news-details

جائحة (الكورونا) وعنزات خالتي زينب | عمر سعدي

لقد مرّ على انتشار وباء (الكورونا) هذه البليّة القاتلة الفظيعة من أربعة أشهر وفي إسرائيل ما يقارب الشهرين ونصف، أصابت أكثر من ثلاثة ملايين إنسان وأودت  بحياة ما يقارب 250 ألفا، ولم يسلم منها  قُطر أو بلد  في العالم. جاءت  هذه الجائحة، متحدّية العلماء والعلم، تحصد الأرواح بلا وازع من عقار ولا  رادع  من طبيب، أربعة أشهر ونيف والعالم يقف أمامها مشدوها  حائرًا ضعيفًا. تظهر هذه البلية  رغم بشاعتها وهي  تتسربل  بثوب العدل تفتك ولا فرق عندها بين غني أو فقير، بين صغير أو كبير بين قوي ّ أو ضعيف، بين رجل أو امرأة، الكلّ عندها  سواسية. وكان لا بدّ للدّول من اتخاذ الإجراءات الوقائية لضمان حياة الناس، بحيث كان جلّ ما اتفق عليه عالميًّا من إجراءات الحجر البيتي بمعنى آخر منع التجوّل.

وفي إسرائيل أعلنت السلطتان السياسية والصحيّة ضرورة الالتزام بالحجر البيتي ومنع التجول. استجبت لهذا القرار كباقي الناس خاصّة وأنني في خريف العمر وقالوا أنا وأمثالي أكثر الناس عرضة للهلاك. وللحظة، عند سماعي القرار، تناثرت ذاكرتي وعاد شريط سنة 1976 أمام ناظريّ،  فاستذكرت قرار منع التجول في قريتي الّذي فرضته السلطات حينذاك ونادت به في محاولة بائسة خسيسة، لإفشال الإضراب في الـ 30 من آذار في ذلك العالم، ففي حينه شددنا العزم على  كسر القرار الجائر ونهضنا نرفضه وعرّضنا أنفسنا لخطر الموت، فدهشت  وتساءلت مع نفسي لماذا لم نخف من الموت في حينه، بينما تجدنا نهابه ونخشاه الآن؟ وتحاشيا من خطر  الموت انصاع لقرار منع التجول والتزم البيت كالآخرين، وها قد مضى على التزامي شهر لم   أغادره وأنا في سأم مطلق وضجر قاهر يكاد يشعرني انني في سجن، مما يجعلني أفكر في السجن  الفعلي  وما فيه من سجناء، وخاصّة الأسرى والمعتقلين  الفلسطينيين وهم يقبعون في  غياهب السجون الاسرائيلية وما يلاقونه من أصناف التنكيل والتعذيب.

 اجتاحتني حيرة عارمة كيف يمكن أن املأ الفراغ المتبقي بعد مشاهدة التلفاز والمشي في فناء الدار واستخدام الجوال. فاهتديت إلى المطالعة ووجدت أنّ خير سبيل لقتل الفراغ القراءة، وخير جليس لي هو الكتاب، فعكفت على القراءة،  حتّى انتهيت من قراءة آخر كتاب كان بين يدي (على نهر بييدرا هناك جلست وبكيت  للكاتب البرازيلي باولو كويلو) ). فقررت الخروج من الغرفة إلى الهواء الطلق وجلست اتفيأ ظل شجرة الزنزلخت الخضراء الباسقة وارفة الظل، تداعبني  بقع الشمس البيضاء المتسربة من فجوات بين أغصان الشجرة لتمدني بفيتامين (د) الضروري لرفع منسوب المناعة، وأزهار الشجرة البنفسجية تتساقط وتعبق برائحة عطرة شذية تتمازج مع رائحة نوار أشجار الحمضيات البيضاء العذبة القريبة من مكان وجودي.

وفي هذه اللّحظات سرح خيالي وأرخيت له العنان فدخل في دهاليز الماضي، وراح ينبش مخزون ذاكرتي حتّى أطل أمامي طيف عنزات خالتي زينب جارتنا، وأهل الحارة كانوا يرددون دائما دار زينب، قطيع زينب، بقرات زينب، أولاد زينب، فكان اسمها طاغيًا ومهيمنًا، وهم يملكون قطيعًا يربو على مئتي رأس من الماعز. اعتادت والدتي أن تطلب مني وأنا طفل في الثامنة من عمري مرتين في الاسبوع، وعند سماع ثغاء القطيع وهو يدخل الصيرة (الحظيرة) أن أحمل طنجرة صغيرة تتّسع (تنكتين) للترين وتضع فيها القروش وتقول لي: روح عند خالتك اشتري حليب، وكنت أنّفذ الطلب برغبة فائقة وغبطة جامحة وكان يغشاني شعور أنها كانت تودّني، فعند وصولي الحظيرة كانت تندفع وتشرع ذراعيها وتضمّني إلى حضنها وتنهال عليّ بقبلاتها الحارة وتجرني إلى دست الحليب وتقول لو الله رزقني ولدًا مثلك! لكنه رزقني البنات، وعمّي عبد الله يحتلب العنزة هكذا كنت أناديه وتطلب مني أن ارتغي من  الدست فأمدّ اصبعي الشاهد وأغرف من الرغوة مرات  فأجدها لذيذة وعذبة.

 كان يتزامن طلب والدتي لشراء الحليب بعد مجيء عمو طه الّذي يجول القرية ويدخل البيوت التي تقتني الدجاج وتبيع البيض، وتزامن مجيئه هذه المرة وكانت الشمس قد أخذت طريقها إلى الغروب، جلس عمو طه على المصطبة وأخذ يعد البيضات التي أحضرتها والدتي  بالقبعة المجدولة من سيقان سنابل القمح، وهو رجل بشوش وخفيف الظّل وبعد أن انتهى من تعداد البيضات ووضعها في سلة واسعة من القصب صفراء اللون، لم يفته أن ينحي باللائمة على والدتي لأن عدد البيضات هذه المرة أقل من المرات السابقة، وهو يدري انه عند نفاد قروش ثمن البيضات يبتاع البيت من الدكان أغراضه من ملح وسكر وكاز للقنديل بالبيض. أحجمت والدتي عن الرد وهي امرأة أثقلها وزر الهموم وجعلتها عبوسة الوجه قاطبة، وهي وفي هذه الميزة لا تعدم أن تغمرنا بالحنان وكانت الأم الرؤوم،  فأثار كلامه غضبها وهيّج حنقها فاكتفت بردّ مقتضب فقالت: هات المصريات وأعطيني قفا ظهرك، فصمت عمو طه، خفض طرفه و مدّ يده إلى صدره وتناول كيسًا صغيرًا من القماش علق في رقبته وتدلّى إلى صدره ليخفيه على جسده تحت طية  القمباز الذي كان في تلك السّاعة ينضح بالعرق و تفوح منه رائحة عطنة.

نهضت والدتي وكان قد حان موعد وصول القطيع إلى الصيرة وعندما لم تسمع ثغاء الماعز ناولتني الطنجرة وفيها ثمن تنكتين حليب وقالت: روح شوف شو السيرة. رحت أقفز تارة وأحلج أخرى فرحًا حتى دخلت الصيرة فذهلت وأنا ارى بعض الماعز ممددة على الأرض بلا حراك ويعضها تتمرغ وتثغي.

 خرجت خالتي من العَقِد وقد كفكفت دموعها وزوجها يندب ويحوقل وهو يجلس القرفصاء وراحت تشاهد بألم نفوق العنزات وأنا أشاهد جمرات الحزن في عينيه وهو يمسح الدموع بطرف كوفيته، فأخذت تشد من أزره وتواسيه وتقول: هو أمر الله شو نقدر نعمل يا زلمة بالمال ولا بالعيال، فردّ بصوت متهدّج: راح من العنزات يا زينب مبارح واليوم أكثر من خمسين راس والليل جاي وطويل والحبل على الجرار... رايح يقتل كل المعيز في البلد والبلاد وقالوا وما فش الو دوا.

 كنت أقف خائفًا لهول ما اشاهد نفوق المعز وندب خالتي وبكاء عمو عبد الله جاءت خالتي وأمسكت يدي وقالت بصوت خفيض والدموع تسح من عينيها: ما فش حليب اليوم ولا بكرة خلص يا خالتي يا حبيبي. فعدت أدراجي خالي الوفاض، استيقظت من شرودي والتلفاز ينقل خبرًا مفاده أن حصاد (الكورونا)  لا زال في أوجه وهو في تصاعد وفي ازدياد ولا أمل من علاج قريب، وأمر الحجر لا زال ساري المفعول، وإلى أجل غير مسمى، فقلت في نفسي ما أشبه الأمس البعيد باليوم، حينها حصد وباء الصفري الماعز من الحيوانات ودار الزمان ليحصد وباء (الكورونا) اليوم البشر .

(عرابة)

 

//صورة قديمة، غير محددة التاريخ، لعرّابة البطوف

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب