news-details

كيف أصبحتُ عاشقًا للّغة العربية

كتب: د. محمد حبيب الله

ان ما أوحى لي بكتابة هذا المقال، مقالٌ كتَبهُ صديقي الحميم الأستاذ سهيل عطالله في جريدة "الاتحاد" قبل مدّة وفي زاوية "صباح الخير" التي يحرص أبو الذيب على أن يُطل علينا من خلالها صباح كل ثلاثاء لقد جعلني هذا المقال أعيش من جديد مع أساتذة علموني اللغة العربية في مراحل تعلّمي المختلفة بين (1950 – 1960)، وقد نجحوا في غرس نبتة في نفسي هي لغتنا الجميلة... هذه النبتة نمت وترعرعت وكبرت وأثمرت ولا زالت شجرة يانعة تثمر حتى اليوم. فما كان للأستاذ سهيل أستاذ للعربية أسمه شكيب جهشان وهو الشاعر والعلم المعروف للجميع، فقد كان لي أيضًا أكثر من أستاذ أحببتهم وأحببت بسببهم اللغة العربية. لقد علموني أن أعشق اللغة وأتغنّى بها مرددًا دومًا ما قاله الشاعر اللبناني حليم دموس في لغتنا العربية:

 

لا تلُمني في هواها
نَزَلَتْ في كلِّ نفسٍ
 

 

أنا لا أهوى سواها
وتمشَّت في دماها
 

 

هذه اللغة التي أتمثلُ دائمًا بها وبما قيل فيها فهي:

 

لغةٌ إذا وقعت على أسماعنا
ستظلّ رابطةً توحّد بيننا
 

 

كانت لنا بردا على الأكباد
وهي الرجاء لناطق بالضاد
 

 

لقد حملتُ طول حياتي لها شعارًا ورفعته عاليًا، فكانت هذه اللغة "لغتي هويتي" ومنها استمدّ انتمائي لشجرة العروبة والتي قلت فيها في إحدى قصائدي متصديا قانون القومية التعيس ومحاولات  السلطة الحاكمة تحييد هذه اللغة  واخراجها من دائرة اللغة الرسمية الثانية في هذه البلاد , واعطائها مكانة ثانويه . قلتُ:

 

لغتي تظلّ هويّتي
 

 

لا أرتضي مسًّا بها
 

 لقد ذكرتني يا أبا الذيب بستة معلمين نجحوا في تحبيب اللغة العربية إلى نفسي وعلموني ان أعشقها، لقد كان كل واحد منهم أستاذًا كبيرًا لي وصديقًا قريبًا من  نفسي، أستاذا في داخل الصف وصديقًا ومعلمًا خارج الصف. كنت أنا وطلاب صفي نأنس لسماعهم وتدخل كلماتهم قلوبنا وعقولنا بدون استئذان، فقد عرفوا تربويًا ان القلب هو مفتاح العقل والطريق إلى عقل الولد قلبُه. وكأني بهم كانوا يحملون مفتاحًا سحريًا يفتحون به قلوبنا ويغرسون فيه حب اللغة العربية.

كنت في المدرسة طالبًا محبًّا لدروس اللغة وكان "درس المحفوظات" يستهويني بشكل خاص. لقد حظيت من البداية وفي الصفين الثالث والرابع بمعلم هو الأول في القائمة وهو الأستاذ محمود عبد الفتاح أطال الله بعمره. وهذا المعلم كان معلمًا وشاعرًا يجيد الإلقاء الجميل، وكان يجعلنا نتفاعل مع الأجواء التي احتوتها القصيدة. تعلمت على يد هذا المعلم القصائد الجميلة من شعرنا الكلاسيكي الخالد وتعلمت على يده الشعر العربي الأصيل، وسَرَت بي عدوى عشق العربية، لا زلت أردّد أشعارًا علمني إياها مثل قصيدة "أنا محيّوك يا سلمى فَحَيّينا". وقصيدة "أنا المحبوبة السمرا" وقصيدة بشر بن عوانه التي يقول فيها:

 

أفاطم لو شهدتِ ببطن خبثٍ
اذن لرأيتِ ليثًا أبيّ ليثٍ
 

 

وقد لاقى الهزبُر أخاكِ بشرا
هزبرًا أغلبًا لاقى هزبرا
 

 

لا زلت أحنُّ إلى قصيدة الصمّة بن عبد الله "حننت إلى ريّا" والتي قال فيها:

 

بِنفسي تلك الأرض ما أطيبَ الرّبا
 

 

وما أطيب المصطاف والمتربّعا
 

 

لقد زرع هذا المعلم بي  نبتة اخرى نمت وترعرعت لاحقًا ألا وهي نظم الشعر مقلّدًا في البداية قصائد أحببتها وناظمًا على غرارها شعرًا من تأليفي. على أني بدأت فيما بعد، وبدءًا من المدرسة الثانوية بنظم وكتابة قصائد في الغزل ووصف الطبيعة، هذه القصائد التي احتواها ديواني الشعري "أنا والعمر سائران صحابا" والذي صدر في السنوات الاخيره. لقد كان الوقع الموسيقي عند أستاذي هذا عند إلقائه القصائد موحيًا لي بنظم الشعر على أوزانه المختلفة، هذه الأوزان التي تعرّفت عليها متأخرًا وحفظت بسببها القصيدة التي نظمها شعرًا صفي الدين الحلّى واستعرض في أبياتها أوزان وبحور الشعر للخليل بن أحمد، الامر الذي سهل عليّ دائمًا معرفة الوزن أو البحر الذي قيلت فيه أي قصيدة اسمعها، وتكوّنت عندي بذلك اذن موسيقية نستطيع تمييز الشعر الموزون من الشعر المكسور وعلى سبيل المثال أذكر منها الحلي أبياتًا تتصل بالبحر "الوافر" والبحر "البسيط" والبحر "الطويل" كقوله:

 

بحور الشعر وافرها جميل
ان البسيط لديه يُبسط الأملُ
طويل له دون البحور فضائل
 

 

مفاعلتن مفاعلتن مفعول (الوافر)
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعِلُ (البسيط)
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعِل (الطويل)
 

 

لا زلت أذكر هذا الأستاذ الذي كان يتحمّس في إلقاء القصيدة لدرجة كان يحمّر فيها  وجهه من شدّة الإنفعال متقمصًّا الشاعر الذي قالها والمناسبة التي قيلت فيها.

أما معلمي الثاني الذي ترك بي أثرًا عميقًا فهو الأستاذ خالد الصفدي الذي علمني في الصفين السابع والثامن. لقد علمني أبو الرافع كيف أكتب الإنشاء وكيف أختار الألفاظ والتعابير. لقد شجّعني على المطالعة التي كانت أساسًا في بناء ثروتي اللغوية... لا زلت أذكر ملاحظاته المشجّعة التي كان يُذيّل بها كل موضوع إنشاء أكتبه، ولا زلت أذكر كيف انفعل عندما استعملت في أحد المواضيع كلمة "هذا" عند القول: "هذا... وقد أفاد السيد فلان بأن.... قال لي يومها: "أسلوبك في الكتابة ينبئ بكاتب ناجح في المستقبل ولديك أسلوب الصحفي والإذاعي وكاتب  "نشرة الأخبار". من أستاذي هذا تعلمت كيف أكتب مستقبلاً المقالات المنوّعة في الجرائد والصحف.

أما في المدرسة الثانوية فقد حظيت بمعلمين اثنين آخرين، احدُهما الأستاذ حنا إبراهيم، طيب الله ثراه في الصفين التاسع والعاشر والثاني الأستاذ حبيب حزان في الصفين الحادي والثاني عشر. لقد كشف هذان الأستاذان لي القناع عن وجهي اللغة العربية. الوجه النحوي من قِبَل الأستاذ حنا إبراهيم والوجه الأدبي الشعري من قِبَل الأستاذ حبيب حزان، لقد حببني الأول بالقواعد العربية وحببني الثاني بالأدب العربي، شعره ونثره. كان الأستاذ حنا إبراهيم في دروسه كالدولاب يلفّ ويدور ولا يتعب فأحس انه يحمل قلبًا مشتعلاً يحاول دائمًا اطفاء النيران فيه ومحاولاً حلْ المعضلات اللغوية. كانت دروسه في القواعد مثيرة وكان يقف عند كل شاردة وواردة في النحو العربي اما الأستاذ حبيب حزان "أبو الأديب" فقد كان يعجبني بشخصيته الرزينة وعشقه للغة العربية وهدوئه النفسي في الدروس. كنت أجد متعة في دروس الأدب عنده، وعلى يده تعلمت أن أحب الشعر والشعراء.

أما الأستاذة هيله ابراهام التي كانت تشغل وظيفة مفتشة على اللغة العربية وكانت عراقية الأصل وخريجة جامعة "بغداد"، فقد علمتني موضوع اللغة العربية في دار المعلمين بين السنوات (1958 – 1960)، لقد علمتني كيف أغوص في لُجّة وبحر الشعر العربي من خلال الغوص في ديوان المتنبي وسبر أعماقه واستخلاص الصفات التي تجلّى بها هذا الشاعر العملاق حكيمًا وفيلسوفًا ونبيًّا، شاعرًا ملأ الدنيا وشغل الناس، شاعرًا قال:

 

أنام ملء جفوني عن شواردها
 

 

ويسهرُ الخَلْقُ جرّاها ويختصمُ
 

 

شاعرًا صار كثير من أبياته الشعرية مضربًا للأمثال مثل قوله:

 

أعزّ مكان في الدنا سرج سابح
 

 

وخير جليس في الزمان كتاب
 

 

وقوله:

 

ما كلُ ما يتمنّى المرءُ يُدرِكُهُ
 

 

تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ
 

 

وكذلك قوله:

 

ومن يكُ ذا فم مُرٍّ مريضٍ
 

 

يجدُ مُرًا به الماء الزّلالا
 

 

وغير ذلك كثير كثير.

 

لقد جعلتني هذه الطريقة في التعليم أتبنى أسلوب البحث الأدبي والتحليل في معالجة الشعر العربي، واستخلاص الكثير عن حيات وصفات الشاعر من قصائده.

وأخيرًا لا بد من الوقوف عند معلم آخر، لم يعلمني. إلا أنني تعلمت منه كثيرًا من معلم خلال اثاره الأدبية وكتبه في تعليم القراءة، أقصد بذلك سلسلة كتب "الجديد"، انه الأستاذ والمعلم والمربّي وأحد أعلام الفكر التربوي الفلسطيني الحديث الأستاذ خليل السكاكيني. فقد كان المثال الفعلي للمعلم ،وكان نموذجًا لازلت  أعيشه حتى اليوم في حبه للغة العربية، فقد تعلمت  أن أعشق هذه اللغة من خلال ما كتبه في كتاب "كذا أنت يا دنيا" وكتب "الجديد" التي ذكرتها آنفًا.

هذا المعلم لم التق به  ولكني عشت معَه كما لو كان حيًّا وأصبح مثلي الأعلى في كيفية تعليم العربية وتحبيبها للطلاب بأسلوب شيق وعلمني كيف أكون مؤلفًا حقيقيًا لكتب القراءة وكتب فهم المقروء، كان خليل السكاكيني رائدا في وضع كتب القراءة "الجديد" للصفوف من الأول حتى الرابع، وفي وضع مرشد تعليمي لكل كتاب. هذا الأمر الذي تنادي به التربية الحديثة اليوم. فقد سبق عصره في وضع أُسس القراءة وفهم المقروء ستين سنه قبل ظهور اهميته في اساليب التعليم الحديث  وقد اكتشفت هذا الأمر عندما تخصصت في أمريكا في موضوع القراءة وفهم المقروء، فوجدت انه سبق الغرب في نظرياته حول القراءة وكيفية تناول أي مادة مقروئية ومهاجمتها بواسطة ما نسميه قراءة السطور وقراءة ما بين السطور وقراءة ما وراء السطور أو وبكلمات أخرى القراءة الحرفية والقراءة التفسيرية والقراءة الإبداعية والقراءة الناقدة. لقد علمني كيف على المعلم أن يسأل في كل درس قراءة أو بعد قراءة ومطالعة أي كتاب أو قصة: "ماذا قال الكاتب؟" و "ماذا قصد الكاتب" و "ما رأيك فيما قرأته" و"هل تقترح بديلاً من عندك لما ورد في المادة المقروءة أو القصّة التي طالعتها؟" لقد تعلّمت من خليل السكاكيني الاسلوب الذي كان يتناول فيه  موضوع  تعليم اللغة العربية. كان السكاكيني مفتشا للغة العربية فكان في زياراته للمدارس كما ذكر ذلك في كتابه "مذكرات" يصف فيها  ما جرى بينه وبين المعلم داخل الصف عندما كان يزور عكا وحيفا والناصرة، وكيف كان يأخذ زمام الأمور بعد مشاهدة الدرس، ويطلب من المعلم إذنًا بأن يقوم هو بدوره، فيُسلّط الأضواء على الدرس ويبدأ وبأسلوب شائق ودون أي نيّة بالمس بالمعلم. كان  يطرح أسئلة كثيرة يتحوّل الطلاب من خلالها إلى باحثين وناقدين ويضعون النقاط على الحروف في أمور حياتية يومية تتعلق بفحوى الدرس، مثال ذلك ما فعل عندما شاهد درسًا علم فيه المعلم قصيدة بشر بن عوانه "افاطم لو شهدت...." حينها استأذن المعلم ووقف أمام الطلاب وقال لهم: "كنت مسافرًا في سفينة أشرفت على الغرق، فأيّ بيت من القصيدة تختاره وتتمثّل به، استعرض الطلاب أبيات القصيدة ثمّ قال أحدهم البيت هو:

 

أنِل قدميّ ظهر الأرض إني
 

 

وجدتُ الأرضَ أثْبتَ منكِ ظهرا
 

 
وهو البيت الذي قاله الشاعر في القصيدة عندما ركب ظهر الأسد وصار الأسد يتحرّك ويقفز عاليًا لكي يتخلّص منه. وهنالك امثلة كثيرة اخرى اوردها السكاكيني في كتابه ، ووصف فيها ما كان يحدث معه في زياراته لعكا وحيفا والناصرة .

وأخيرًا وفي نهاية هذا المقال، اسمح لي يا صديقي يا أبا الذيب أن أقتبسك في مقالك الذي أشرت إليه في بداية مقالي، فأساتذتي كانوا أيضًا يحتضوننا بإيصال التواصل مع العربية ومبدعيها، وباللحاق بأفكار المبدعين منهم وبإيحاءاتهم لنا في حبّ اللغة العربية، هذا الحبّ الذي تحوّل إلى عشق لها وعشق لما تركوه في ذاكرتنا من جمال الشعر، قديمة وحديثه، أولئك كانوا معلمينا صغارًا وكبارًا، معلمي "أيام زمان"، ويطيب لنا ذكرهم  نتوق لذكراتهم ونَحِنُّ للأيام التي قضيناها معهم. فمن يأتينا اليوم بمثل هؤلاء!! أشعر اليوم بالأسى والحزن والرثاء لأولادنا الذين لا يحظون بمعلمين مثلهم. فما نراه اليوم في المدارس وجود معلمين للعربية تنقصهم في غالبيتهم صفات المعلم الذي يسري في عروقه مصل محبة اللغة وعشقها. لا أرى في غالبيتهم المعلم الذي يمتلك ناصية اللّغة ويصول ويجول  في محيطها الواسع... لا أرى في غالبيتهم من اكتملت به صفات على كل معلم أن يمتلكها، وهي أولاً أن يعرف اللغة، نحوها وصرفها وأدبها وأعلامها قديمًا وحديثًا. وثانيًا ان يتقن اللغة قراءة وكتابة وتكلمًا وفهمًا، وأرى ان ما قاله أحمد أمين في كتابه "فيض الخاطر" في مقال عنوانه "أسباب الضعف في اللغة العربية قبل ثمانين سنة، كيف أن معلمي اللّغة العربية حين ذاك  "لا ينجحون في قراءة جملة إلاّ وأخطأوا بقدر عدد الكلمات التي يقرأونها"  هذا الوضع الذي ينطبق اليوم  على معلمي اللغة العربية في غالبهم. فمعلمونا اليوم هم خريجوا أقسام التربية في الجامعات الإسرائيلية، يذهبون للجامعة بعد انهاء الثاني عشر دون أن يمتلكوا ناصية اللغة ومهاراتها الأساسية والجامعة لا تعلّمهم مهارات العربية الأساس من قراءة وكتابة وتكلم وإصغاء، مع علمهم بأن غالبية الطلاب العرب سيتخرجون من قسم اللغة العربية ليصبحوا معلمين في مدارسنا الثانوية، فيركزون في الجامعة  بدل ذلك على منهج البحث العلمي في مجال اللغة. لقد كان الأجدى أن تترك الجامعات هذا للقب الثاني، ويعلمون الطلاب – "معلمي المستقبل" كيف يقرأون وكيف يكتبون وكيف يتكلمون وكيف يفهمون. وبالإضافة إلى ما ذكر أعلاه، ان يغرس في الطلاب/ معلمي المستقبل حب اللّغة وعشقها وبنفس الروح التي كان يتحلّى بها معلمو أيام زمان...

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب