news-details

نخوة وشهامة ووفاء في رحيل فنان| صلاح دباجة

حمامة جُربان شابة عربية شجاعة وجريئة من قرية جسر الزرقاء، القرية الفلسطينية الوحيدة التي بقيت تلامس حدوها البحر، لم تكن معروفة لنا من قبل، احبت قريتها وأهل قريتها وشعبها وشغفت بالبحر وتعلمت الغطس لاستكشاف مكنوناته وجماله وما في احشائه من اسرارٍ ودرر. الى ان وقعت المأساة وابتلع هذا البحر، في نهار عاصفٍ، الفنان العالمي الراقص ايمن صفية ابن قرية كفرياسيف، فهبت هذه الغطاسة الشابة بدافع انساني للمساعدة على مدار اربعة أيام متتالية في البحث عن جثمان الفنان الغريق دون ان يطلب أحد منها ذلك، ودون ان ينتظر أحدٌ من أهل الفنان وأصدقائه ومعارفه مثل هذه النخوة الأصيلة وهكذا فعل العديد من الغطاسين من عكا وجسر الزرقاء والفريديس الذين هبوا بالدافع نفسه للمساعدة مع معدّاتهم وقواربهم ومراكبهم البحرية بدون طلب من احد.

تحية كبيرة صادقة لهذه الغطاسة ولهؤلاء الغطاسين على نخوتهم العربية الأصيلة وعلى ما يتحلون به من اخلاق وانسانية وشجاعة ومسؤولية والتي تعني بالنسبة لنا الكثير الكثير. وهذا ما يعيد للأذهان بان مجتمعنا مازال بألف خير وان القيم الاصيلة لهذا المجتمع راسخة رسوخ الجبال، وان العنف والجريمة المستشريان في مجتمعنا العربي، بتقاعس سافر من السلطة وما يجبيه من ضحايا وما ينزله من مآس، ما هو الا غمامة سوداء متلبدة لا بُدَّ لها ان تنقشع سريعا من سمائنا الصافي.

انسانية وحسن اخلاق الغطاسة حمامة وشعورها بالواجب الانساني وكذلك غيرها من الغطاسين وآلاف المتبرعين الذين تواجدوا على مدار اربعة أيام متواصلة على شاطئ بحر الطنطورة إضافة الى مشاركة الألوف من ابناء كفرياسيف والجليل والساحل والمثلث والجولان المحتل، على الرغم من وباء الكورونا الذي حد الى حد كبير من مشاركة أوسع، في مراسيم جنازة الراقص العالمي الفلسطيني الوطني الطموح ايمن، والتي طغت بهيبتها ووقارها وجمال تنوعها وبالكلمات المؤثرة والاغاني الحزينة التي تخللتها، على كل خزعبلات وتحريض الناعقين الذين يتسترون بعباءات فضفاضة واهية كبيت العنكبوت في هجومهم الوقح على الفن والفنانين وعلى العلم وعلى انسانية الانسان. فأمثال هؤلاء تستروا بمثل هذه العباءات لتبرير حرق العلماء والكتب في الامبراطورية الرومانية وأصدروا صكوك الغفران وكأنهم يمثلون الله على الارض!! وبمثل هذه العباءات برروا محاكم التفتيش في فرنسا واوروبا واعتقلوا العلماء واحرقوا الكتب!! وبمثل هذه العباءات أحرق القائد المنغولي هولاكو مكتبة بغداد وتحت هذه الستائر الواهية احرقوا، حديثًا باحتفالات شعبية، آلات موسيقية في ليبيا. وبمثل هذه الترهات قتلوا ملايين الابرياء في سوريا والعراق ولبنان والسودان واليمن والقتل لا يزال مستمرًا حتى يومنا هذا!! فمن وكّل هذا النفر الظلامي بإصدار الاحكام المسبقة والمقززة بحق الناس؟! انتم اخترتكم برغبتكم الطريق التي توصلكم الى الفردوس المعهود ولم يعترضكم احد. وان من لم يختر هذا الطريق ليس اقل شأنًا منكم وليس من حق احد ان يدين اختياركم كما ليس من حقكم ان تدينوا اختيار الاخرين، الذين لا يرون في هذه الحياة كما ترون انتم.

الحياة فرصة لا تتكرر للإنسان على هذه الارض وهذا ما يزيد من شغفه في الحياة ويعزز لديه الطموح في ان يعيشها على أحسن وجه وباختياره مع مراعاة حق الآخرين الذي لا يقل عن حقه في الحياة، وان متعته في حياته ليست على حساب متعة الاخرين انما تكتمل مع متعة من حوله، وان حريته حق له وتنتهي عندما تمس بحرية الاخرين وان جمال الحياة يكمن في انسانيتنا وتنوعنا وبتقاربنا من بعضنا وتعاضدنا في تسخير الطبيعة لمصلحة بني البشر.

من يحب الحياة يرفض الحرب ويكرس كل قدراته لتحقيق الامن والسلام لينعم بحياة راغدة آمنة. من يحب الحياة يحب عائلته واهل بيته وابناء بلده يحب بيته ويحب بلده ويحب وطنه ويحب عالمه ويحب الناس بكل تنوعهم واختلافهم، يحب الطبيعة ويسعى ليستكشف كل يوم ما هو جميل فيها، يحب البحر والنهر والشجر والحجر والكائنات على هذه الارض وما ينطوي في بطينها من خيرات وثروات ضرورية لحياتنا العصرية. نحب هذه الارض لأنها تحتضن احباءنا واسلافنا نحب هذه الارض لأنها توفر شروط البقاء لنا كبشر، نحب شمسها في شروقها وفي غروبها ونحب قمرها بدرًا وهلالًا ونجومها وكواكبها وسماءها بصفائها وغيومها نحب الطبيعة في تنوع فصولها وتنوع خيراتها نحب سهولها وجبالها وجمالها الخلاب. وصدق شاعرنا الكبير محمود درويش حين قال على هذه الارض ما يستحق الحياة.

أقول هذا الكلام بكل صدق وليس في معرض المزايدة وأقول ان كلَّ من على دينه الله يعينه ولا اسعى الى إستدارج احد الى هذه المواقف. وان من يعمل عملا صالحا، مهما كان صغيرًا، فانه يعزِّزُ من إنسانيتنا وشعورنا المشترك بالمسؤولية عن حياتنا وعن مستقبل اجيالنا على هذه الارض.

اما بالنسبة للبلد التي احتضنتني لاجئا اقول كفرياسيف كانت ولا تزال رائدة في كرم الضيافة في وطنية أهالها في حبهم للعلم والفن والابداع في رفضهم لكل مظاهر العنصرية والتفرقة والعنف والجريمة من اجل ان ينعموا معًا بحياة آمنة راقية وهذا ما تَمَنّاهُ كاتبنا الكبير أميل حبيبي حين صاحَ : تكفرسوا يا عرب !

كفرياسيف أظهرت مرة أخرى انها تستحق بجدارة ما قيل فيها من مديح وإطراء وما بادر اليه رجال الدين المسيحيين فيها بالتوجه الى عائلة الفنان ايمن صفية بطلب نقل بيت الأجر الى الكنيسة وقرع اجراس الكنائس هو ليس مجرد عمل انساني شهم، انما مأثرة كبيرة على طريق وحدة أهالي البلد من جميع الطوائف ورفضًا لكل مظاهر التفرقة والعنصرية. وهذا ما تُؤكِّده المشاركة الشعبية الواسعة لأهالي كفرياسيف من جميع الأجيال ومن جميع العائلات الكفرساوية الذين شعروا بكل صدق ان المصاب مصابهم. وفي هذا الصدد لا بد من الاشادة بهذه المأثرة لتخليدها ولتكون عبرة للأجيال.

اما عائلة صفية فأظهرت، على الرغم من المصاب الاليم والصاعق، رباطة جأش منقطعة النظير وشكرت الوالدة المنكوبة وافراد العائلة بصدق كبير الغطاسين والمتبرعين في التفتيش عن جثمان أيمن في البحر وكذلك المشاركين في مراسيم الجنازة. وأعلنت أم الفقيد بصوت جهوري وحزين عن فتح بيت لأصدقاء ايمن الكثر من مختلف انحاء البلاد في كفرياسيف. وفي هذا الصدد نتمنى لعائلة صفية ولوالد ووالدة المرحوم ولأخيه وأخته الصبر وحسن العزاء ونقول لهم: من خلف ارثًا ابداعيًا بهذا الحجم الكبير لا يحزن عليه؛ حزننا معكم على انه كان بمقدوره ان يضاعف هذا الارث الفني الابداعي الجميل.

أما لأصدقاء الفنان العالمي الشاب، الذين غالبهم البكاء طيلة مراسيم الجنازة فنقول لهم تحلوا بالصبر وحسن العزاء ولتكن مفارقتكم الابدية لصديقكم عبرة للجميع وان تكرسوا المزيد من الجهود لتحقيق امانيكم وطموحاتكم التي قد لا تقل شأنًا عن ما حققه أيمن من شهرة. اما لزملاء أيمن في الرقص فأقول بعد العزاء، السماء واسعة وخيالكم بوسع هذه السماء فعوضوا عن ما حرمنا منه رحيل فناننا الكبير ولا تأبهوا بالناعقين الحاقدين لان جمال الكون بالفن والابداع.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب