news-details

"الروزنه" بين صفد والموصل وحلب وبيروت! 

الأغنية الشعبية هي قصيدة غنائية يتداولها الناس في الوسط الشعبي، وتتناقل شفاهة من جيل الى آخر، وتتأثر بالبيئة التي تخرج منها. ولكونها تتناقل شفاهة، فتؤثر فيها عدة عوامل، منها، السماع والنسيان وعدم فهم كلماتها. ويؤدي هذا بدوره مع جدلية المتغيرات الحياتية، الى إحلال كلمات بدل كلمات، وإدخال بعض الكلمات الدالة على المستجدات. الان كل ما ذكرته لا يغير في جوهر رسالتها،وطريقة إدائها الجماعي، ودورها في تناقل الموروث الثقافي الشعبي-الجمعي شفاهة، من جيل الى آخر.

والأغنية الشعبية  لها خصوصيتها التي تميزها  عن بقية ألوان الفولكلور الشعبي، لأنها لا تعتمد فقط على الفردية، بل هي اكثر جماعية الأداء.كما أنها تعبر عن مشاعر العامة لا عن مشاعر مغنيها فحسب، كما أنها في الغالب هي نتيجة جهد جماعي،ومتعددة الأغراض وصالحة لأكثر من زمان ومكان،مما يمنحها الديمومة والتلهف لسماعها من قبل الشعب.

 

الروزنة 

 تعتبر من الأغاني التراثية الشعبية، وهناك من يعتبرها الأغنية الأكثر شعبية في سوريا، فلسطين، العراق ولبنان.

وبرأيي الباحث التراثي السوري، حسن اسماعيل: "أغنية "الروزانا" هي من الأغاني الرقيقة والجميلة والتي تحمل بين مفرداتها ومقاطع جملها ولحنها نوعا من الرومانسية اللافتة والجاذبة للمشاعر بشكل عام، وبهذا، تختلف عن غيرها من الأغاني الشعبية الأخرى التي تغنى بها ريفنا الساحلي على مدى عقود متتالية في مسارح الأفراح والدبكة الشعبية".

تأثيل كلمة روزنة: يذكر "الجواليقي" (عاش في القرن التاسع م.) "في كتابه المُعرب من الكلام ص-73 "قال ابو حاتم سألت الاصمعي،ما هو الَّروْزَن، فقال فارسي ولا أقول فيه شيئا". وفي معجم المعاني الجامع: لفظ معرب-الكُوة. وفي قاموس المعجم الوسيط، الرَّوْزَنَةُ : الكُوَّةُ غير النافذة.وفي قاموس فارسي إنجليزي ترجمتها hole،aperture، window.

وورد في قاموس "إدي شير" معناها الحرفي بالفارسية الضوء. (معجم الألفاظ الفارسية المُعرَبَة). وورد في مدونة "الألفاظ الفارسية في اللهجة البغدادية": رازونه –روزنه (بلهجة اهل الموصل): فتحة في سقف البيت أو الغرفة ينفذ منها الضوء. وتوجد قرية صغيرة في ايران اسمها الروزنة.

أستخدمت الروزنة لنقل الحبوب الى سطح المنزل لتنشيفها وإعادتها الى البيت. وايضا لخروج دخان المواقد من البيت ووسيلة إنارة وتهوئة للمسكن.

 

رغم أنها الأغنية الأشهر في بلاد الشام والعراق. لكن تعددت الروايات المختلفة المتناقضة لأسبابها وفترة ظهورها.

الرواية الأولى تقول إن سفينة عثمانية كانت محملة عنباً وتفاحاً، وجيء بها إلى بيروت لتبيع كل إنتاجها، بدل إنتاج المزارعين اللبنانيين... وهو ما حصل، فكسد الإنتاج اللبناني، ليأتي تجّار حلب ويتضامنوا مع اللبنانيين ويشتروا كل محصولهم، وينقذوهم من الفقر والعوز.

أما الرواية الثانية فتقول إن السفينة التي ُتدعى "روزانا" هي سفينة إيطالية وأرسلتها إيطاليا إلى لبنان وسورية وقت المجاعة الكبرى (فترة السفر برلك) منذ عام 1914، محملة بالقمح. لكن عندما رست في الميناء تبيّن أنها محملة عنباً وتفاحاً فأصيب اللبنانيين والسوريين بالخيبة. ورغم ذلك قام أهالي حلب بتأمين القمح اللازم للبنانيين لإنقاذهم من المجاعة. 

اما الرواية الثالثة، فتحكي ان فتاة عراقية من مدينة الموصل،كانت تتبادل نغمات الحُب مع شاب من أقاربها، عبر فتحة صغيرة في جدار بيتها، وأهل الموصل يسمون هذه الفتحة روزنة وتعرف في بغداد بالرازونة.

فلما علمت أم الفتاة بأمرها أقفلت الروزنة الصغيرة وصدح صوتها بهذه الكلمات : ع الروزنا ع الروزنا كُل البلى بيها.

فردت الفتاة عليها: شو عملت الروزنا حتى تسديها.

والرواية الرابعة، يرى اصحابها، ان أصل الأغنية من التراث الفلسطيني وأغلب الظن أنها من قرى الجليل. حين كان أهل تلك المنطقة يحملون الفواكه من عنب وتين وتفاح على البهائم،ليبيعوها في حلب وغيرها من مدن الشام.

وحسب هذه الرواية: أن فتاة جميلة والدها مسكين وأمها قاسية ومسيطرة. أحبت هذه شابا من أقاربها، ولم تكن لديهما وسيلة للقاء والتناغي معه،إلا عندما كانت تغيب أمها، ووالدها في البستان. فيقوم حبيبها بالتسلل الى حي محبوبته؛ فيجلس امام الروزنا، فتنظر الفتاة الى أعلى ويتبادلان الغزل. ولكن لسؤ حظهما دخلت الام منزلها فجأة، واكتشفت سرهما. عندها قررت الام سَطّم الروزنا. وحكم الاهل على ابنهم، تحميل العنب والتفاح والتوجه به الى حلب. وادى هذا التنائي، لان تطلق الفتاة هذه الأغنية الشجية.

 

عالروزانا عالروزانا.... كل الحـلا فيـها

 

شـو عملـت الـروزانا.... الله يجـازيهـا

 

يا نازلين عا حلـب.... حبـي معاكم راح



يا شايلين العــنب.... تحت العنب تفـاح



كلـ من حبيبو مـعو.... وأنا حـبيبي راح

 

يا ربي نسمة هـوا.... ترد الحبيب لـيـا



لاطلع على داركم.... وعاشر احبـــابي 



سهران شو همكم.... ما تدروا بعـذابي


وسياج عا سطوحكم.... من غير بـوّابة

كما للحب أغانيه فللحرب أغانيه أيضاً. والحزن وجه آخر للفرح كما الحرب وجه السلام الآخر. كانت وستبقى الأغاني الملتزمة وسيلة لكتابة التاريخ بالغناء، أو لنقل التعبير عن الألم بالموسيقى واللحن. ومن تلك الأغاني حكاية أغنية "الروزنا" والتي تعددت الروايات حولها، الا أنها كانت وما زالت، وستبقى الأغنية الشعبية الأكثر رواجا في سوريا، فلسطين، العراق ولبنان.

والمثير للدهشة، التنافس الخلاق والناعم، بين صفد الموصل وحلب وبيروت لتبني أحقية الملكية الفكرية،لانطلاق هذه الاغنية الجميلة والرقيقة (الروزنا) - غنتها فيروز وغيرها. وان تقوم كل واحدة منها بنسج روايتها الخاصة، والتي لا تخلو من أبعاد سياسية، اقتصادية واجتماعية واخلاقية.

فالرواية السورية اللبنانية رسالتها،حكاية الوفاء والشهامة السورية مع أهل لبنان في وجه الاستعمار العثماني، والذي سخر جميع موارد سوريا الكبرى في خدمة مصالحه الضيقة. ففرض على السكان التجنيد الإجباري وأرغم هذا النظام الجائر غالبية المجندين العرب خوض حربا، ليست حربهم. ويؤكد الباحثون،ان الكثير الكثير من اهل بر الشام ماتوا جوعا (فترة السفر برلك)، ونجم ذلك بفعل النقص في القوى العاملة من ناحية، ولسياسة العثمانيين الجائرة،بجمع المحاصيل الزراعية،لصالح الجيش من ناحية اخرى. كما ساهم في تفاقم ازمة الغذاء، والفقر المدقع والمجاعة القتالة،الحصار البحري والاقتصادي،الذي فرضه الحلفاء على الولايات العربية الخاضعة للحكم العثماني.

والرواية الفلسطينية (اهل صفد) الروزنة، والتي اعتمدها الكاتب "احمد حرباوي" وغنتها أمل مرقص، وسناء موسى، تروي قيام الاهل بسجن ابنتهم داخل روزنا، بعد كشفهم مغازلة محبوبها من الروزنة (الروزنة تعني في فلسطين خرزة او فتحة البئر او المغارة وكذلك هي حجرة مغلقة لتخزين الحبوب لها فتحة من اسفل واخرى من اعلى، وهي الفتحة الصغيرة او الطاقة او الرفوف المحفورة في الحائط). كما ادت الصعوبة في توفر مواد البناء، والحاجة لتوفير الامن من الأعداء،بأن تكون المباني متراصة. فتتطلب ذلك ضرورة ترك كُوة جدارية (روزنا) بين البيوت لتخدم أهدافا معينة،مثل تبادل ربات البيوت الأطعمة والأحاديث من خلالها).

 

رغم تعدد الروايات حول أغنية الروزنة وصعوبة إثبات ايتها هي الصحيحة الامر الذي دفع بعض الباحثين في هذا المضمار، لإنتقادها، بأن هناك قصصا حول اصلها، هي من الاساطير الشعبية، وبعضها لا يقبلها العقل والمنطق. لكن بالنسبة لهذا الطرح أتبنى موقف شوقي عبد الحكيم في مقولته "اذا اردنا ان نفهم شعبا، فعلينا بقراءة تراثه من روايات حقيقية واُخرى خرافية (دراسات في الفولكور الفلسطيني- التراث الغنائي). فرغم انه فولكلور انتقل مشافهة بشكل عام، فمن العسير تتبع نشأته وصدقه. لكن رغم ذلك يبقى لنا ادراك وظيفة الأغنية التراثية، كعنصر ملهم واصيل للناس،المخزون في اذهانهم ومتراكم في وعيهم، ليساهم في بلورة وتعزيز انتماءهم،وهويتهم الجمعية والقومية، بهدف تمتين أواصر وحدتهم ومصيرهم المشترك. عندها يصبح الاهتمام بدراسة التراث (وهنا ع- الروزنة)، بعدم تمحوره حصرا في تقصي حقيقته، انما بتشجيع الافراد والمهتمين بالتراث، جمعه وإحيائه ونقله للأجيال الناشئة ليرسخ تجذرها في تراب الوطن وليرسم القواسم المشتركة التي تجمعنا وليفعم قلوبنا بالفرح والتفاؤل والنيرڤانا عند سماعه.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب