news-details

عن سرّ الرّواية.. حليمة الميعاريّة، وسَلَمِة في حذاء لاجىء!

.. كأنّ الأنفاس تنقطعُ للا سبب واضح يعرّفه الشّوق لعودَة، أيّ عودة، وكلّ عودة يقف المكان شاهدا على دلالتها ودلالها، ولكلّ دلالٍ دليلَهُ الكائن في حذاء رواية.

لم ترو عمّتي ما حدث بالتّمام، ولكنّها الرّواية تُفيدُ أنّها بلاد بلا شعب عثر عليها اليهودُ، فَصاروا شعبها، جريا على شرعِ الحكاية القاضية بعدمِ جَوازِ تركِ بلادٍ، أيّ بلادٍ فارغة، إلا من صحرائها، فهل كانت فلسطين ذات يوم صحراء نائية، وبلا أصحابِها؟ ويضيف الحكواتي بِما تجودُ عليهِ قريحتهُ أنّ أهلَ البلادِ خرجوا لسياحة قسريّة درء لحياتهم من الموت. خرجوا جماعات، حمائل، قبائل وعوائل محمّلين ببقج القشّ وأكياس الخيش مشيا على الأقدام في مشوار صراعٍ مرير على البقاء. بعضهم أبحر من موانىء عكّا ويافا وحيفا في سفنّ أعدّت سلفا للرّحيل تحت التّهديد والتّرهيب، والبعض وجد في البريّة ملاذا مؤقّتا من الذّبح. همسوا، ننتظر خلف السّريس والسّنديان أسابيع أو أيّام ونعودُ، مفاتيح البيوت دُسَّت في عبّ النّساء، ودفء اللّحظاتِ غفت في عيون الرّجال حفظا لها من السّبي، كأنّ في إطباق العيونِ على الجمر منجى لها من القتل.

اعتقدوا جازمين أن لا شيء يستدعي الحزن عليه، فالبلاد تنتظر أهلها. يلوبُ صوتُ الرّاوي، يعوم في ِدمِ الحكاية. زلّت الأقدام الجوعى..اختلّت عقول النسوة، وحرنت حمير القافلة. هَرِمَ القلب تحتَ البُقَجِ، وانتهى السّفر القسري لحكاية نزوح تحكيها عمّتي فوق مدفأةِ الكاز. مُهتزّة الفتيلِ للمرّة الألف ربّما، عن عوائل تحنّت بالدّمِ على الحدود مع الجبال, وعمتّي لمْ تُميّزْ مُهِمّاتِ الجبال، فكلّ لجوء فسّرَتْهُ جبال دخيلة على جبال جليلنا. أصبحت الجبال بعض منجزات النّزوح في تلك السّنة الكسيحة كما تسمّيها، "سيدك مقبلش يطلع، وكُلنا يا عَمتي وراه، قلنا اللّي بيصير على غيرنا بيصير علينا"، شرقت ريقها وأضافت، "شو يعني بدنا نموت؟ نموت بس ما نصير لاجئين زي هلمغلّبة حليمة الميعاريّة" يَوْمَهَا فَهِمتُ أنّ عمّتي هي المذياع الخام الّذي نسيه الزّمن، وهمستُ مفتونة لكمِّ قميصِ النّوم الّذي يَستوطن بلا خجلٍ، هادىء البالِ بيتها الصّغير،"عمتي هاي مصيبة، مثل الرّاديو بتعرف كل شي!".

هكذا بدأت حكايتي مع أهالي ميعار الّذين وفدوا إلى قريتنا، وسكنوها دون إنذار مسبق، ودهشتي البالغة من اكتشاف لهجة أخرى غريبة غير لهجتنا. لم أجد مصدرا يزوّدني بالتّفاصيلِ خلاف عمّتي، علبة الحكايا، كما أسميتُها. أذكر جيّدا أنّها قالت، "هذول يا عمتي مهجّرين وملتعن عرضهن!"

جملة قصيرة وحزينة شكّلت سببا مشروعاً لملاحقةِ سنِّ عمتي، سنّها بالذّات، ليس رأسها ولا عينيها لأنّني اعتقدت دائما أنّ سنّها الّذي يلمع وهي تحكي، مصدر ذاكرتها العجيبة. وهكذا أسفر مشروع ابتزازي لها عن تحلية أذنيّ بالحلق الّذي اشترته لي وأهملتُهُ لشهور لأنّه بدونِ حجر أزرق، ومواظبتي على حلّ وظائفي فور عودتي من المدرسة، ثم حرصي على مرافقتها للبقل، ولمّ بيوت العلت القليلة الّتي تفرفح أوراقها بالحياة كلّما رأتني أحمل كيس النايلون باتّجاه حاكورة البيت، وعدم الكفّ عن ملاحقة فستانها البنيّ. أستغلّ تركيزها في الشتلات اليانعة، وأشرع في تحقيقاتي، "وهنّي أهل ميعار بحبوا العلت عمتي؟" فتجيبُني مُحمرقَةَ الأنف والجبهة، "لأ يا عمتي بحبّوا الزّعتر أكثر" وأفرح وأتحمّس للبقل، "وينتا بدهن يْرَوْحُوا؟". تنهرني عمّتي محتجة، "وإنت كيف أبوهن يا عمتي، حرام هذول لاجئين". لاجئين شو يعني؟ هاي صعبة، كلّ ما أردته ألا تبقى المرأة الّتي تبحث عن المفتاح تحكي مثل الرّاديو بلا آخر. بعد أن نهرتني ضعتْ، حاولتُ استرجاعها، ولم يُجْدِ حَلَقُ العالم كلّه، وَحِيَلُه. صَرَفتْ عمّتي نظرها عنّي،لأنّي أطالب بعودتهم إلى قريتهم. لم تفهم أنّي لا أستوعب معنى لاجئين! حتّى بكيتُ خلف شبّاكها وأنا أدقّه بلا كلل، وأصرخ، "بس بدّي هذيك المرة تلاقي المفاتيح! حليمة يا عمتي هيك بيسمّوها!".

كانت امرأة في الستّينات لا تبرح غرفة صغيرة أسميناها خُشِّة، تعصّب رأسها بمنديل شفّاف أسود حول رأسها فوق سرير قديم، ولا تكفّ عن السّؤال عن مفتاحها، "وين راح يا ولاد؟ لاقولي ياه!"

 

مُعُرٌ ضاعت

بعد تلك الحادثة، وإصراري على الفهم حكت لي عمّتي آخر اللّيل حكاية ميعار والزّعتر، لكنّها كشفت لي سرا خطيرا يفيد بأنّها ليست ميعار واحدة، بل مُعر ضاعت بين الجبال. أذكر أنّني ضعتُ بين المعر ولم أفهم راسي من أساسي، وغفوتُ أمام مدفأة الكاز. ظلّت عمّتي تحكي وأنا أفتّش بين المُعُر عن مفتاح حليمة النّداهة. حين سألتُ أمّي عن ميعار صبيحة اليوم التّالي جنّ جنونها، "هاي عمتك زي الرّاديو، ما بتسكت عن إشي، وإنت يا مقصوفة لليش بتسألي؟" وأنا لا يهمّني أنّي مقصوفة أردت أن أفهم. لكنّ تنبيهات أمّي موجعة كانت حدّ أنّي انقطعت عن زيارة عمّتي ليومين طويلين. حين التقيتُهَا أواخرَ ليلٍ ذهبَتْ فيهِ أمّي لزيارة، قفزتُ من شبّاكها العريض وهمستُ لها، "عمتي إمّي بتقول عنّك راديو، ليش؟" وهكذا تسببتُ بخلاف عائلي طويل انتهى بحرماني من زيارة عمّتي لأسابيع.

مبدئيّاً كنتُ قد اقتنعت أنّ عمتي مثل الرّاديو، وبضرورة أن تعلّمني الكثير حتّى كبرتُ والتقيتُكَ. صدفة لم تحسب لها الأقدار حساب، أنت ويافا وسَلَمِة ونزوح سمِعتُهُ منكَ لأوّل مرّة، ساحر التّفاصيل، كأنّه مشروع سياحة قصيرة ويعود فيها كلّ شيء لمكانه، مثل قصّة حليمة الميعاريّة تماما، الّتي اعتقدت أنّ زيارتها لقريتنا ليست إلا زيارة مؤقّتة وانتهت للجوء طويل انتهى بموتها على فراش البحث عن مفتاح ضيّعَهُ اليَهود، وهي تحزم ملابسها داخل بقجة القش!

كبرتُ مع حكايا ميعار، سَلَمِة والبِروِة والغابسِيّة، لوبية وسُحماتا، وسواها من القرى الّتي ملَّهَا أهلها وذهبوا، على حدّ ما روى اليهود عن البلاد الّتي دخلوها بلا شعب، فصاروا شعبها وسادتها.

كأنّهُ الحلمُ.. لا يكفّ عن الطيرانِ أسراب سنونو تدمّرُ رأسك، حلم يعشّش كبيوتها تلك السّنونو الشقيّة في بدنك. تبعده فيزداد التصاقا بك. ولا يتوقّف عن هذيان التّفاصيل، "قدماك انحشرتا داخل حذاء ضيّق، ولم يتنبه لوجع نواجدك أحد. حضنوك كي يخفّفوا غزارة دمعك، أمّك ووالدك وإخوتك. كنت تصوّب إصبعا متّهِمة لقدمك، وهم على اعتقادهم أنّك تتمسّك بحقّك في عشب القرية الّتي شهدت دعساتك الأولى. بقيتَ تشدّ قدميك إلى فمك حتّى سقطت ذخائرهم من سماء اللّيل على بعد تنهيدة من رأسك، وفرّقتكم جميعا شظايا، بقايا رعب. وأطلّ النّاس على ليل بحذاء ممزّق كان حذاؤك أنت. قبضتَ عليه بيديك وبدأت تجري كمجانين المصحّات، وتلتفتُ إلى الخلف جريا ضدّ مشيئتك.وأنت لا تعرف إذا فهم النّاسُ أنّ سلمه بدأت تنتفخ بشدة في قدَميك وتضغط على جلد الحذاء.الحذاء الّذي يضيق، ويقتلُ قدميك. تستحثَّهُ على الإسراعِ في مشيتهِ لتلحقَ بهم، كلّ الّذين أغلقوا أبواب بيوتهم، وحثّوا الخطى للنّجاة بأعراضهم.

 

كأنّ المدينة ركوة قهوة!

لم يكن للّيل شمعٌ تمشي على هديه، يومَها ركضتَ إلى الخلفِ ركضا ضدّ مشيئتكَ، ولمْ يسمعك غيرَ جلدِ الحذاءِ الّذي يضيقُ، ويختنقُ بهِ وبكَ صوتُكَ. لم تمشِ معك سوى ضباعِ اللّيل وجوعُ حنينِكَ إلى الوراء، وأنت تسجّلُ في باطنِ قدميك المتألّمة تاريخَ اليوم الأوّل  للنّكبة.

إذن كنّا شريكانِ في الغربة أنا وأنت، وفي وطنٍ أنتَ خارِجَهُ. تُرى من سيصدِّقُ إلّانا، نحن، رعيل النّزوح واللّجوءِ والهزائم أنَ يافا لك، وأنّ سلمِه تكبرُ في قدميك. تَجِنُّ أحيانا وأنتَ تقلِّمُ أظافرها. تتضوّع حنين مذاق، كأنّ المدينة ركوة قهوة تستفيق على غير انتظار وتفوِّرُ في ماضيكَ حاضراً. بقيت سَلَمِه حاضر الماضي، ففيها حبوتَ وزحفتَ ونقّلتَ عينيكَ وقدميك، ثمّ سقطتَ أرضاً في ذاكرتها بعد أن مسحَ الزّمن حشائشها وقدميك من تاريخها. بقيتَ تسأل، ترى لماذا لم يفهم رغاءك أحد؟ كرغاء الأغنام كانت كلماتك الأولى اعتقادا منك أنّها بقيت بانتظارك في ذاتِ المكان والزّمان.

أضربَت سنة كاملةً عن المشي، خيّل للجميع حينها أنّها ضريبةُ إرغامك على الخروج بحذاء ضيّق، أكان الوطنُ يضيقُ في قلبك، أم أنّه الحنينُ كرسحَ ذكرياته في قدميك، وما لم يعرفه أحد أنَك كنتَ تَرعى قرية صغيرة بمساحةِ قطيعِ خِراف في قدميك. أعجزتَ الحكمة والحكماء. بمرورِ عامين على خرسِكِ ذاك اقتنعا والديك أنَّكَ ستعيشُ أخرساً وكسيحاً، مشطوبُ الفمِ ممحوِّ القدمين. صدى الرّغاء البعيد فوق عشب سلمه وحده استدرج حذاءك. وذات فجر لم يتوقّعه أحد استفاق المخيّم، مخيّم عين الحلوة، على غيابك. اقتنعوا أنّ غولة الحكايا وضعت حجابا على فمك واختطفتك، فقد شاع نبأ خطفها لأطفال في جيلك. لطمت أمّك وجهها، ونكّس والدك رأسه، والتاع الجيران بين تصديق أو تكذيب الرّواية. لكنّك كعادتِكَ فاجَأتَهَا! على بُعدِ فراسخَ من الموضع الّذي وقفت فيه أُمّك تنوحُ وتتمخّط، لوّحتْ يدُكَ الصّغيرة كَبُشرى انبعاث. ركضتْ إليكَ لا تصدّق نَقلاتِ ساقيك العوجاء، لقد أعاد الحشيشُ الأخضر ذاكرة سلمة لقدميك. ألهذه الدّرجة كان المكان يمشي فيهما؟ وحين ضمّتكَ، همستْ خلف أذنك، أعّادت يافا يا ولَدي؟ تلك اللّحظة انسحرَ عُمقٌ في نظراتِكَ الحُلوة، وردّدتَ يافا لأَوَّلِ مرّة، وضحكتْ!

لا ينسى عُشبُ المخيّم ضحكتك البعيدة تلك، وحُلُمُ اليافا الّذي استيقظ كالمعجزة في قدميك. لم تتوقّف لحظة عن الحُلُم، وكلّما أغمضتَ عينيكَ توهّمتَ بين حشائش العين الحلوة سَلَمَتُكَ، ترتفعُ ككيانٍ وهميٍّ في عُمْقِك، وتعربِشُ سياجَ ياسَمينَ أعلى كتفيك.وآخر المسافة الّتي يخلُصُ إليهَا قاعُ البئر يتردّد صدى الّذين غَرِقوا بالماء والدّم، وأغلقت عليهم الرّواية، "إنّا لراجعون لأوّل الحكاية" تَذَكّرْ، وأنت تشتعل ببلّوط سيجاركَ ألا تحرق ذاكرة العشب الأخضر في قدميك المضروبتين باليأس. فالحكاية تؤجَّلُ، لكن لا يأتيها الأجل قبل أن تكتمل!

حيفا

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب