news-details

صباح الخير: خميرة الحرّيّة

لستُ مؤرّخًا ولا عالمًا اجتماعيًّا ولا عالمًا سياسيًّا، ولستُ نبيًّا أو قدّيسًّا، ولا أقرأ الفنجان ولا أفتح بالمندل. أنا أديبٌ وكاتب صناعتي الكلام وقد أصيبُ وقد أخطئ. إمامي العقل كما قال معلّمنا أبو العلاء المعرّيّ، وأتعامل مع النّصّ برويّة وتمعّن، بعيدًا عن العاطفة، مجتهدًا لقراءة ما بين السّطور وما بين الكلمات وما بين الحروف وما خفي عن العين كي أفهم اليوم وأستشرف الغدّ.

ينعى البعض منّا الرّبيع العربيّ فيما ينعته آخرون بالخريف العربيّ، ويؤكّد تقدّميّون ووطنيّون من بيننا على أنّه مؤامرة استعماريّة غربيّة عقلها أمريكيّ-أوروبّيّ وجيبها رجعيٌّ نفطيّ.

أحبّ الرّبيع وخضرة أوراقه وأعشابه، وأعشق أزهاره ونوّاره ونداه وينابيعه وعطره وعبيره ونسيمه، كما أحبّ الخريف وثماره ورذاذ غيومه وأرى فيما أرى فيه أوزيريس الّذي أقامته زوجته ايزيس من الموت، ولا أنكر للحظة خبث الاستعمار وحقده المصحوب بنذالة الرّجعيّة المتخمة مالًا.

لا أستطيع أن أنسى ذلك التّونسيّ الطّيّب حامل الهمّ الوطنيّ على كتفيه المتعبين وهو يقول بأسى: "هرمنا هرمنا" كما لا أنسى شقيقه، ابن أمّه الّذي صرخ من "قحف رأسه" فرحًا غير مصّدّق "بن علي هرب، بن علي هرب"، أي هرب الحكم المطلق والفساد والظّلم والظّلام.

أحني رأسي إجلالًا لملايين المصريّين، بنات وأبناء شعب النّيل العظيم، النّيل والشّعب، الّذين ملأوا ميدان التّحرير في القاهرة التي قهرت المغول ونابليون وايدين، وأطاحوا بالدكتاتور الّذي ربض على صدورهم أثقل من هرم خوفو.

قد يسرق العساكر رغيف الخبز من عامل أو فلّاح، وقد يسلبون قلمًا وقرطاسًا من تلميذٍ أو تلميذة، وقد يصادرون قرنفلة من شابٍّ أو صبيّة، وقد يسرقون حلمًا، ولكن الى حين.

سرق الطاغيّة نابليون الثّورة الفرنسيّة واغتال علمها وشعارها ونشيدها وقاد فرنسا الى الموت والفقر الّا أنّ الشّعب الفرنسيّ رفض الذّلّ والاضطهاد... وغلى الماء في المرجل قرنًا فقرنين ثمّ بزغ الفجر على باريس. وسرق المرابون والسماسرة والعسكر في القرون الخاليّة حراك الشّعوب في بريطانيا وإيطاليا وألمانيا واسبانيا وغيرها ونهبوا الخيرات وصادروا الأفواه لسنواتٍ عديدة وعاشت أوروبا حروبًا أسوأ من داعش ثمّ طلع الفجر في هذه البلدان.

ما يجري اليوم في بلد المليون ونصف المليون شهيد يدلّ على عظمة شعب الجزائر الّذي تدّفق الى الشوارع والميادين وأرغم الدكتاتور المقعد الفاسد على الاستقالة، وما زال هذا الشّعب مصّرًا على طرد العساكر كي يبزغ الفجر ساطعًا نقيًّا خاليّا من الضباب. والمجد كلّه لشعب السّودان العظيم الّذي تدّفق مثل فيضان النّيل وملأ الشوارع والسّاحات وسقاها بالدّم وطيّر الدكتاتور الفاسد المجرم وأصّر على رفض حكم العساكر الّذين يسعون لسرقة ثورته.

خميرة الحرّيّة موجودة في شعبنا العرّبيّ الأصيل في كلّ بلد من المحيط الى الخليج، وستبدي لنا الأيّام ما يجهله سارقو لقمة عيش الناس وسالبو حلم الأحفاد.

صدق القائد الأمويّ نصر بن سيّار عندما قال:

أرى خلل الرّماد وميض نارٍ ويوشك أن يكون لها ضرام

 

محمّد علي طه

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب