news-details

بين الطّنطورة في فلسطين ومخيّم شتوتهوف في بولندا | د. إلياس زيدان

حدثان تربط بينهما حبال من الألم وحبال من الأمل. حدثٌ عن هناك في مخيّم "شتوتهوف" النّازيّ في بولندا، وحدثٌ عن هنا في الطّنطورة السّاحليّة الفلسطينيّة. هناك في ألمانيا تجري محاكمة ضدّ إيرمجارد فورشنر التي خدمت في مخيّم شتوتهوف بين السّنوات 1943-1945.[1] وهنا صدر الفيلم الوثائقيّ "طنطورة" للمخرج الإسرائيليّ ألون شفارتس الذي عُرِض مؤخّرًا في "مهرجان ساندانس السينمائيّ" في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.[2]

هنا في فلسطين ارتكبوا جرائم بحقّ أهلي في الطَّنطورة، وهناك في مخيّم شتوتهوف في بولندا ارتكبوا جرائم بحقّ إخوة لي في الإنسانيّة من اليهود والبولنديّين وغيرهم.

هنا في الطَّنطورة ارتكبوا جريمتهم الأولى سنة 1948، وهناك في مخيّم شتوتهوف ارتكبوا جريمتهم الأولى سنة 1939.

هناك في مخيّم شتوتهوف ارتكب النّازيّون والجيش النّازيّ جرائمهم ضدّ اليهود وغير اليهود، وهنا في الطَّنطورة ارتكب الجيش الإسرائيليّ جرائمه ضدّ أهلنا.

هناك لم يكن مخيّم شتوتهوف المكان الوحيد الذي ارتكب الجيش النّازيّ جرائمه ضدّ اليهود فيه، وهنا لم تكن الطَّنطورة المكان الوحيد الذي ارتكب فيه الجيش الإسرائيليّ والمليشيات الصّهيونيّة جرائمهم ضدّ شعبنا فيه.  

عن هناك وعن هنا كتب مبدعونا من الأدباء. عن هناك ذَكَّرنا غسّان كنفاني في رائعته (روايته) "عائد إلى حيفا"[3] كيف أنّ والد ميريام اليهوديّة قد قُتِلَ على أيدي النّازيّين في مخيّم "أوشفيتس"، وكيف أنّ ميريام كانت شاهدة بأمّ عينها على إرداء أخيها ابن العاشرة قتيلًا على أيدي الجنود النازيّين. هل تذكرونها؟ إنّها ميريام وزوجها اللذان أُجبِرا على "الحصول" على "خلدون" كجزءٍ من صفقة مع الوكالة اليهودية التي أعطتهم بيت سعيد وصفيّة في الحلّيصة في حيفا. ففي خضمّ المعارك في حيفا سنة 1948 اضطرّ الزّوجان سعيد وصفيّة إلى النّزوح عن حيفا، شأنهما في ذلك شأن عشرات الآلاف من أهالي المدينة، ومن شدّة الخوف والهلع نسيا ابنهما خلدون هناك، وبذلك خسرا الحقّ في العودة والحقّ في البيت من وجهة نظر الدّولة الإسرائيليّة. 

وعن هنا ذكَّرتنا رضوى عاشور في رائعتها (روايتها) "الطَّنطورِيَّة"[4] بجرائم الجيش الإسرائيليّ ضدّ أهلنا في الطّنطورة سنة 1948. رضوى تذكّرنا برُقَيَّة الطّفلة الطَّنطوريَّة التي شهدت بأمّ عينها جرائم جنود الجيش الإسرائيليّ ضدّ أهلها وأهل قريتها وتهجير مَن بقي منهم على قيد الحياة لينتهي بها المطاف لاجئةً في صيدا بلبنان.

هناك في ألمانيا النّازيّة سادت أيديولوجيّة "تفوّق العرق"، وهنا سادت، ولا تزال، أيديولوجيّة "شعب الله المختار". هناك كانت اللاساميّة ضدّ اليهود حجرًا أساسًا في الأيديولوجيّة. وهنا كانت، ولا تزال، اللاساميّة ضدّ العرب الحجر الأساس في الأيديولوجيّة. هناك آمنَ النّازيّون بأنّ لا حقّ للأعراق "المنحطّة"، من وجهة نظرهم، وعلى رأسها اليهود، في الحياة على سطح الأرض، فشرعوا بعمليّات إبادة مُمَنْهجة ضدّ هؤلاء، راح ضحيّتها ملايين من البشر، ومن ضمنهم ستّة ملايين يهوديّ. وهنا آمنَ الصّهاينة بأنّ لا حقّ للفلسطينيّين على أرض فلسطين لأنّها من حقّهم هم بكونها "أرض إسرائيل". هنا شرعت مليشيات صهيونيّة – وبعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل شرع الجيش الإسرائيليّ – بعمليّة تطهير عرقيّ مُمَنْهجة هدفت إلى تهجير شعبنا الفلسطينيّ عن أرضه لغرض بناء الدّولة اليهوديّة. ولكي تنجح هذه السّياسة كان لا بدّ من ارتكاب العديد من المجازر بحقّ أهلنا، لدبّ الذعر في قلوب النّاس وإرغامهم على الرّحيل. وكانت الطّنطورة واحدة من تلك البلدات التي ارتكبوا فيها جرائمهم.

هناك لا يزال بعض النّازيّين الذين اقترفوا تلك الجرائم أو خدموا في تلك المخيّمات على قيد الحياة. وهنا لا يزال العديد من الجنود الإسرائيليّين وأعضاء المليشيات الصهيونيّة الذين اقترفوا الجرائم ضدّ أهلنا، أو كانوا شهودًا عليها، على قيد الحياة. هناك لا تزال إيرمجارد فورشنر التي خدمت في مخيّم شتوتهوف بين السّنوات 1943-1945 على قيد الحياة. وهنا لا يزال الجنود الإسرائيليّون عميتسور كوهن ويوسف دياموند وحاييم ليفين وآخرون على قيد الحياة. هناك لا تزال إيرمجارد فورشنر تُنكِر أنّها، كموظّفة في مخيّم شتوتهوف تحت أمرة أحد ضبّاط الـ "إس إس" كانت على دراية بارتكاب الجرائم ضدّ اليهود. أمّا هنا، وبعد إنكار دام عشرات السّنين، يعترف هؤلاء الجنود الإسرائيليّون بارتكاب تلك الجرائم في الطّنطورة. ففي شهادات الجنود الإسرائيليّين الذين شاركوا في احتلال الطّنطورة في شهر أيّار 1948 في الفيلم الوثائقيّ "طنطورة"، بانت الحقيقة التي كنّا نعرفها جيّدًا نحن العرب وكان يعرفها ويعترف بها بعض الإسرائيليّين. اعترف بعض هؤلاء الجنود أنّهم كانوا قتلة أو كانوا شهودًا على عمليّات القتل أو ساهموا في عمليّة إخفاء المجازر. في شهادته في فيلم "طنطورة" يقول الجنديّ الإسرائيليّ عميتسور كوهن: "أنا كنتُ قاتلًا. لم آخذ أسرى"، ويضيف: "لم أعدَّ. كان معي رشّاش من 250 رصاصة. لا أستطيع أن أعدّ".[5]

ولكن،

هناك في ألمانيا تَمْثُل إيرمجارد فورشنر ابنة الـ 96 سنة كمتّهمة بالمساعدة في ارتكاب جرائم حرب ضدّ اليهود في مخيّم شتوتهوف.[6] وهنا لا يزال عميتسور كوهن والجنود الإسرائيليّون الآخرون الذّين ارتكبوا مجازر الطّنطورة وغيرها من المجازر أحرارًا. هناك في ألمانيا ينظرون إلى إيرمجارد التي لم تشارك بنفسها في قتل اليهود في المخيّم على أنّها مجرمة حرب. وهنا في إسرائيل ينظرون إلى هؤلاء الجنود الإسرائيليّين الذين ارتكبوا المجازر ضدّ شعبنا كأبطال.  

هناك ممنوع وهنا ممنوع. نعم هناك في ألمانيا اعترفت الدّولة واعترف المجتمع بمسؤوليّاتهم عن المحرقة النّازيّة ضدّ اليهود. هناك ممنوع إنكار الكارثة/الهولوكوست التي ارتكبها النازيّون بحقّ اليهود. وهنا لا تزال الدّولة الإسرائيليّة ولا يزال المجتمع الإسرائيليّ بأغلبيّته العظمى يُنكِر النّكبة الفلسطينيّة والجرائم التي ارتكبوها، لا بل يُحَمّلوننا، نحن الفلسطينيّين، المسؤوليّة عن النّكبة. هناك تتكاتف جهود الحكومة والمحكمة والجامعة ومركز البحوث والإعلام لكشف الجرائم وتقديم المجرمين إلى المحكمة. وهنا تتكاتف جهود الحكومة والمحكمة والجامعة ومركز البحوث والإعلام لإخفاء الجرائم وشَرْعَنَتِها.

هناك انتهت أعمال الإبادة والأعمال الإجراميّة الأخرى مع انتهاء الحرب العالميّة الثّانية سنة 1945، مع أنّ أبعادها الهدّامة لا تزال ماثلة أمام العالم. هناك تحاول الدّولة الألمانيّة والمجتمع الألمانيّ التّكفير عن ذنوبهم ضدّ اليهود بشتّى الطّرق. وهنا لا تزال الجرائم قائمة، ومع مرور الوقت تأخذ أشكالًا مختلفة. هنا تَسنُّ إسرائيل شتّى القوانين لغرض منع عودة اللاجئين والمهجّرين – حتّى المهجّرين داخل الوطن – من أهلنا إلى ديارهم، كما تُسَنُّ القوانين وتُنسَج السّياسات لغرض طمس التّاريخ وذكرى النّكبة ولغرض الاستيلاء على ما تبقّى لنا من الأراضي.

نعود إلى رواية رضوى عاشور، فرُقَيَّة الطَّنطوريَّة كبرت في السنّ ولا تزال تعيش كلاجئة في صيدا. أمّا ابنُها حسن فيعيش وزوجته وأولاده في كندا. في يوم اللقاء بين الأهل من اللاجئين الفلسطينيّين في الطّرف اللبنانيّ من الحدود وبين "أهالينا في الداخل"، على طرفي السّلك الحدوديّ الشّائك، التقتْ رُقَيَّة بمريم ابنة العاشرة من الطّنطورة والتي تعيش في قرية الفريديس، ورغم من أنّ المسافة بين الفريديس والطنطورة لا تتعدّى "ضربة عصا" إلّا أنّ مريم وأهلها وجدّيها ما زالوا محرومين من العودة إلى طنطورتهم.

في ذلك اللقاء نفسه، بين الأحبّة من على طرفي السّلك الشّائك، تعاظمت مفاجأة رُقَيَّة إذ كان ابنها حسن وزوجته فاطمة وولداهما ميرا وأنيس في الطّرف الآخر من الأسلاك الشائكة – طرف الأهل في الدّاخل، طرف فلسطين. وكانت المفاجأة الأكبر أن كانت معهم مولودتهم الجديدة ابنة الأربعة شهور. نجح حسن، بمساعدة رَجُلٍ طويل القامة في إيصال الطّفلة إلى جدّتها على الطّرف اللبنانيّ من السّلك الشّائك. عندها يصيح حسن بصوتٍ عالٍ من الطّرف الآخر للسّلك إنّها "رُقَيَّة الصّغيرة". تتخبّط الجدّة "رُقَيَّة الكبيرة" بشأن الهديّة التي تليق بـ"رُقَيَّة الصّغيرة". كانت "رُقَيَّة الكبيرة" تحتفظ بغرضين ثمينين تخبّئهما في صدرها. كانت هناك حلية تحمل اسمًا، اسم الطّفلة، "رُقَيَّة". لكنّ الجدّة اختارت أن تهدي حفيدتها الشيء الآخر الغالي على قلبها، وتقول: "أرفع الحبل عن رقبتي. أضعه حول رقبة الصغيرة. أقَبِّلُ جبينها. أُعطيها للرجل الطويل فيُعيدها عبر السلك إلى حسن، فتأخذها أمّها منه. قلت بصوتٍ عالٍ: مفتاح دارنا يا حسن. هديّتي إلى رُقَيَّة الصّغيرة".[7]

أخالُ مريم تصل من الفريديس ورُقَيَّة الصّغيرة تصل من كندا فتمشي الشّابتان بيدين متشابكتين في مسيرة العودة إلى ميعار هذه السّنة، وكلّ منهما تحمل المفتاح... مفتاح البيت... مفتاح الحقّ... مفتاح العدل... مفتاح الأمل... مفتاح العودة... مفتاح الحياة.

 


[1]  أدرت، عوفر. (2021، 30 أيلول). ألمانيا: القبض على ابنة 96 عامًا مشتبهة بجرائم حرب نازيّة بعد هروبها من محاكمتها. هآرتس.

[2]  راز، آدم. (2022، 19 كانون الثّاني). هنا، في موقف سيّارات دور، يوجد قبر جماعيّ. هآرتس.  

[3]  كنفاني، غسان. (1970). عائد إلى حيفا. بيروت: دار العودة.

[4]  عاشور، رضوى. (2010). الطَّنْطورِيَّة: رواية. القاهرة: دار الشروق.

[5]  راز، آدم. مصدر سابق.   

[6]  أدرت، عوفر. مصدر سابق.

[7]  عاشور، رضوى. مصدر سابق. ص. 453.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب