news-details

"الجنة المقفلة"- إنعاش الذاكرة وتثويرها (2-2) | د. رياض كامل

توثيق المكان/ الفردوس المفقود
ليس الهدف من هذا العنوان دراسة المكان الروائي، كما ينبغي، وفق ما تقتضيه أي دراسة أكاديمية، بقدر إبراز تمسك الفلسطيني بالمكان الذي ولد فيه، سواء كان تشتته خارج الوطن أو داخله، أو حالفه الحظ بالبقاء داخله بعد النكبة. فقد لفت النظر ميلُ عدد من الأدباء الفلسطينيين إلى توثيق قراهم ومدنهم التي ولدوا فيها، ينطلقون في معظم ما يكتبون من هذه البيئة الضيقة، كما فعل القاص والروائي محمد نفاع الذي تعكس كتاباته أجواء قرية فلسطينية في شمال الجليل، لها عاداتها وتقاليدها ولهجتها الخاصة، وهو الأديب الذي لم يذق طعم التشرد والتشتت، ولكن تشويه المكان جعله يعمل على توثيقه في كل ما كتب. وهكذا فعل الأديب محمد علي طه الذي انطلق من قريته المهجّرة "ميعار" الواقعة في الجليل الغربي يوثق أزقّتها وحاراتها وعاداتها وتقاليدها ويأتي على ذكر مواقع بعينها، بحيث بدت المكوِّن الرئيسي في حالتي الوعي واللاوعي. وكذا فعل الأديب طه محمد علي في قصصه القصيرة وفي أشعاره، فبدت قربته المهجّرة "صفورية"، التي تقع في الجليل الأسفل، المجاورة للناصرة، تحمل مواصفاتها المغايرة لكل قرية أو مدينة فلسطينية أخرى في مأكلها ومشربها وعلاقة أهلها ببعضهم، والأمر ينسحب على الشاعر شكيب جهشان الذي جعل قريته المغار الواقعة شمال غرب بحيرة الجليل، بحيرة طبريا، قرية تواجه الظلم والقهر والخوف من التهجير المتكرر، كما تجلى في ديوانه "أذكر"، وقد جرّب التهجير طفلا، لكن حظه كان أفضل من غيره حين تمكنت العائلة من العودة إلى قريتها والبقاء فيها. وإن كنا ننسى فإن القارئ لا ينسى قرية "سمخ" بلدة الروائي يحيى يخلف، جارة بحيرة طبريا التي تستظل بأشجارها، القرية التي يسهر رجالها متآلفين، فيما تجتمع النسوة عند ضفة البحيرة الجنوبية يغسلن الملابس. هذه القرى والبلدات والمدن الفلسطينية تحولت، كما تحولت مدينة يافا، التي خرجت منها عائلة الروائي عاطف أبو سيف، إلى فردوس مفقود يحلم أبناؤها بالعودة إليها، وإعادة الحياة إليها أيام كانت أجمل المدن، يطلّون عبر بحرها على العالم الواسع، ويؤمّ إليها الغريب والقريب ليشتري من أسواقها، فيما تفوح رائحة بياراتها عبقة في الجو. يافا المدينة التي كانت ثمارها سفيرة فلسطين كلها في شتى بقاع الأرض، وكانت بياراتها مصدر رزق تكتسح الأسواق العالمية، يتفيأ أهلها بظلالها. وكان شاطئها مرتعا للصغار يسرحون عنده ويمرحون. باتت هذه المدينة بعيدة بقدر ما هي قريبة، طُرد أهلها فحملوا أمتعتهم هربا من الموت وساروا جنوبا بمحاذاة الشاطئ حتى استقر بهم المقام في مدينة غزة. هذه المدينة التي تقع هي الأخرى على شاطئ البحر ذاته، لكنها ليست مسقط رأس الآباء والأجداد. ومع أنها حوتْ مَن دخلوها ورعتهم أبناءً لها، لكنّ القلب ظل يهفو إلى الجذور، إلى أم المدن وأجملها، إلى يافا. وبالرغم من حنو غزة على الوافدين إليها، وبالرغم من تحوّلها إلى مدينة الأبناء والأحفاد إلا أنّ الجيل الأول الذي خرج من يافا زرع في الأبناء، كما في الأحفاد، أنّ هناك وطنا مسلوبا يجب أن يسترد. 
جعل عاطف أبو سيف يافا فردوسا مفقودا يحلم مُهجَّروها بالعودة إليها، وجعل من مخيمات غزة مكانا حميما وحضنا دافئا يعيش أهلها متآلفين، وتجمعهم لهفة لا تفارق الوجدان بالعودة إلى يافا، إلى الجنة التي تعشش في ذكريات أهلها من كبار السن، الذين لم يتوقفوا يوما عن غرس محبتها عبر حديثهم عنها في نفوس وفي وجدان الأبناء والأحفاد. 

خلاصة
من وظائف العمل الروائي إثارة أسئلة لدى القارئ، حول قضايا كبرى مطروحة على الساحة الفكرية. وهي أيضا وظيفة الباحثين في مجالات عدة، سياسية واجتماعية ونفسية. لكنها، لدى الأديب، تثار بطريقة فنيّة مشوِّقة ومثيرة تجافي الجفاف الذي يميّز معظم الأبحاث العلمية. وقد أعاد الروائي عاطف أبو سيف قضية التهجير والشتات، وأهمية المكان في حياة الإنسان العربي الفلسطيني، من خلال أكثر من عمل آخرها "الجنة المقفلة". مبرزا أهمية دور الذاكرة في الحفاظ على الماضي كجزء من الحاضر. 
يعتمد الروائي أسلوب التراكمات الكمية الذي يتلاءم مع فكرة الانتظار، والانتظار يعني فيما يعنيه البقاء في مكان معين أملا بلقاء ما أو حدوث أمر ما، فيمر الوقت بطيئا. لا تعتمد الرواية على حدث يتنامى ليصل في مرحلة ما إلى القمة حتى تبدأ مرحلة الحل والوصول إلى النهاية، فكان هذا الأسلوب الأكثر ملاءمة لفكرة الانتظار الذي يمتد ويمتد ويسير مثل سلحفاة.
يعمل عاطف أبو سيف على بلورة هوية روائية خاصة به عصبها يافا وأهلها، وسيتحقق له ذلك شريطة محو الصوت الواحد وإفساح المجال للأصوات الحوارية، فإن كان قد نجح في تهشيم الزمن الروائي في "الجنة المقفلة" فلماذا لا يعمل على تهشيم سلطة الراوي الواحد؟ فقد نُقلت معظم الأحداث عبر ضمير الغائب، فكاد المتلقي يسمع صوت الروائي، ولكن قدرة عاطف أبو سيف على التبئير والتشديد على وجع الشتات دون اللجوء إلى الخطاب التقليدي الصارخ كان نقطة قوة الرواية في اختراق وجدان القارئ الذي يتابع الأم ودورها، حتى بعد اختفاء الجسد.
لقد نجح عاطف أبو سيف من جعل قضية تبدو صغيرة وهامشية إلى مركز للأحداث. وبالتالي فإنّ عملية تحضير الطاولة والشرشف تحوّل إلى حدث يثير العاطفة والوجدان عملا بمقولة شوبنهاور حول الرواية الناجحة حين قال ما معناه إنّ الروائي الناجح هو من يجعل من حدث صغير أمرا لافتا ومثيرا، دون البحث في التفاصيل الكبيرة. وهكذا يصبح دور الأم، في التحضير للّمة، الحدثَ المركزي، رغم بساطته، نظرا لما له من قدرة على مخاطبة العاطفة، من ناحية، وتفعيل العقل، من ناحية أخرى. فالعاطفة تخاطب القارئ العادي، كما تخاطب القارئ النموذجي، أما تفعيل الفكر والعقل للبحث عن أسرار النص فمن شأنه أن يفتح أبواب النص على تأويلات أوسع وأعمق وأكثر شمولية. 
تؤكد قراءة افتتاحية رواية "الجنة المقفلة" أهمية الافتتاحية ودورها في رسم مبنى العمل الروائي عامة، فقد طرح الروائي في الصفحة الأولى فكرة الرواية المركزية بأسلوب مكثف ثم دعّم هذا التكثيف عبر العنوانين الجانبيين، "لم يبق إلا كابوتشي" و"وأخيرا"، ليعود بعدهما إلى التفاصيل عبر سرد الأحداث، تارة بالعودة إلى الماضي، وأخرى نحو الحاضر. فتتكشف مأساة هذه العائلة، من ناحية، وأملها في تحقيق "الحلم"، من ناحية أخرى، وقد تحقق أخيرا بعد طول انتظار، لكنه بدون الأم صاحبة الفكرة يظل لقاء منقوصا. 
لم تكن فكرة اللمة فكرة عادية، أو مجرد لقاء عابر يجمع الأخوة وعائلاتهم بمناسبة عائلية عادية، بل هي محصلة تشرد وضياع وتهجير وفقدان بيت وأرض ووطن. وبالتالي هي صرخة الروائي في وجه البشرية: أما آن لهذه المأساة أن تنتهي؟! إذن كل كتابة ترمي إلى تحقيق هدف أو إيصال رسالة، ولا تتوقف عند الفن من أجل الفن.    
يكتب عاطف أبو سيف عن يافا التي كانت يوما مدينة آهلة بالسكان وعامرة بالحياة إلى أن كانت النكبة فتفرق أبناؤها شذر مذر. ولقد جعل من يافا فردوسا مفقودا لا يمكن نسيانه حتى يعود إلى ما كان عليه يوما. وبالتالي تصبح يافا في كتاباته جزءا من وطن مفقود ورمزا من رموزه، وتصبح غزة رمزا من رموز الوطن الحاني على أهله الذي يفتح ذراعيه لبقية الأهل كي يعودوا إلى ترتيب أوراقهم ومخططاتهم من جديد، واختار أن يخاطب القارئَ العادي والقارئ النموذجي الذي يرى أن للوصف دورا يتعدى الرمز الشفاف الذي يأخذ القارئ نحو التخييل والترميز وخلق فجوات يملؤها القارئ من خلال ثقافته وقراءاته المتنوعة. 
يلفت النظر أن الروائيين الفلسطينيين الذين ولدوا بعد "النكبة" و"النكسة" لم "يتحرروا" من وجع هاتين الصدمتين، فانتقل ميراثا يعشّش في وجدان الصغار. ولد عاطف أبو سيف بعد هاتين الصدمتين ولكنه، كما يبدو، قد تعمّد مثل غيره من الفلسطينيين بنار الشوق واللهفة إلى عودة ما كان من قبل. وقد أثبتت التجربة الروائية الفلسطينية أن نار الشتات أصابت كل فلسطيني سواء هُجِّر عام النكبة أو عام النكسة، لأن الوجع يورّث من جيل لجيل. ويبدو أن مأساة الشتات ولهفة العودة ستلازمان الأجيال القادمة من الفلسطينيين ظِلّا لا يفارق، وألما لا يخفت، وأملا لا يخبو. 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب