news-details

لبنان لن يُساوم على سيادته وعِزَّةِ أبنائِهِ | صلاح دباجة

 ما يخرج لبنان من ازمته الحالية هو عدم الرضوخ للقوى الامبريالية، وتشكيل حكومة وطنية انتقالية

 

أنجرف الإعلام العربي، بمعظمه، نحو المُنحدر الذي قاده إليه الإعلام الغربي والإسرائيلي، بعد الكارثة الانسانية والاقتصادية التي حلت بالعاصمة اللبنانية بيروت بسبب الانفجار الضخم والمشبوه في مرفئها والذي أسفر عن سقوط أكثر من 170 أنسان وإصابة ما يزيد عن ستة آلاف آخرين وفقدان عشرات المواطنين تحت الأنقاض وفي البحر وتشريد أكثر من 300 ألف شخص من منازلهم ودمار هذه المنطقة الجميلة في محيط المرفأ بسعة 9 كيلومترات ، هذا عدا عن الخسائر الأخرى في المرفأ والبنى التحتية والمصالح الاقتصادية والتي يقدرها المسؤولون اللبنانيون بـ 15 مليار دولار.

والغريب انه حال وقوع الانفجار المؤلم سارعت كل من إسرائيل والولايات المتحدة لـ"مواساة" اللبنانيين وابداء الرغبة في تقديم "المساعدة" ، ذرفتا دموع التماسيح لما يجري في لبنان ومحملتا حزب الله المسؤولية عن ذلك، على الرغم من عدم وضوح أسباب الانفجار بعد!!

ولم تتورع إسرائيل، فور وقوع الانفجار عن الادعاء بان العنبر 12 في مرفأ بيروت، الذي تم فيه تخزين شحنة نترات الأمونيوم شديدة الانفجار والتي تزن 2750 طن ما هو الا مخزن لصواريخ حزب الله !! كذلك الادعاء بأن حزب الله استهدف العنبر 12 بأحد صواريخه مسببا هذا الانفجار الذي وصلت أصداءه حتى جزيرة قبرص !!

هذه مجرد مهاترات لا أساس لها في الواقع وهي تكشف حقيقة نوايا إسرائيل الخبيثة. فمرفأ بيروت يعتبر شريان الحياة ليس فقط للبنان وانما أيضًا لسوريا المحاصرة بالعقوبات الامريكية ويمر عن طريقه ثلث الاستيراد السوري وعن طريقه تخرج الصادرات السورية، فحزب الله في مثل هذه الحالة بعيدٌ كلُّ البُعْدِ عن اتهام رخيص كهذا. 

هذه السرعة في كيل الاتهام من جانب امريكا وإسرائيل قد يكون لها تبرير واحد ووحيد وهو إشعال حرب أهلية في لبنان قد تحرق الاخضر واليابس في هذا البلد. وكذلك في محاولة للتغطية على ما تقوم به وكالة الاستخبارات الامريكية "السي أي ايه" والموساد الاسرائيلي من انشطة عدوانية ضد دول وشعوب المنطقة واخرها التفجيرات الإسرائيلية السيبرانية المتكررة في إيران، التي استهدفت منشآتها النووية في نتنز وميناء بندر عباس. وهناك من لا يستبعد ان يكون للولايات المتحدة دور كبير في هذه الكارثة خاصة وان الأمر بإيقاف السفينة الجورجية التي كانت ترفع علم مولدفا وتحمل شحنة الأمونيوم في العام 2013 في ميناء بيروت جاء بطلب من امريكا لمنع وصول الشحنة إلى موزمبيق. ومن البديهي في مثل هذه الحالة ان تتعقب "السي أي ايه" والموساد وأقمار التجسس الامريكية مصير هذه الشحنة طيلة هذه السنوات.

يبدو ان الاعلام العربي نسى او تناسى ان الأسطول السادس وحاملة الطائرات الامريكية قصفا بيروت في العام 1982 بوحشية لا مثيل لها دعما للحرب العدوانية على لبنان التي شنتها إسرائيل بهدف القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وانتهت بالمجزرة المروعة في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين وبخروج القيادة الفلسطينية والمقاتلين الفلسطينيين من لبنان واحتلال جنوب لبنان حتى العام 2000. كما سبق ذلك في العام 1977 الحملة العسكرية الاسرائيلية على جنوب لبنان تحت أسم "سلامة الجليل" واستخدمت اسرائيل فيها كل انواع السلاح.

ثم تلا ذلك الحرب العدوانية على لبنان 2006 بهدف تجريد حزب الله من اسلحته لكنها فشلت في تحقيق ذلك. فهذه الحروب وغيرها من الانتهاكات والاعتداءات شبه اليومية للجيش والطيران الاسرائيلي الحقت بلبنان والشعب اللبناني عشرات أضعاف الخسائر البشرية والاقتصادية مما الحقته الكارثة في مرفأ بيروت دون ان تُنَبِّه الولايات المتحدة والعالم بما ترتكبه إسرائيل من جرائم في لبنان !!

فلماذا اليوم تذرف اسرائيل ومعها الولايات المتحدة دموع التماسيح على الكارثة في المرفأ ؟! ، خاصة وان التهديد الاسرائيلي بإعادة لبنان الى العصر الحجري ما زال ماثلا امامنا حتى هذه الساعة.

يبدو ان الولايات المتحدة، بعد ان تيقنت من انها غير قادرة في ظروف أسوأ ازمة اقتصادية وسياسية واجتماعية يعيشها لبنان من فرض املاءاتها عليه، تحاول الان مستغلة هذه الكارثة للعودة الى الساحة اللبنانية والتأثير على الأطراف لاستبعاد حزب الله من أي حكومة في المستقبل حتى لو اذى ذلك الى اندلاع حرب طائفية في لبنان. فتهديدات وزير الخارجية الامريكية مايك بومبيو وكذلك تهديدات السفيرة الامريكية لدى لبنان، دوروثي شيا، وكذلك ضغوط صندوق النقد الدولي فشلت في تحقيق ما تريده الإدارة الأمريكية واسرائيل. عدا عن ان لبنان لم ينصع للقانون الامريكي التعسفي والذي يحمل اسم قانون قيصر ويفرض العقوبات على كل انسان او كيان يتعامل مع النظام السوري.

وتسعى القوى الإمبريالية، هذه المرة بقيادة الرئيس الفرنسي ماكرون، الى استغلال الكارثة للضغط من أجل تطبيق "الإصلاحات" الاقتصادية التي يمليها صندوق النقد الدولي، والتي لن تؤدي إلّا إلى  تفاقم الازمة وإلى المزيد من المآسي للشعب اللبناني لتمكين الإمبريالية من فرض هيمنتها على هذا البلد بالتعاون مع حلفائها الفاسدين في الحكم.

وتصريح مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، في الوقت الذي كانت فيه عمليات إنقاذ الناس من تحت الأنقاض ما تزال جارية، اذ قالت: "يختبر صندوق النقد الدولي جميع السبل الممكنة لدعم الشعب اللبناني . من الضروري التغلب على المأزق الذي وصلته المناقشات حول الإصلاحات الحاسمة، ووضع برنامج هادف لتغيير مسار الاقتصاد وبناء المساءلة والثقة في مستقبل البلاد"، ما هو الا تأكيد على اصرار القوى الامبريالية في محاولات بسط هيمنتها على لبنان بهدف اضعاف حزب الله ومحاصرة تمدد النفوذ الايراني في المنطقة وإحكام الحاصر على الدولة السورية وكل ذلك خدمة لإسرائيل.

فالإصلاحات التي يعتبرها صندوق النقد الدولي حاسمة وضورة تستهدف تقليص ميزانية الدولة على الخدمات وتخفيض الأجور خاصة في القطاع العام وإلغاء دعم الكهرباء وزيادة ضريبة القيمة المضافة وخفض معاشات التقاعد بمعنى آخر تحميل العمال والفئات الفقيرة كامل أعباء الازمة التي تمعقت على مدار عشرات السنين، منذ تسلم رفيق الحريري مقاليد الحكم في بداية تسعينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، بسبب جشع وفساد الطبقة الحاكمة !!

هذا على الرغم من المعطيات الخطيرة التي توقعها البنك الدولي بشأن نسبة الفقر في لبنان حيث ستصل في نهاية هذا العام الى 60%. وان البطالة وصلت في نهاية نيسان الماضي الى 35% والتضخم المالي فاق 400% وان لبنان تخلف عن سداد ديونٍ تتجاوز 178% من الناتج الوطني الكلي وان الكهرباء تقطع 16 ساعة في اليوم الى جانب أزمة النفايات والصرف الصحي، في حين ان نصف اللبنانيين بدون تغطية صحية و75% منهم محرمين من راتب تقاعدي.

هذا في الوقت الذي تضاعف رأس المال المصارف منذ 1992 وحتى اليوم بأكثر من 140 مرة وضاعف شركة بناء تابعة للحريري رأسمالها من 2 مليار دولار في العام 1992 الى أكثر من 22 مليار دولار اليوم.

وفي مثل هذه الاوضاع من الطبيعي ان تتعمق الفجوة الاقتصادية بين السكان بحيث ان دخل 1% من الأغنياء في لبنان ضعف مداخيل نصف السكان عامة. وهذا  الواحد بالمائة يملك  45% من الثروة. وان بضعة من كبار الأثرياء يملكون حوالي 30% من الناتج المحلي وهي أعلى نسبة في العالم.

وعلى خلفيَّة هذه الازمة الاقتصادية تفجرت في 17 أكتوبر 2019 احتجاجات في جميع المدن والمناطق اللبنانية أستمرت شهورًا وأرغمت حكومة الحريري على الاستقالة وتراجعت حدة هذه الاحتجاجات بعد تشكل حكومة حسان دياب وتفشي وباء الكورونا وما أن وقع الانفجار في مرفأ بيروت تجددت الاحتجاجات بشكل اوسع وأعنف مما أضطر حكومة دياب على الاستقالة.

 ان ما يخرج لبنان من ازمته الحالية هو عدم الرضوخ للقوى الامبريالية، وتشكيل حكومة وطنية انتقالية من خارج منظومة الحكم الحالية تعمل على إجراء انتخابات نيابية مبكرة، خارج القيد الطائفي اتخاذ تدابير عاجلة لاستعادة المال العام المنهوب، ووضع نظام ضريبي عادل يطال بالدرجة الأولى الأرباح الرأسمالية والفوائد والريوع والثروة.

وكذلك ضمان الحماية الاجتماعية للمواطنين وتأمين الحق في العلم والصحة والعمل والنقل والسكن والتقاعد والحفاظ على البيئة.

الى جانب صياغة رؤية اقتصادية بديلة للنهوض بالاقتصاد الوطني وقطاعاته المنتجة كبديل للسياسات الاقتصادية المتبعة منذ عام 1992.

وعلى الرغم من كل الأخطار التي تساوِرُنا اليوم بشأن الموقف العدواني لقوى الامبريالية واتباعها في لبنان والانظمة العربية المرتهنة لها في العالم العربي وبشكل خاص في مشيخات وامارات ودويلات الخليج، ومحاولاتها البائسة والمريضة لتصوير الصراع وكأنه بين شيعة وسنة وموارنة، إلّا أنَّ الأمل في تحقيق هذا البرنامج الوطني والإنساني كبير ويعزّزُهُ إصرارُ المُحتجّين اللبنانيين الوطنيين ومن جميع الطوائف والاحزاب على مدار أشهر عديدة على مواصلة انتفاضتهم ضد الفساد والمفسدين وضد كل المتآمرين على مستقبل وسيادية لبنان وعزة ابنائه. وثقتنا كبيرة بعزة وكرامة اللبنانيين وحبهم لوطنهم وطن الثقافة والادب والفلسفة والشعر والغناء والزجل والموسيقى والجمال والكرم وحسن الاخلاق والعزة والانسانية.  

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب