من أزقتها العتيقة، خرجت جحافل الجيوش العربية والإسلامية من قبل، من ثغور حلب، خرج القائد صلاح الدين في رحلته نحو القدس، من أجل تطهير الأرض العربية من دنس الاحتلال الغاشم، فأرض سوريا كانت بداية العزة والانتماء الحر الأصيل، ولن تكون النهاية، لأنها لا زالت راية الدفاع عن قدسية حياة هذه الأمة وكرامتها.
ومن كان أصدق من كاتبنا الراحل الخالد حنا مينة في مواكبة تاريخ ونضالات الشعب السوري، منذ عملية الاحتلال التركي للواء إسكندرون، وعملية ترحيل أهلها السوريين من الوطن والتشرد في بقاع الأرض.
واكب الراحل حنا مينا تفاصيل الجزء الأساسي خلال فترة الاحتلال الفرنسي وكل ما صاحب هذا الاحتلال من موبقات وأعمال بربرية كاتبنا الراحل، ووثقها عبر مسيرة طويلة من الأعمال الروائية الخالدة، ابرزها هنا" المصابيح الزرق".
بكل بساطة، رواية تصور حياة مجموعة من الناس البسطاء أيام الحرب العالمية الثانية، ومن خلالها حياة اللاذقية وسوريا ككل، بما معناه، تصوير الجو المحموم الذي كانت تعيشه سوريا أيام هذه الحرب.
إذا صح التعبير أن تكون لكل قصة عقدة، فعقدة المصابيح الزرق هي أزمة الحرب! ولكن ليست هذه هي القصة بالفعل، والأصح أن نقول بأن هذه هي الفكرة، أما القصة فهي شيء آخر، إنها تصوير حي لأثر الحرب على مجموعة من الناس، هؤلاء الناس الذين يضطربون في ثنيات الكتاب، كيف يحيون؟ وكيف يعامل بعضهم بعضا؟ وكيف يكافحون في سبيل لقمة العيش؟ وكيف تتقاطع مصالحهم الخاصة مع مصالح أمتهم؟ وكيف يفسرون معنى النضال ومقاومة الظلم؟
إنها بالأصح قصة حياة مجموعة من الناس أخذت أحداثها في فترة تاريخية معينة، فإذا كان الحافز الأول هو الحديث، فكيف تغير الحرب حياة الناس وتسوق حياتهم في مجار جديدة غير طبيعية؟ فإن الهدف بعد أن بدأت الفكرة يصبح عملا ونماذج لأبطال وشخصيات حية متحركة، وقد خرج من يد المؤلف ليصبح نوعا من بانوراما "المنظر العام" لحياة صادقة صحيحة.
إن الأشخاص أحياء لدرجة مذهلة، وخاصة جريس المختار والحلبي، والصفتلي والقندلفت وأبو فارس، هؤلاء وهم أكثر ما يظهرهم لنا الكاتب في الشارع، والدكان في عرض الطريق، حتى يتساءل من تعوّد قراءة نوع اخر من الروايات، أمن الممكن أن ينتقى أمثال هؤلاء الناس الذين نراهم كثيرا ليكونوا أبطال رواية؟ ما المدهش والمميز بهم؟!
ثمة أشياء كثيرة جديرة بأن تقال في الحديث عن هذه الرواية، ولكني ومن خلال هذه الأحرف أضع بقعة ضوء بسيطة على هذا الإبداع الذي تركه لنا أديبنا الراحل، والذي كان وسيستمر زادا لنا ولشعبه السوري بالذات، زادا فكريا ومنهجا في الاستمرار في نهج المقاومة والممانعة، في سبيل تحقيق الحرية واستقلال الوطن والإنسان، خاصة وأن سوريا كانت وما زالت محط أطماع كل الغزاة والمارقين على الشرعية الإنسانية، وما حصل في سوريا خلال السنوات الأخيرة من إسقاطات حرب كونية محراكها محور الشر العالمي الأمبريالي الصهيوني، وبتنسيق وتعاون مع أنظمة العمالة والنخاسة العربية العميلة.
نم مطمئن البال يا راحلنا الخالد حنا مينة، هناك في عليائك السرمدي مع القديسين والأبرار، فشعبك وكل أحرار العالم قد حفظوا الدرس جيدا، وهم قدما في الطريق نحو الحرية...
وأشير إلى أن شركة سيريانا السورية للإنتاج الفني قد أنتجت هذه الرواية في مسلسل تلفزيوني من إخراج المخرج فهد ميري، وبطولة نخبة من أبطال الفن السوري الأصيل، وكان في حقيقة الأمر عملا مميزا، ينقل بصدق هم الرواية وأفكار كاتبنا الراحل حنا مينة ...
إضافة تعقيب