news-details

شيرين – أخطأتِ في تقدير قدرتكِ على التّأثير! | د. إلياس زيدان

أختي شيرين... اعذريني، لكنّكِ أخطأتِ في تقدير قدرتكِ على التّأثير. ونِعمَ الخطأ. في كلمتك عبر شاشة الجزيرة بمناسبة السنة الـ 25 على تأسيسها قلتِ: "ليس سهلًا ربّما أن أُغيّر الواقع، لكنّني على الأقلّ كنتُ قادرة على إيصال ذلك الصّوت إلى العالم". منذ اغتيالك يا شيرين لم تقومي فقط بتغيير الواقع، بل نجحتِ بقلبِه رأسًا على عقب؛ واقعنا الفلسطينيّ والعربيّ والعالميّ وواقع الاحتلال وعسكره. نجحتِ يا شيرين خلال الأيّام الأخيرة في الكشفِ عن الوجه المضيء لشعبنا ولأمّتنا ولأحرار العالم.  نجحتِ في إثبات أن الخير ما زال فيّاضًا عند هذا الشّعب وهذه الأمّة. أخلصتِ لنا ولقضايانا بإنسانيّتك وبمهنيّتك العالية وباستقامتك، فأخلص شعبكِ وأمّتكِ لكِ أختي. غدروك يا شيرين وأنت تحت شجرة الصحفيّين في المخيّم الرّمز فارتقيتِ إلى مرتبة الرّمز لشعبنا ولأمّتنا، فخرج بنات وأبناء شعبنا عن بكرة أبيهم لكي يحملوك ويسيروا وراءكِ ومعكِ إلى مثواكِ الأخير من مخيّم إلى قرية ومن قرية إلى مدينة حتّى نجح هذا الشّعب في فتح بوّابات قدسنا وأزقّتها مسلّحًا بجثمانك وبنعشك وبالإرادة الشّعبيّة وبالعلم الفلسطينيّ– علمنا جميعًا، وقد صار خلال تشييع جثمانك علم الأمّة من محيطها إلى خليجها وعلم الأحرار في أرجاء المعمورة. انتصرتِ يا شيرين وانتصر شعبنا على عساكر الظّلم والكره.

كنتِ يا شيرين في حياتك صاحبة هويّة جامعة فنجحتِ بعد قتلكِ في إنهاض الهويّة الجامعة لهذه الأمّة، الهويّة الفلسطينيّة-العربيّة-الإنسانيّة لتنضوي تحتها كلّ الهويّات الجميلة الأخرى. نجحتِ في إسكات وتقزيم "الهُويّات القاتلة" كما أسماها أمين معلوف، تلك الهويّات المتعصّبة الهدّامة اللاغية للآخر المختلف، وأعطيتِ الشّرعيّة وأنهضتِ الهويّات الجميلة المتسامحة والمتآخية المكمّلة بعضها لبعض. نجحتِ يا شيرين في مساعدتنا على بناء صورة فُسَيفِسائِيّة فتّانة لنا كشعب وكأمّة، إطارها الانتماء الوطنيّ-الإنسانيّ وقِطَعُها من الانتماءات الجميلة المكمّلة بعضها لبعض. هل هناك يا شيرين أجمل من مشاهدة شباب فلسطين والعرب الآخرين من المسلمين يؤدّون صلاة الغائب في ساحات المستشفى الفرنسي قبيل تشييع جثمانك! ما أروعه وما أرقاه من مشهد. اقشعرّ بدني عند مشاهدته، ذرفتُ دمعي، ورفرف قلبي وكأنّي به يطير لاحتضان كلّ من هؤلاء الأحبّاء.

كيف تقولين يا شيرين "ليس سهلًا ربّما أن أغيّر الواقع..."! لقد وضعتِ الانقسام خلفنا، نجحتِ يا شيرين بجعلنا نحمل العلم الواحد، العلم الجامع علم فلسطين بألوانه الأربعة الزّاهية. أخبريني بربّك متى حدث ذلك من قبل؛ عَلَمُنا الجميل يا أختي فضح الحقيقة الوحشيّة لعساكر الاحتلال وأخرجهم عن صوابهم. حاول هذا العسكر، وبكلّ الطرق الحاقدة، مصادرة العلم وإخفاءه عن المشهد وعلى مرأى من العالم. لكن هيهات. عساكر الاحتلال تصادر علمًا فتنبتُ مكانه أعلام. أضحى المشهد فلسطينيًّا بامتياز في الشوارع والساحات والبيوت والقلوب من جنين ومخيّمها إلى القدس وساحاتها وأزقّتها حتّى المقبرة التي دفنك الأهل فيها.

نجحتِ أختي في إظهار الصّورة الجميلة لشبابنا ولشراسة عساكرهم التي لا تحترمُ الحيّ منّا ولا الميت ولا أهله ومشيّعيه. حاول عسكر الكره إسقاطك على الأرض للمرّة الثّانية عند تشييع جثمانك من ساحة المستشفى الفرنسيّ، لكنّ شبابنا كانوا لهم بالمرصاد. وكأنّي بالشباب يهتفون بصوتٍ واحدٍ "لن تُسقِطوا شيرين مرّة أخرى، هي أختنا... هي ابنتنا... غدرتموها في المرّة الأولى... لم نكن معها قرب شجرة الصّحفيين في مخيّم جنين لنحميها، لكنّنا اليوم معها ولن ندعها تسقط... اضربوا ما شِئتم، كسّروا ما شئتم من عظامنا، لكنّ سواعدنا وأكتافنا لن تفلت شيرين ونعشها. قسمًا عظمًا لن تنجحوا في إسقاط شيرين مرّة أخرى". وهكذا كان، بقيتِ شيرين شامخة وبقيتم شبابنا شامخين معها. كان النّصرُ لشيرين ولكلّ من وما ترمز إليه. كان النّصر للشّباب ولشعبنا. أنتم فخرنا شباب شيرين، شباب الوطن، شباب فلسطين، شباب الأمّة، شباب الحرّيّة والأحرار في الكون.

من نجح قبلكِ يا شيرين في توحيد الكنائس لتقرع أجراسها في آن واحد فتُكَوِّنَ جرسًا واحدًا يجلجلُ في فضاء القدس. جَلْجَلَ هذا الجرس الواحد فاهتزّ جبلُ الجُلْجُلة من جديد، واهتزّت معه جبال العالم من خلال الفضائيّات ووسائل التّواصل الاجتماعيّ. نجحتِ يا شيرين في جعل الكنيسة خلال جنازتك بيتًا دافئًا لجميع أطياف أمّتنا وللمشاركين من الأمم الأخرى.   

سوف نحتاج إلى الكثير من الوقت لكي نفهم سرّ عظمتك وقوّة تأثيرك التي تكشّفت جليّة بعد مقتلك بالذّات. لكنّ بداية فهمنا تبدأ من كلمتك التي قلتها في الجزيرة "... اخترتُ الصّحافة كي أكون قريبة من الإنسان...". كنتِ الأقرب إلى الإنسان. كنتِ الأقرب إلى الملايين من النّاس في كلّ شبرٍ من الوطن ونقلتِ بمصداقيّة واستقامة "ذلك الصّوت إلى العالم". وَضَعْتِ نفسكِ في تعاملك مع النّاس خلال حياتك يا شيرين فارتفعتِ في العيون وغُصْتِ في القلوب. وعندما أردوك قتيلة تحرّك الإنسان وتحرّك النّاس طواعيةً وبشكل تلقائيّ ليشكروكِ وليحملوك ويحملوا "ذلك الصّوت – صوت شيرين وشعبها – إلى العالم".

 

الصورة: مظاهرة تنديد باغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة في بيت حنينا (عفيف عميرة، وفا)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب