news-details

صوت يوم الأرض وصَداه في "الاتحاد"

وقفت جريدة "الاتحاد" الحيفاوية في آذار 1976 وحيدةً أمام حشد وسائل الإعلام السلطوية الإسرائيلية، عبرية منها و "عربية". مطلع ذلك العام الفصْل، كانت السلطات الإسرائيلية تعدّ مشروع مصادرةٍ ضخمًا لأراضي البطوف، وجنّدت إعلامها لتبريره بمزاعم "التطوير" و "التهويد". "الاتحاد" انخرطت في المواجهة الشرسة، مثّلت موقف ومصالح جماهيرنا العربية الفلسطينية

وقفت جريدة "الاتحاد" الحيفاوية في آذار 1976 وحيدةً أمام حشد وسائل الإعلام السلطوية الإسرائيلية، عبرية منها و "عربية". مطلع ذلك العام الفصْل، كانت السلطات الإسرائيلية تعدّ مشروع مصادرةٍ ضخمًا لأراضي البطوف، وجنّدت إعلامها لتبريره بمزاعم "التطوير" و "التهويد". "الاتحاد" انخرطت في المواجهة الشرسة، مثّلت موقف ومصالح جماهيرنا العربية الفلسطينية الباقية في 48 وجعلت صفحاتها منبرًا للدفاع عن الناس وأرضهم.
عدتُ إلى أرشيف "الاتحاد" الورقيّ وسجّلتُ تسلسلاً للأحداث وفق ما كتبته الجريدة في عناوينها، افتتاحياتها، تقاريرها ومقالاتها.
بدأ السيل برذاذ في عزّ شتاء 1976: "كفر قاسم في معركة الارض! لجنة شعبية لمواصلة الكفاح" كما كتبتْ في 13.1.76. وأفادت في عددها التالي، 17.1.76 – إذ كانت جريدة نصف أسبوعية تصدر كل ثلاثاء وجمعة: "تحرّك شعبي واسع ضد مصادرة باقي الأرض العربية"، و: "ستجري في الأيام القريبة التحضيرات لمؤتمر شعبي في البطوف للمطالبة بفتح منطقة 9، بعد أن أوقف البوليس إصدار التصاريح لأصحاب الارض فيها لدخول هذه المنطقة تمهيداً للاستيلاء على اراضيها". وتابعتْ في 20.1.76 ما سيكون مفتتح قصة جماهيرنا الأنصع: "مجالس عرابة ودير حنا وسخنين تتنادى للدفاع عن الأرض المهددة"، و "عرب السواعد متشبثون بأراضيهم. ومثلهم اهالي القرى المحيطة بمنطقة 9".
صدى نضال جماهيرنا دوّى حينذاك في الكنيست بكلمات النائب الشيوعي توفيق طوبي، كما نقلتها "الاتحاد": "إن منع الفلاحين في منطقة 9 من الوصول الى أرضهم هو جزء من مخطط المصادرة وحرمانهم منها... هذا المخطط سياسة عنصرية ترمي الى اقتلاع شعب وحرمانه من أراضيه التي عاش عليها واعتاش منها خلال اجيال طويلة متعاقبة.. إن الجماهير العربية تساندها القوى الديموقراطية اليهودية ستناضل بكل ما أوتيت من قوة دفاعًا عن أرضها وعن حقوقها". وأعلنتْ: "مجالس سخنين وعرابة ودير حنا تقرر: التعلّق بالأرض حتى الموت"!
وصاغت الجريدة الموقف في افتتاحيتها، "كلمة الاتحاد"، يوم 13.2.76 (على الصفحة الأولى): "إن ما يجري الآن من هجوم شامل على البقية الباقية من أرض العرب في إسرائيل، وباسم "التهويد" وبدون لف او دوران، هو فضيحة عالمية كبرى وهو استعراء – ستربتيز – يجب أن يثير اشمئزاز وقلق واحتجاج كل انسان شريف ومتعقل في اسرائيل". ونصحت/ حذّرت: "وحسْب السلطات أن تتذكر تاريخ تعاملها الطويل والمأساوي مع الجماهير العربية في اسرائيل في هذا المجال. ولا بأس بأن يقوم القدامى من المسؤولين بإبلاغ المسؤولين الشبان والجدد من بينهم – من مستشارين وخبراء ومدراء – كيف وقفت الجماهير العربية، في الماضي أيضاً وحتى حين كانت اقلية ضئيلة ومفككة ومعزولة، في وجه إجراءات المصادرة وغول النهب. فلم تستطع السلطة "الجبارة" أن تصادر دونمًا من الارض إلا بعد اعتقال العشرات بعد فرض الحصار على القرى المنكوبة وإعمال أيدي القمع البوليسي والنفي وأشد الارهاب.. فكيف يفكر هؤلاء المسؤولون، وقد تغيرت الدنيا وأصبح الشعب المعزول شعبًا متكاملا وموحد الصف (...) بأنه في مقدورهم الآن الاستمرار في عملية المصادرة الجنونية؟!".
مانشيت صدر الصفحة الأولى بعد أربعة أيام بشّر بالتّالي: "خمسة آلاف مكافح في مؤتمر سخنين الاحتجاجي". وتحت صورة للنشاط الشعبي كتب "مندوبنا الخاص" بلغة دافئة منحازة لا تكتفي بالتقريريّة الجافة: "لقد تحوّلت هذه القرية البطوفية الكبرى الى قِبلة الشعب كله حتى أقصى النقب للوقوف في وجه المؤامرة السلطوية التي تستهدف مصادرة أراضي الملّ.. تحوّل المؤتمر الى مظاهرة شعبية جبارة تعبّر عن تصميم الجماهير العربية على مقاومة مخططات سلب الاراضي". ومما قاله في هذا المؤتمر القائد والشاعر توفيق زياد: "الأرض وطن وليست مصدر رزق فقط، والدفاع عنها أمر مشروع حيث كان. وإن لشعبنا تقاليده في الدفاع عن أرضه، كما حدث في كفر مندا وكسرى".
وجرت مخاطبة الرأي العام العالمي بقضيّة هذا الجزء الباقي الحيّ من شعبنا، فنشرت "الاتحاد" في 20.2. على رأس الصفحة الاولى خبرًا عن سفر النائبين الشيوعيين توفيق طوبي ومئير فلنر الى موسكو. وعن مؤتمر صحافي عقداه في الطريق، حيث قال طوبي فيه: "إننا نغادر البلاد ونحن قلقون من نتائج السياسة المتبعة مع العرب في إسرائيل. فنحن في أوج معركة ضد المس بحقوق العرب في اراضيهم. هناك برامج متنوعة بأسماء مختلفة تهدف الى سلب الفلاحين العرب أراضيهم"..
ثم جاء بالتفصيل ما حذّرت "الاتحاد" منه، فخطّت في المانشيت الرئيس في 2.3.76: "الحكومة تقرر مخطط مصادرة الاراضي العربية الشامل في الجليل. سخط الجماهير العربية متصاعد على قرار المصادرة ورفضاً له". وعلى الصفحة الأولى نفسها نشرت بيان المكتب السياسي للحزب الشيوعي بعنوان "لا لمصادرة الأراضي العربية والتهويد"، والذي وصف المخطط بالعنصري وبالعمل المغامر الذي "يهدّد مستقبل العلاقات بين الشعبين".
بعد أيّام يكتب صليبا خميس (5.3.76): "الجماهير العربية بجميع فئاتها من فلاحين وعمال ومثقفين عازمة على التصدي للمطامع، بالدفاع المشروع عن الأرض التي يملكونها في وجه سياسة هدفها، منذ أن بدأ الاستيطان الصهيوني في فلسطين، الاستيلاء على الأرض، كل الأرض". وأكّد: "أن شعبنا بدأ يدرك بتجربته التاريخية أن ليس أمامه سوى النضال المثابر من دون هوادة ضد التآمر على حقوقه، وعلى مستقبله في هذه البلاد".
وعلى الصفحة نفسها حذّر إميل حبيبي من "كفر قاسم ثانية" في اشارة للمجزرة. وكتب: "في مطلع هذا الاسبوع، في السنة العشرين على مجزرة كفر قاسم، اقترف حكام اسرائيل فعلة مشابهة في شناعتها وفي أهدافها. وأعني قرار الوزارة الرابينية (نسبة ليتسحاق رابين) في يوم 29.2 مصادرة عشرين الف دونم في الجليل. إننا بصدد كفر قاسم ثانية – في بشاعة المجزرة وفي أهدافها". وهي نبوءة تحققت بالبنادق!
صوت جماهيرنا انعكس بوضوح صافٍ حازم على أولى صفحات "الاتحاد" في عددها التالي: "يوم الارض.. في 30 آذار"، وكتبت في افتتاحيتها: "لقد وقع قرار الاضراب على رأس المسؤولين وقع الصاعقة، فأخرجهم عن طورهم. مما يؤكد مجددًا أن الجماهير العربية بوحدة صف وتصميم تستطيع ان تجعل السلطات تحسب لها ألف حساب قبل المساس بحقوقها التي تريد السلطات أن تكون مهدورة". وبلهجة تراوحت بين التحذير والتهديد تابعت: "إن الأيدي التي تمتد لضرب نضال الجماهير العربية العادل، إن كانت ايدي عربية فستحترق في حمأة هذا النضال، وإن كانت أيدي السلطة فلن تجني سوى تسعير هذا النضال".
وسط تشويهات صحف السّلطة عن أن دعاة الإضراب "حفنة"، تتابع "الاتحاد" في عددها يوم 12.3.76 على أولى صفحاتها: "تعاظُم تأييد الاضراب العام دفاعا عن الارض" حيث تتحدث عن إقامة "لجان الإضراب المحلية" لتنسيق وإنجاح النضال. ويكتب هنا الشاعر سميح القاسم في مقال بعنوان "اسمع يا اسرائيل": "لم يعد من عمل سوى التصدي لكم بكل ما أوتينا من طاقة.. لم يعد من عمل سوى التوجه المثابر الى ضمير شعبكم والى ضمير العالم.. لم يعد من عمل سوى خروجنا الى الشارع.. سوى التظاهر أمام الكنيست وأمام الأمم المتحدة.. سوى الإضراب والصمود والمقاومة..". وبعنوان ملؤه التحدّي، "المارد يخرج من القمقم"، يكتب صليبا خميس بمثابة الرسالة للسلطة وأعوانها من أبناء جلدتنا: "مارد الشعب قد خرج من القمقم.. وحان الوقت لأن تحترم حكومة اسرائيل إرادة الجماهير العربية وحقوقها.. إن عهد تنصيب بعض الشراشيح والأذناب ممثلين عن الجماهير العربية في إسرائيل ليكونوا ناطقين باسمها، قد ولى الى غير رجعة.. الزحف على البطون اليوم لا يقود الزاحفين إلا الى سلال القمامة والنسيان".
"الاتحاد" تصدّت لبعض ضعفاء النفوس الذين صرّحوا تحت الضغوط بأن لجنة الدفاع عن الأراضي "تسرّعت بقرار الإضراب"، فنقلت قرار اللجنة (16.3.76): "الإضراب والمظاهرة دفاعا عن الأرض حتى تتراجع الحكومة عن المصادرة". وتكتب: "إن السلطات، في حالة من الافلاس العام لتبرير موقفها، تلجأ الآن لتجنيد نواب اسرائيليين ومستشارين من العرب لتفكيك وحدة الجماهير العربية. ولكن التصميم الشعبي ووحدة الصف اللذين لا مثيل لهما انعكسا في الاجتماعات الشعبية الضخمة، وفي ان لجان الدفاع عن الاراضي تتألف في كل مدينة وقرية". وتوالت التعبئة في الأيام العشرة الأخيرة السابقة ليوم الاضراب، مانشيت: "مؤتمرات شعبية استعداداً ليوم الأرض والإضراب الشامل"، مقال لإميل حبيبي: "المعركة جدية وأهدافها ممكنة التحقيق" (19.3)، مانشيت: "الاستعداد لإضراب 30 آذار بعزيمة لا تتزعزع رغم الإرهاب البوليسي"، وافتتاحية: "على الجماهير أن تصد بقوة ارهاب السلطات وتشدد نضالها دفاعا عن الأرض" (23.3)، مانشيت: "الجماهير العربية ستُضرب في 30 آذار دفاعاً عن أراضيها رغم الإرهاب" (26.3)، ثم أعلنت لقرائها: "بمناسبة يوم الأرض: تصدر "الاتحاد" الاثنين 29.3 بدلاً من الثلاثاء 30.3"، ونشرت تقريرًا عن اجتماع لجنة السلطات المحلية في شفاعمرو الذي انعقد "تحت حصار وعدوان بوليسي وبحضور كبار مسؤولي المخابرات ومكتب رئيس الحكومة"، يومَ أعلن توفيق زياد رغم تخاذل رؤساء مجالس عديدين: "الشعب قرر الإضراب". وكتبت "الاتحاد": "وأما الاعتداء البوليسي الفظ فإنه يثير أشدّ الاستنكار وستردّ عليه الجماهير بتحويل الإضراب العام الى إضراب شامل احتجاجاً على المصادرة واحتجاجاً على الإرهاب البوليسي حتى تفهم السلطة ان العنف لا يزيد الشعب صاحب الحق الا عنفواناً".
فيما يشبه "النداء الأخير"، توجّه صليبا خميس إلى "أخي العامل في المصنع، في الحقل، وتحت السماء والطارق، شعار إضرابك في يوم الأرض 30 آذار، تضامناً مع كافة أبناء شعبك، دفاعا عن أرضك وحقك في ملك آبائك وأجدادك، امتد باعه كعمود من نار ونور يعانق السّحب... يجب ألا تخيفكم تهديدات قيادة الهستدروت الغاشمة".
في 29 آذار 1976، ليلة الإضراب، كان عنوانها الرئيسي: "جماهير الشعب تتحدى الإرهاب وتتنادى للإضراب".. وهو ما حدث: ستة شهداء أبرار بنار إسرائيل!
غداة الحدث العظيم ، وفي عدد خاص (بالقطع الصغير) يوم الأربعاء 31.3.1976 خرجت "الاتحاد" بمانشيت حزين ومُدين: "مجزرة كفر قاسم ثانية في الجليل والمثلث"، وببيان لجنة الدفاع عن الأراضي: "المجد لشهداء الكفاح من أجل الأرض والحقوق المتساوية". وفي افتتاحية لا تُنسى حدّدت المعادلة بعنوان: "شعب الشهداء وحكومة المجازر"، كتبتْ: "لقد روت دماء أبناء هذا الشعب الأرض التي استشهدوا في سبيلها، ولن يتخلوا عنها... الخلود لذكرى أبناء الشعب الشهداء البررة! والقصاص الرادع والعار الأبدي للقتلة المجرمين وللذين خططوا هذه الجريمة البشعة".
في ذلك اليوم البطولي الحزين – كطبْع ملاحم الشعوب - كان عنوان مقال رئيس التحرير اميل حبيبي كثيف المعاني: "شعبٌ يتهادى نحو مستقبله بعباءات الشفق الأرجواني"، وفيه الخلاصة: "إن بطولة الجماهير العربية التي استطاعت أن تعيش في وطنها وأن تتشبث بأرضها وحقوقها وأن تربي أجيالها على القامات المرفوعة، هي بطولة أسطورية تستطيع أن تتبختر بها أمام العالم أجمع". وبالفعل، لقد أُثبِتَتِ المقولة وثبت الفعل وتثبّت البقاء.
شهداء يوم الأرض 30 آذار 1976: رجا ابو ريا (سخنين)، خضر خلايلة (سخنين)، خديجة شواهنة (سخنين)، خير ياسين (عرابة)، رأفت زهيري (مخيم نور شمس - طولكرم، استشهد في الطيبة) ومحسن طه ( كفر كنا).

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب