أهمية أن المعادلات الوطنية التي وضعها الشيوعيون لا زالت تشكل التيار المهيمن سياسيًا، حتى اليوم.

سمحت السلطة الحاكمة بنشاط الشيوعيين ومنعته في آن. سمحت رسميًا وربما ساعد في ذلك أن الإطار يهوديّ عربي مشترك لدرجة أنه طيلة أربعين سنة كان يهوديّ في قيادة القوائم الانتخابية المختلفة. وحتى المكتب السياسي واللجنة المركزية كانا بأغلبية يهودية، وهنا يقول إميل حبيبي: "الفضل يعود إلى السياسة الحكيمة والصادقة التي ننتهجها، سياسة أصبحت ممكنة بفضل النضال الديمقراطي المشترك لليهود والعرب ضد العدوان والاضطهاد القومي..". كذلك من الوارد أن الدولة أخذت بعين الاعتبار العلاقة مع الاتحاد السوفييتي في المراحل الأولى لإقامة الدولة قبل أن تسوء وتصل إلى حدّ قطيعة.

لكن السلطة الحاكمة لاحقت الشيوعيين بمنهجية، وعرقلت عملهم باستمرار وقسوة، وعملت على تقوية مناوئيهم داخل المجتمع العربي. ولكن حتى مع ظهور حركات وطنية منذ الستينيات، وحتى قوائم برلمانية منذ الثمانينيات، وحتى بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، بقيت قوة الجبهة هي الأكثر مركزية.

أعزو ذلك بالأساس إلى الطرح السياسي الصحيح الأكثر ملاءمة لحالة المواطنين العرب في إسرائيل، وإلى الرصيد التاريخي الكبير الذي لا يشكّل مصدر ثقة وحسب وإنما جمَع عشرات آلاف المؤيدين التاريخيين، وهذه قاعدة أساسية غير موجودة لدى أي حزب آخر. ويكمن السبب أيضًا في بناء الجبهة التي شكّلت عنوانًا لفئات عريضة، ولكنها شكّلت أيضًا درعًا أوليًا عند انهيار المعسكر الاشتراكي. كذلك فانتخابات السلطات المحلية ربطت وشائج الانتماء الجبهوي في عشرات التجمعات السكانية (وخلقت أيضًا خصومات مؤسفة يجب تجاوزها كما اقترح في الفصل الذي يعنى بشؤون الانتخابات المحليّة ضمن هذه الأطروحة).

ومع ذلك فالجبهة تلقّت ضربة قاسية بانهيار المعسكر الاشتراكي، وضربات متتالية أثر الخصومات السياسية المستمرة في انتخابات السلطات المحلية، وضربة عميقة بخسارة بلدية الناصرة.

الانتخابات البرلمانية الـ 24 هامة وإن كانت تداعياتها لم تتحدّد بعد، وهي متعلقة أيضًا بالأداء الجبهوي. ولكن الأخطر فيها ليس النتيجة، فجمهور الجبهة في الانتخابات الأخيرة بقي ثابتًا، ولكن تركيبة تحالف القائمة المشتركة لم يفِ الجبهة حقها. عام 1999 حصلت الجبهة لوحدها على ثلاثة مقاعد بينما الموحدة بتحالف ثلاثيّ حصلت على خمسة مقاعد. ولكنّ القضية الأخطر هي نهج الموحدة المستعد للذهاب مع اليمين المتمثل بقائده بنيامين نتنياهو (بل هو خيارها الأوّل) أو مع قائد حزب الاستيطان نفتالي بينت، والأهم، طروحاتها بمعالجة قضايا مجتمعنا بمعزل عن السياق السياسي. هنا تكمن الخطورة الأساسية. في هذه الحال تضع الموحدة ذاتها في القبضة الأيديولوجية للصهيونية التي أرادت الوطن القومي والحقوق القومية حصرًا لليهود، بينما للتجمعات السكانية من "غير اليهود"، كالتعبير الصهيوني، حقوقًا مدنية ودينية ومادية متفرّقة لا غير.

إنّ على اليسار، وأقصد تحديدًا الحزب الشيوعي والجبهة، الانتباه بحرص إلى ديناميكية من ثلاثة أبعاد: الابتعاد عن الطبقات المستضعفة المُفقّرة، وعن مجموعات هوياتية داخل المجتمع العربي، واستغلال الدين لإبعاد شرائح في صُلبها الشريحتين المذكورتين أعلاه. ويمكن إضافة عشرات الآلاف من "خصوم" الجبهة نتيجة لعداء تاريخي أو انتخابات السلطات المحلية، (حول هذه القضية خصصت ورقة كاملة ضمن هذه الأطروحة).

خطورة ما أذكره هو أن يُصبح التصويت حسب الهوية الفرعية وليس وفقًا للقناعات الحرة، كما يحدث لدى شرائح واسعة من الشعب اليهودي حيث يصوّت الشرقيون لحزب الليكود حتى لو واصل ظلمهم منذ عشرات السنين التي احتلّ الحكم فيها. بهذا الصدد كانت الانتخابات الأخيرة فارقة، وسبقتها انتخابات بلدية الناصرة التي حملت ذات الدلالات.

من الأمور التي تسجّل للحزب الشيوعي، وبالتأكيد للجبهة، اعتدالهما في المسألة الدينية، فلم يسجّل تاريخهما إساءة فظة للدين. وكذلك في صفوف الجبهويين وحتى الحزبيين العديد من الرفاق الذين يؤمّون المساجد والكنائس والخلوات والعديدون اعتمروا وحجّوا، وهذا واقع يدخل في باب الخيارات الشخصية ويحظى بقبول واحترام جبهوي وحزبيّ.

ولكن من الخطأ أن لا يتسلم جبهويون مواقع دينية صرفة، مثل لجان الحج والعمرة ومواقع دينية مؤثرة، وكانها مسألة مفروغ منها. هذا خطأ. فالجبهة إطار تعددي أيديولوجيًا يتفق على النقاط الثماني (السلام، المساواة، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، مساواة المرأة، الحريات الشخصية، نزع أسلحة الدمار الشامل وجودة البيئة) وفيها من كل فئات الشعب، يشمل المتدينين الوطنيين. هذا الفراغ الذي تركته الجبهة هنا، تستفرد به جماعات الإسلام السياسي وتسيّس الدين وتحزّبه وتحتكر الحديث باسمه، وهو الأمر العميق في وجدان الناس، خاصة الفئات الشعبية.

 

اليسار وهيمنة المسائل الاجتماعية

 

تثير القضايا الاجتماعية خلافات مجتمعية حادة وحساسة، وأهمية دور المثقفين في هذه الحالة هي بناء مناخ ثقافي داعم للأفكار التي يجد القائد السياسي القطري أو المحلّي، المحكوم بتوازنات مجتمعية وأحيانًا انتخابية، صعوبة في طرح القضايا بنفس الحدة وحتى بدرجة الأوليات التي يطرحها مثقف أو فنان. دور المثقف هنا هو خلق المناخ، أن يمهّد الطريق، ولكن واجب القائد السياسي أن يحميه ويحمي طرحه، وهنا الفرق بين براغماتية القائد وبين انتهازيته، فالقائد الوطني التقدمي قد يكون براغماتيا متوازنًا ويعتمد التغييرات الكمية التي تؤدي إلى تغيّر نوعي، وقد تكون تغييرات كمية بطيئة ولكن من الضرورة أن تكون متقدمة دائمة.

مطلع التسعينيات رفع شباب مثقف ونساء تقدّميات موقفًا صلبًا وشجاعًا ضد القتل على خلفية ما يُسمى "شرف العائلة". تعرّضوا لاعتداءات أحيانًا حين احتجوا بمظاهرات. القيادة التقليدية رفضت طرحهم بحدّة واعتبرته هادمًا للأخلاق المجتمعية. القيادة الوطنية دافعت عنهم، ولكنها لم تكن بحدّة وأولوية الطرح ومثابرته كما لدى الشباب والحركات النسوية. ولنتمعّن، لم يمضِ عقد وعقدان حتى أصبحت القيادة التقليدية تؤيد موقف الشباب وإن تذمّرت همسًا، أما القيادة الوطنية فأصبح الموضوع لديها حادًا ومباشرًا، وصارت تقوم مشاريع التوعية ضد هذه الجريمة المروّعة والأشبه بالطقس الوثني للقبيلة.

إن التفاف المثقفين، الأكاديميين، الأدباء، الشعراء، الفنانين، المسرحيين وغيرهم حول إطار سياسي يعبّر عن آرائهم الوطنية والتقدمية بخطوطها العريضة ولكن بمثابرة، ويخلق لهم منصّات ثقافية مثل المكتبات، المسارح، الإذاعة والصحف وغيرها، وجمهور مستهلك للثقافة، ويحتضن ويحمي ويشجّع - هو الذي يبني المشروع الثقافي التقدمي الذي يؤسّس وعيًا جماهيريًا يشكّل بدوره بيئة داعمة للفكر السياسي والتقدمي للتنظيم السياسي.

 

اليسار والطرح المركب

 

في العام 2011 شاركت في مؤتمر صحفي إلى جانب رئيس حركة سياسية مركزية، وجّه حديثه لوسائل الإعلام بقوله: "المؤسسة الإسرائيلية لن تكون قائمة بعد العام 2020"، وعُمم التصريح عنوانًا مركزيًا في وسائل الإعلام. في حينه كتبت مقالا في "الاتحاد"[1] حول التصريح، وتساءلت إن كان التصريح عِلميًا ومبنيًّا على أُسس وبيّنات؟ وهل هذا الكلام يحفّز على المزيد من النضال أم أنه يجعل الأمور قدرية ناجزة ولا حاجة بالتالي للقيام بفعل ذاتي؟ ومن هو المستفيد من فضح هذه الخطة العملية جدًا والفعّالة جدًا إلى درجة أنها ستؤتي أُكلها المتخم بعد تسع سنوات فقط؟!  

بعد كتابة المقال ضمرت، إن بقينا أحياء، أن أكتب مقالا في العام 2020. ولكن بسبب ملاحقة المؤسسة الحاكمة لهذا الشخص، رئيس هذه الحركة، لم أكتب المقال حيث أنّ المهمة الأساسية الآن الوقوف إلى جانبه ضد هذا الظلم.

برزت في السنوات الأخيرة مصطلحات في بيانات الهيئات التمثيلية للمواطنين العرب، نحو "الداخل الفلسطيني". إحدى الإشكاليات المركزية بهذه اللغة أنها مواربة، وهي تُستعمل فقط باللغة العربية، أما مستعملها فلا يقول للإعلام العبري "הפנים הפלסטיני". أو أن تُحيّي الهيئات التمثيلية الشباب لعدم رضوخهم للـ"أسرلة". هذه ليست لُغة مواطنة، وإنما لغة شعب واقع تحت احتلال دولة إسرائيل، أو شعب يُريد عزل ذاته عن المواطنة، أو لغة الدولة الواحدة. بينما في حالة دعم حلّ دولة إلى جانب دولة، فالصحيح أن تكون ضد الصهينة وضد تشويه الانتماء القومي للجيل الشاب، أما الأسرلة ففيها أبعاد مدنية مثل العمل، التعليم، الصحة، المؤسسات الرسمية، وأن تكون جزءًا من المجتمع في إسرائيل، مدنيًا بصفتك مواطن، والمساهمة في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولكنّ بكون إسرائيل مؤسسة محكومة بإيديولوجيا عرقية إقصائية أصلا، فللأسرلة أبعاد صهيونية مثل الهيمنة الإيديولوجية وشعارات الدولة والخدمة في الجيش. والصحيح أن يناهض المواطن العربي الفلسطيني هذه الأبعاد وأن يناهض صهينة الشباب وتشويه انتمائهم، لا الأسرلة برمتّها بأبعادها الحياتية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها كلها. أصلا، المواطن العربي داخل إسرائيل لا يستطيع، حتى لو أراد، الخروج السياسي عن الأسرلة (بخلاف الصهينة) لأنها تعنى الخروج عن المواطنة وعن المجتمع في إسرائيل، وهو أمر ليس صحيحًا سياسيًا (بالتأكيد في حالة حلّ دولة إلى جانب دولة). وهو غير صحيح واقعيًا أيضًا حيث هناك مكتسبات وتفاعل على مستوى المواطنة التي ما زالت منقوصة ومشوّهة.

كذلك، نقرأ في بيان آخر للهيئات التمثيلية أنها تحيّي هذا "الأسير" أو ذاك، وتوجد لجنة الحريات لـ"أسرى الداخل". الأسير لُغويًا هو من وقع أسيرًا في يد العدوّ، من أُخذ في الحرب وقُبض عليه. بينما التعريف التاريخي هو سجناء الحرية، كعنوان ديوان للشاعر توفيق زيّاد، أو السجناء السياسيون كما عرّفهم الناس عشرات السنين، وذلك اعتراضًا على التعريف الشاباكي "السجناء الأمنيين". ربما أن ما سهّل استعمال كلمة أسير بدلا من سجين رأي أو حرية أو سجين سياسي، هو تطابق كلمة أسير مع الكلمة العبرية אסיר، ولكن ذات العربي الذي يستعمل كلمة أسير لا يقول عنهم أسرى باللغة العبرية שבויים بل سجناء سياسيين אסירים פוליטיים، أي مرة أخرى نصطدم بلغة للعرب وأخرى لليهود. وأحيانًا أسمع خطابًا حماسيًا لقائد سياسي يقول: نحن نواجه إسرائيل! ونقول لإسرائيل! وعلى إسرائيل أن تعلم! بينما لغة المواطنة هي: نحن نواجه المؤسسة الحاكمة، وعلى المؤسسة الحاكمة أن تعلم. هذه اللغة التي ترى إسرائيل بكل بنيتها، بأكاديمييها وبرلمانها وقضاتها والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية كلها فيها كتلة صمّاء واحدة ومعادية، ناهيك أنها ليست لغة مواطنة، فهي تعزل المواطنين العرب عن أي تفاعل وعن أي حليف سواءً كان حليفًا شاملاً أو لقضية عينية، وكذلك تعزل قوة المواطنين العرب الكمية والنوعية الضرورية لصالح القضايا الكبرى.

يحدث أن يسألك شاب متحمّس وكأنه اصطادك: هل أنت يسار فلسطيني أم يسار إسرائيلي؟ الحقيقة أنني من اليساريْن، البُعد اليساري الفلسطيني غير متفاعل يوميًا نتيجة للتواجد الفلسطيني الجغرافي والسياسي - وهذا ما اقترح تطويره بهذه الأطروحة من خلال مشروع المؤتمر الوطني الفلسطيني - أما الشق الآخر وهو "اليسار الإسرائيلي" فأنا جزء منه في العديد من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكنّني أختلف عن تيّاره المهيمن بشدّة وذلك بتميّزي القومي العربي الفلسطيني وكذلك بالبُعد الديمقراطي الصميمي المنافي للصهيونية والطروحات السياسية الحادة ضد الاحتلال ومن أجل المساواة القومية والمدنية، ناهيك عن الابعاد الاجتماعية والاقتصادية التقدميّة. من يريد ان يبحث عن أجوبة مبسّطة لواقعنا المركّب يكون جوابه أحاديّ البُعد لواقع متعدد الأبعاد، يحفظ شيئًا وتغيب عنه أشياء.

من شأن صاحب المواقف الباطلة أن يكون مواربًا، بينما من مصلحة صاحب الحق أن يكون واضحًا مع ذاته أولاً، مع شعبه ثم مع الشعب اليهودي، وفي كلّ الحالات أن يستعمل مواقف ومصطلحات واحدة، حيث أنّ الوضوح في صالحه هو بالذات.

المشروع الثقافيّ هام لكل أبناء شعبنا كما أسلفت واجتهدت كي أوضح، ولكنه هام بشكل استثنائي لليسار ومشروعه الاجتماعي، لأن أيديولوجية اليسار مركّبة وتعتمد العقل إذا نازع العاطفة، بخلاف اليمين الديني أو القومي اللذين من حصتهما المشاعر الأولية. وفي ظروفنا نحن حيث القضايا مركّبة سياسيا واقتصاديًا واجتماعيًا فهي بحاجة إلى أجوبة مركّبة، بحاجة إلى وعي وطنيّ، اجتماعي وطبقي (ونقدي!)، يمهّد له المشروع الثقافيّ ويرسّخه في الوعي المجتمعي.

 


[1] الاتحاد 29.4.2011.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب