news-details

كلّ الشيوعيّة بستحوش!

قبل المحاضرة بدقيقة واحدة رنّ هاتفي. كان الرفيق توفيق كناعنة أبو إبراهيم على الخطّ. اسمه ورقمه على شاشة الهاتف. استقبلت المحادثة عامدًا متعمّدًا مع سبق الإصرار والترصّد. رفعت مكبّر الصوت في الهاتف إلى آخر درجة، وتركته يتحدّث والسمّاعة مفتوحة.. قلت بيني وبين نفسي هي فرصة حتى أستفزّه وأحكّه قليلا ليسمع الطلاب بعضًا من لغته المميّزة ذات النكهة الكنعانية اللفّانيّة. "مرحبا يا شبّ! إحنا على الموعد يوم الجمعة، زي ما اتفقنا". فقلت له وأنا أتظاهر بالمفاجأة: "إنت بتحكي عن جد؟! أنا فكّرت المسألة حكي بحكي!" فردّ على الفور بنبره العالي: "حكّة تحكّ جنابك!" عرفت مسبقًا أنه سيردّ على هذا النحو. لم يتمالك الطلاب أنفسهم، علت ضحكاتهم، وكانت خليطًا من الاستغراب والاستنكار والرفض والتساؤل. سألوني بفضول: "مين هذا الزلمة يا أستاذ؟!" قلت: "هذاالرفيق توفيق كناعنة أحد المشايخ الكبار والمعتّقين في الحزب الشيوعي". بعض الطلاب والطالبات الذين ينتمون للحزب عرفوه مباشرة. فقالت إحدى الطالبات الحزبيّات وهي تقصد المفاخرة والمباهاة بجرأة حزبها ورجالاته: "كلّ الشيوعيّة بستحوش!" فقلت أستفزّها هي الأخرى: "معك حقّ، كلهن قاطعين شرش الحيا". ضحكوا مرّة أخرى فأدركتِ الطالبة ما في جملتها من قَطْعٍ وإيجاز وتشويه فاحمرّت كعلم الشيوعيين أنفسهم... اختصرتُ الكلام وقلت أستغلّ الموقف كلّه وأستثمره في ثلاثة أمور مفيدة موصولة بعلوم اللغة المختلفة. رحّب الطلاب بالفكرة:

 الأول: اللغة والتراث. الحكّة التي عناها أبو إبراهيم هي الجَرَب (الحِكَّة بالفصيحة). ذاك المرض الجلدي اللعين الذي كان يصيب البهائم بشكل خاصّ فتظلّ تهرش وتحكّ جلودها بجذوع الأشجار الخشنة حتى تدمى. وكنت أراقب الفلاحين وهم يدهنون جلودها بالقطران. كان الفلاحون يسمّونكلّ مرض جلدي بآثاره. فما يسبّب الحكّ والهَرْش فهو "حْكَاك"، حُكاك بالفصحى. وكنت أرى النسوان يفركن كِعاب أرجلهنّ بحجارة سوداء خشنة يجمعنها من الوديان. اسم الحجر منها كان "حَكّاك" أو "مَحَكّ"، هكذا كنت أسمعهم يقولون. والمِحَكّ في اللغة هو الحجر الذي كان يُستعمل لحكّ المعادن لاختبار قيمتها وجودتها. ومن هنا بالضبط وُلد التركيب الاصطلاحي "وَضَعَه على المِحَكّ"، أي وضعه تحت التجربة والاختبار.

الثاني: اللغة والتداول (البراجماتية اللغوية). حين قالت تلك الطالبة "كلّ الشيوعيّة بستحوش" كان قصدها خيرًا. لكن من أين هذا الالتباس والارتباك بين القول والقصد؟ المسألة مسألة تداول. معاني الاستحياء من الحياء. وهي موسومة بالفضائل، والكلّ يعلمها ويحفظها. في الحديث النبوي الشريف "إذا لم تستحْيِ فافعل ما شئت". وقليل الحياء قد يفعل كلّ شيء مهين.. لكنّ هناك أمورًا لا يصحّ فيها أو معها الحياء، مثلما لا تصحّ الصلاة مع السُكْر مثلا. في القرآن الكريم:"وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ" (الأحزاب: 53). والمعنى على العموم أنّ الله تعالى لا يستنكف ولا يخشى ولا يمتنع ولا يترك قول الحقّ حين يجب قوله وإشهاره. ما حدث أنّ الناس في التداول اللغوي أخذوا التركيب القرآني "لا يستحيي" واختصروه وقطعوه عن ملحقاته ومستلزماته التعبيرية فأطلقوه وعمّموه فصار بالتالي يحمل معنى مقلوبًا مشوّهًا، بالضبط مثلما يحمل التركيب المختصر والمقطوع "لا تقربوا الصلاة" في سورة النساء (الآية: 43).

الثالث: اللغة والآيديولوجيا. وهذه جزئية من علم اللغة الاجتماعي.لا شكّ في أنّ الجرأة في الخطاب هي من مصاحبات كلّ تنظيم حزبي، خصوصًا إذا كان معارضًا، وهي من ضرورات كلّ آيديولوجياثورية كفاحية هجومية على العموم. كان الحزب الشيوعي في دوره التاريخي يتنقّل في خطابه بين الدفاع المستميت والهجوم العنيف حسب متطلّبات الظرف. من هنا ظلّ خطابه صداميًا ولغته حادّة وعنيفة أحيانًا تجعل الحزبيين معروفين بطول اللسان في دفاعهم عن فكرهم ومعتقدهم ووقوفهم في وجه التحدّيات. وهكذا في المحصّلة الأخيرة تصير اللغة نفسها جزءًا عضويًا من موقف آيديولوجي لا تنفصل عنه.

على كلّ حال، الرفيق توفيق دعا عليّ بالحكّة، وأنا وضعته على المحكّ فكان السبب في كلّ هذه المقالة... الله يسامحك!

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب