news-details

كيف ينظر اليمين الصهيوني إلى ظاهرة منصور عباس على أنها انتصار لمشروعه؟| حسن مصاروة

يبدأ الكاتب اليميني الصهيوني، د. دورون متسا، مقاله في صحيفة اليمين الاستيطاني، "مكور ريشون"، بتوجيه اللوم إلى أوساط في معسكره اليميني، وإلى الصهيونية الدينية بالتحديد، لرفضها اقامة حكومة يمينية تعتمد على دعم منصور عباس والقائمة العربية الموحدة. ويوجه لومه هذا من مُنطلق اعتقاده بأن هذه الأوساط في الصهيونية الدينية التي ترفض عباس يغيب عنها إدراك أن ظاهرة عباس تشكل في جوهرها انجازًا كبيرًا وانتصارًا لسياسة اليمين الصهيوني تجاه الجماهير العربية داخل إسرائيل، وفي الأساس- كما يمكننا أن نستنتج من كلامه- انتصارًا لليمين في معركته على رسم الحدود السياسية للأقلية العربية في اسرائيل وتقليص كيانها ووجودها ووعيها القومي السياسي، مقابل دمجها كذوات استهلاكية، بل انتصارًا لمشروع قانون القومية ذاته. ولذلك يعتقد أن على اليمين تشجيع ظاهرة عباس ودعمها لا احباطها وصدها.

 

ومتسا لا يتكلم هنا عن ظاهرة عباس كإنجاز تكتيكي آني قصير المدى، يتعلق بتشكيل حكومة يمينية باستغلال استعداد القائمة العربية الموحدة برئاسة عباس، للتخلي عن أي خطوط حمراء ودعم نتنياهو واليمين الاستيطاني، كما تقبل بعض الاوساط في الليكود واليمين على مضض، كمخرج وحيد للحفاظ على حكم نتنياهو وحكومة يمين خالصة.

 

لا، بل متسا يتكلم هنا عما هو أعمق من ذلك، يتكلم عن انتصار استراتيجي لليمين على مستوى بعيد الأمد ويرتبط بمشروع ممتد على مدى سنوات سبقت على مستوى اقتصادي- اجتماعي وأيديولوجي عميق وشامل ومتداخل ومرتبط بتحولات على مستوى الوعي لدى قطاعات واسعة في المجتمع العربي وعلى مستوى طبيعة علاقتها بالدولة واليمين الحاكم ومشروعه.

 

يقول متسا في مقاله إن المواقف التي تتخذها أوساط في الصهيونية الدينية ضد قبول دعم عباس، تُفوت المعنى التاريخي الذي يقف خلف ظاهرة عباس، والتي يعتقد أنها "لا تشكل فقط نوعًا من انجاز غير مسبوق لسياسة اليمين الإسرائيلي في مسألة العرب في إسرائيل بل وتنسجم ايضًا مع اساسات السياسة الصهيونية تجاه الاقلية العربية".

 

وفي مسح تاريخي لطبيعة تعامل الدولة مع الأقلية العربية في اسرائيل، يخلص متسا إلى أن النهج الاسرائيلي الذي تبنته كل حكومات اسرائيل دون صلة بهويتها السياسية كان يستند الى تشكيل الوجود العربي في اسرائيل على شكل ما يصفه بالـ"جيب"، أي تلك المنطقة مُنفصلة عن إقليمها داخل إقليم آخر غريب. بسبب أن هذا الكيان العربي من جهة يوجد له حضور وسيطرة في داخل المجال الاسرائيلي – اليهودي ولكن من جهة اخرى توجد له ايضًا نقطة سيطرة خارجه، لمجرد صلته العرقية والثقافية بالمجال العربي الفلسطيني.

ويقول الكاتب إن البدائل الاستراتيجية كانت متعذرة لأنها كانت تنطوي على تحدٍ لمجرد الفكرة الصهيونية للقومية اليهودية. وعليه، فإن البديل الوحيد للتعامل مع واقع الاقلية العربية كان أن تتموضع في الـ "مجال الوسط" الذي بين الصهيوني-اليهودي، وبين العربي-الفلسطيني.

 

ويقول إن التحدي الاكبر لدولة اسرائيل منذ قيامها، وبقوة أكبر منذ اواخر 1966 – حين رفع الحكم العسكري عن الاقلية العربية، بشكل سلمت فيه دولة اسرائيل مع تواجد هذه الأقلية الدائم في داخل الدولة - هو شحن هذا الـ "مجال الوسط" بنوع من المحتوى الذي يسمح بتحويل اليأس لأن يكون أكثر راحة، سواء للأقلية أم للأغلبية.

 

ويتابع متسا ليقول إنه منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي، وحتى بداية القرن الحالي، تحدد محتوى الـ" مجال الوسط" من خلال فكرة المساواة والمواطنة المشتركة. بمعنى أن الاقلية العربية الفلسطينية لا يمكنها أن تستوعب بشكل كامل من جهة ولا يمكنها أن تعرف نفسها بتعابير قومية من جهة اخرى، ولكن يمكنها أن توجد في الدولة على أساس مبدأ المساواة المدنية، على أساس شخصي وقدرة وصول وظيفية – مدنية الى المجال العام الاسرائيلي.

لكنه يستدرك قائلاً، إن فكرة المساواة المدنية تحولت مع السنين، وبشكل أساسي مع حلول التسعينيات، مع الثورة الليبرالية في اسرائيل، الى أداة في يد القيادة العربية السياسية والثقافية لرفد الكفاح في سبيل ردم الفوارق الاجتماعية – الاقتصادية بين المجتمع العربي واليهودي. مثل "يد أدخلت الى الكم لقلبه على جانبه الاخر"، هكذا تحول مفهوم المساواة المدنية التي كانت تهدف من ناحية الدولة لان تكون محتوى الـ"مجال الوسط – أصبحت اداة بواسطتها تكافح القيادة العربية لتقويض فكرة الدولة "اليهودية-الديمقراطية". وذلك من خلال استبدال المطالبة بالمساواة السياسية من فكرة شخصية – خاصة الى فكرة جماعية – قومية.

وهذا ما يُمثل بالنسبة للكاتب، وللمؤسسة الصهيونية الحاكمة ولليمين الصهيوني خطرًا كبيرًا عليها، أي تحول فكرة المساواة المدنية إلى أداة بيد الجماهير العربية لغاية تحطيم نموذج الـ"جيب" الصهيوني – اليهودي الذي طبق عليها على مدى سنوات، واعادة تعريف جوهر الـ"مجال الوسط" الذي تحدد للأقلية العربية من قبل المؤسسة الصهيونية الحاكمة نحو الانطلاق من مبدأ المساواة السياسية إلى تحويل الدولة إلى ثنائية القومية تعطي الأقلية العربية حقوقها القومية الكاملة. هذا المسار الذي قادته كل من الجبهة والتجمع، على حد تشخيص الكاتب.

 

وأمام هذا الخطر المنبثق من تصاعد الوعي السياسي لدى الجماهير العربية واستغلالها للمساواة المدنية من أجل الاستئناف على طبيعة الدولة اليهودية ونضالها من أجل ترسيخ حقوقها القومية، يعتقد الكاتب أنه في هذه النقطة قام اليمين الاسرائيلي بـ"الثورة الفكرية الكبرى"، وعمليًا استبدل فكرة المساواة المدنية التي حددتها ما سماه "حكومات اليسار" منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي بفكرة "الاندماج الاقتصادي: الذي قام على اساس الجهود للتمكين الاهلي للمجتمع العربي في مجالات اقتصادية واجتماعية. قوة الفكرة التي استندت الى أساسات مفهوم "السلام الاقتصادي" لليمين والى رؤية اقتصادية نيوليبرالية".

 

من زاوية النظر هذه، ينظر الكاتب مثلا لنظرة أيديولوجيي اليمين إلى إنسحاب منصور عباس من القائمة المشتركة، وانجازاته الاخيرة في الانتخابات على أنها تعكس "مسيرة هامة وذات مغزى من التغيير في مفهوم العمل والتفكير لدى أجزاء من القيادة العربية أيضًا".  

 

ويعتقد أن "الخطاب الاجتماعي – الاقتصادي الذي تبناه عباس على حساب التقليص المطلق للخطاب القومي – السياسي ليس فيه فقط نوع من التسليم التاريخي من جانب القيادة العربية للفكرة الصهيونية وللنموذج الوسط، ذاك الذي يسعى لموضعة الاقلية في المجال الوسط الذي بين الخارج وبين الداخل بل ترسيخ للمحتوى الجديد والمحدث لذاك المجال، القائم على نموذج الاندماج الاقتصادي الذي عرفه في حينه رئيس الحكومة نتنياهو كنموذج دبي."

 

أي أن الكاتب يقول بكلمات غير مباشرة، أن ظاهرة منصور عباس تعبر عن ارتداد عن مشروع الجماهير العربية السياسي القومي نحو تحقيق المساواة القومية الحقيقية والسعي لتغيير طبيعة الدولة بواسطة استغلال مساواتها المدنية، إلى الاندماج في مشروع اليمين الذي يضع حدًا أمام تطلعات الجماهير العربية نحو حقوقها القومية، بل يسحب منها مُنجز المساواة المدنية ذاتها- تلك الأداة التي استخدمتها الجماهير العربية لتحقيق نتائج خطيرة على المشروع الصهيوني، وفق نظرة المؤسسة الحاكمة واليمين-مقابل الاندماج الاقتصادي كذوات استهلاكية.

 

ويختتم الكاتب بالقول إن الحديث هنا يدور حول "نجاح عظيم لسياسة حكومات اليمين في العقد والنصف تجاه الأقلية العربية والتي الى جانب مسيرة وضع الحدود من قبل الحكومة لهذه الأقلية، بما في ذلك من خلال قانون القومية في العام 2018، استطاعت أن تضع مضمونًا فكريًا تُرجم إلى خطوات عملية"- ومن ربط الكاتب هذا بين قانون القومية ومشروع الاندماج الاقتصادي للمجتمع العربي الذي وضعه اليمين، نستطيع نحن أن نفهم ايضًا قبول منصور عباس بقانون القومية واختياره عدم التحدث عنه في أي من المفاوضات مع الكتل البرلمانية، والتسليم بواقعه عبر القول بالحرف إنه "على الأقل لم يسحب مواطنتنا". فهذان مساران متوازيان، أي تحديد سقف الطموح القومي للجماهير العربية ومنعها من مواطنتها الكاملة ونفيها من دائرة المساواة السياسية، مقابل منحها مسار الاندماج الاقتصادي كذوات مستهلكة، أو بلغة عباس: "ميزانيات" و"انجازات ملموسة".

وينهي متسا مقاله متوجهًا إلى معسكره، اليمين، ويلوم أوساطا منه، لرفضها لامكانية التعاون السياسي مع منصور عباس، لأنها على حد تعبيره "تفوت فرصة فهم التحول في أوساط المجتمع العربي الذي يمثله منصور عباس- هذا التحول الذي من مصلحة اليمين الصهيوني دعمه وتشجيعه".

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب