news-details

صباح الخير: الشرطة في خدمة الشعب

القصّة قد لا تُميت من الضحك. لكنها طريفة خفيفة. حدثت معي بكلّ تفاصيلها. لا أزلّ بكلمة.. ما هو مغزاها بالضبط؟ لا أعرف. فهذا متروك للنقّاد الكبار. وأنا مجرّد حنقود... القصّة وما فيها أنني دخلت غرفة المحاضرة في الجامعة قبل سنوات قليلة فوجدت معظم الطلاب، كالعادة، يضعون رؤوسهم في هواتفهم النقّالة. بعضهم ينقر الشاشة برشاقة وخفّة ويبتسم. بعضهم ينقر وتعلو وجهه تكشيرة. وبعضهم يظلّ وجهه محايدًا. مثلما كان موقف العرب من قضيّتنا. اليوم هم ليسوا محايدين.. طلبت إليهم أن يغلقوا الهواتف أو يضعوها مكتومة في حقائبهم قبل البدء بالمحاضرة. وحتى أخفّف عنهم قسوة هذا الفرمان الظالم أخرجت هاتفي النقّال وقلت لهم بأنه لا يرنّ إلا إذا طلبت زوجتي أن أشتري بعض الخضروات العاجلة من الدكان عند عودتي من الجامعة، وقلّما يرنّ. هي مرّة أو مرّتين في الشهر، لا أكثر. حتى أنني أنساه مغلقًا في مكان ما في زوايا البيت لأكثر من أسبوع دون أن أشعر بغيابه. وهو بالنسبة إليّ قليل القيمة والفائدة. بعض الطلاب أصيب بالدهشة والذهول ممّا قلته، وكلهم ضحكوا لمنظر الهاتف الذي أحمله، والذي لا يصلح، حسب تعبيرهم هم، إلا للمتاحف الأثرية...

بدأنا بالمحاضرة وفي منتصفها بالضبط سمعت هاتفًا يرنّ. ذُهلت. وعاتبتهم بشيء من الحدّة: "ألم نتّفق على أن تغلقوا الهواتف أو على الأقلّ أن تكتموا الصوت؟!" تفقّد بعضهم هاتفه، لكنّ الهاتف ظلّ يرنّ بإصرار، والطلاب يضحكون ضحكة لا تخلو من شماتة. وظللت أسير حتى اهتديت إلى مصدر الصوت. كان هاتفي في حقيبتي هو ما يرنّ. ارتبكت قليلا. فزوجتي تعلم أني في هذه الساعة أكون في المحاضرة. حملت الهاتف، استأذنت، وخرجت لأردّ. "أنت إبراهيم طه؟".. "نعم".. "نحن من شرطة الناصرة. سيارتك مركونة في الشارع وتعيق حركة السير. تعال حالا وانقلها وإلا سنقوم بجرّها وتغريمك بغرامة مالية، بالإضافة  إلى النقاط التي ستضاف إلى ملفّ مخالفاتك".

كان الشرطي عربيًا. قلت له: "أنا في الجامعة وسيارتي مركونة في موقف الجامعة. أنت لا بدّ تقصد إبراهيم طه آخر!" أصرّ الشرطي فنسيت أنّ ابني حينها كان يلعب مع فريق اتحاد أبناء الناصرة لكرة القدم. وكعادة الشباب لا يصل إلا في آخر لحظة. وحين لا يجد موقفًا متاحًا تراه يعرّض السيارة في الشارع كيفما اتفق.. اعتذرت للشرطي وقلت له: "افعل ما تراه مناسبًا وأمري لله". عدت إلى المحاضرة وكانت علامات الارتباك والغمّ والهمّ والغضب تبدو واضحة على وجهي.

"خير إن شاء الله يا أستاذ؟" سألني الطلاب بترقّب. فأخبرتهم بكلّ ما حدث. فجأة قامت طالبة واستأذنتني في الخروج للحظات. عادت وهي تمدّ إليّ هاتفها وتقول "ردّ يا أستاذ". "أردّ؟! على من؟!".. "ردّ...!" رددت. كان الشرطي العربي نفسه على الخطّ. "زوجتي حدّثتني الآن عنك.. لا تقلق يا أستاذ. سأدخل الآن إلى ملعب كرة القدم. وأخرج ابنك من اللعب، وآخذ المفتاح، وأنقل السيارة، وأعيد له المفتاح.. اطمئنّ.. أنا متأسّف مرّة أخرى يا أستاذ".  أذهلتني المصادفة الغريبة بقدر ما أفرحتني. قلت له من حلاوة الروح: "وأنت لا تقلق بشأن زوجتك. فقد حصلتْ الآن على عشر علامات بالتمام والكمال." فقال الشرطي: "كلّ هذا الذي سأفعله من أجلك يا أستاذ بعشر علامات فقط؟!" ضحكنا. وضحك الطلاب.. وقال بعضهم بلهجة المنتصر: "أرأيت الآن قيمة الهواتف النقّالة وفائدتها يا أستاذ؟ّ" قلت: "الآن رأيت بأمّ عينيّ أنّ الشرطة في خدمة الشعب"!

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب