news-details

"بدنا عمَل للعمّال... بدنا خُبز للأطفال" عندما يضطر العامل أن يختار بين حياتِه، وبين الخبز! | رهام نصرة

أربعة عمّال بناء قُتلوا في حوادث العمل في فرع البناء منذ بدء حالة التأهّب في ظل فيروس الكورونا، لم يقتُلهم الفيروس، إنمّا سياسات الإهمال التي يُعاني منها عمّال هذا الفرع على مدار سنوات ممّا أدى إلى حصد مئات الأرواح التي خرجت لتؤمّن قوت يومها.

لكن، في الوقت ذاتهِ، كشفت جائحة الكورونا عورة هذه السياسات التي لا ترى بالعامل إلّا "أيدٍ عاملة " تخدم مصالح الشركات الكبرى وحيتان المال لتؤكد، بما لا يقبل الشك، أن لا اعتبارات لحياة العمّال، وأن المعيار الوحيد هو زيادة وتيرة "الإنتاج" بأقل مصاريف ممكنة لأرباب العمل والمقاولين. هذه الاعتبارات التي لم يتم تحيّيدها حتّى في ظلّ كارثة صحيّة عالمية، ففي حين أن الفيروس لا زال "عدوًا مجهولًا"، فإن سياسات الاستغلال الفادح مفضوحة ومعروفة.

وعليهِ، منذ بدء التقييدات، وتعطيل العمل في معظم فروع العمل في القطاع الخاص، استثنت الحكومة الاسرائيلية فرع البناء من هذه التقييدات اذ تم تعريفه كفرع عمل حيوي مما يعني استمرار العمل في هذا الفرع بشكلٍ طبيعي. 

وكانت الحكومة قد علّلت قرارها هذا بأن احتمالات العدوى في هذا الفرع ضئيلة نسبيًا نظرًا لكون العمل غالبًا ما يكون في أماكن مفتوحة تحفظ إمكانية التباعد الإجتماعي المطلوب للحيولة دون انتشار العدوى. 

لكنّ، هذه التفسيرات ما هي الّا "ورقة التين" التي تغطّي الاعتبارات الحقيقية، البعيدة كل البعد عن المعايير الصحّية، والتي لا ترى بالعامل أكثر من "ماكنة انتاج" وتتجاهل عن سبق اصرار وترصد أن تتعامل معه ككائن بشري يستحق العيش الكريم. 

 

فروع عمل حيويّة:

أنظمة الطوارئ التي أقرّتها الحكومة الاسرائيلية لتقييد العمل تخلّلت عدّة قطاعات عمل عُرفت على أنها حيوية ما أتاح استئناف العمل فيها بشكل طبيعي قدر الإمكان. فإضافة إلى جهاز الصحة والخدمات الحكومية الحيوية، تم تعريف الفروع التّالية كفروع حيوية: قطاع الطاقة (كهرباء، غاز، نفط)، قطاع الماء والتغذية والزراعة، قطاع الاتصالات، قطاع صناعة الأدوية، قطاع صناعة مواد التنظيف، الموانئ والسفن وسلطات الجمارك والمصارف. وأخيرًا، فرع البناء والفروع المرتبطة به.

يمكن أن نعزو تعريف هذه الفروع كحيوية لسببين، الأوّل فروع تزوّد خدمات أساسية والثاني فروع ضرورية لا سيما في ظل الأزمة كصناعة الأدوية ومواد التنظيف وخدمات الموانئ. 

وهُنا يجب أن نتساءَل، ما الحيوي في فرع البناء لكي يُستثنى مئات آلاف العمال من معايير الحفاظ على الصحّة العامة؟ الواقع هو أن الأسباب الفعلية في صلب هذا القرار تعود إلى علاقة أرباب شركات البناء الكبرى مع السلطات والمصارف، حيث تُسيطر هذه الشّركات على حوالي الـ 11,5% من النتاج الاقتصادي السّنوي (ما يعادل الـ 80 مليار شاقل) ما يجعلها "محرّكًا" أساسيًا في الاقتصاد الاسرائيلي وما يجعل هذه السلطة مرهونة لمصالح أصحاب هذه الشركات، إضافة الى ارتباط الشركات بديون بنكية تصل إلى نحو 88 مليار شاقل ما يُعادل الـ 20% من أموال الديون للبنوك، ما يعني أن أي خلل في إرجاع هذه الديون معناه انهيار حاد في المصارف.

 

احتماليّة انتقال العدوى:

أي أن الاعتبارات الاقتصادية في استثناء عمّال البناء من تقييدات العمل ليست للصالح العام إنّما رعاية لمصالح رؤوس الاموال. لكن، حتّى لو افترضنا أن لجمهور العمّال –المسحوق أصلًا– منفعة في عدم تعطيل عمله، لا يمكن قراءة قرارات الحكومة إلّا في عين الشّك نظرًا لسياساتها قبيل الأزمة. فبالرغم من مزاعم الحكومة أن قرارتها جاءت بما يتلاءم مع اعتبارات صحّة العمّال، بحجّة أن ورشات العمل هي أماكن مفتوحة، إلّا أن هذا التفسير هو أقرب إلى "أجا يكّحله فعماه" من أن يكون تفسيرًا منطقيًا. 

أوّلًا، حتى في الأيام العادية يعمل عمّال فرع البناء في ظروف تفتقر لأسس السلامة كوجود "سقايل" بناء آمنة تتطابق مع المعايير الدولية، رفع أجسام ثقيلة في محيط الورشة بخلاف تعليمات السلامة، انعدام الرقابة وإهمال قاتل من قبل المقاولين وسط تقاعس حاد للسلطات المسؤولة.

ثانيًا، في الكثير من الورشات لا توجد أي رقابة أصلًا مما أتاح الفرصة امام المقاولين بـ "دكّ" الورشات بالعمّال لتسريع وتيرة الانتاج الأمر الذي يحول دون وجود تباعد جسدي بين العمّال بالدرجة المطلوبة لعدم انتقال العدوى. هؤلاء العمّال يعانون من الاكتظاظ في طريقهم من وإلى العمل، وفي أماكن مكوثهم في الشّقق المعدّة لإقامتهم. ثم إن هذا التفسير يتجاهل بشكل وقح أن آلاف العمّال يعودون إلى منازلهم وعائلاتهم لتتّسع دائرة التواصل وبالتالي دائرة العدوى في أوساط العائلات والمجتمعات التي يأتي منها العمّال!

ثالثًا، خلافًا لقطاعات عمل أخرى لم يتم حتى اللّحظة اشتراط استمرار العمل في ورشات البناء بتأمين شروط تمنع تفشّي الوباء، لا توجد تعليمات حكومية للمقاولين حول تجهيز ورشات العمل وتزويد العمّال بمعدّات وقاية، حتى أن رئيس قسم السلامة والصحة المهنية في وزارة العمَل "حازي شفارتسمان" تنصّل من مسؤوليته تجاه جمهور عمّال البناء بكل ما يتعلّق بتفشّي الوباء في أوساط العمال ملقيًا المسؤولية على وزارة الصحّة في هذا الأمر. 

وهذا يُثبت أن تهميش صحّة العمّال ليس خللًا ناتجًا عن الأزمة الاقتصادية، بل هو جوهر هذه السياسات قبيل الازمة وأيضًا تحت جناحها.

 

المسحوقون أولًا وأخيرًا:

لا شكّ أن هذه الانتهاكات في حق العمّال لما كانت لتكون بهذه الوقاحة لولا أن الغالبية العظمى منهم هم من الطبقات المسحوقة اقتصاديًا واجتماعيًا، وفي واقع الفصل العرقي الذي نعيشه، فالفئات هذه غالبًا هي الفئات المضطهدة قوميًا. 

في بداية التقييدات على أزمة الكورونا، سارَع وزير "الأمن" الاسرائيلي نفتالي بينيت، بإعلان إغلاق كامل على الضفّة الغربية وإغلاق الحواجز بالرغم من وجود 6 حالات عدوى فقط في حينها تم حصرها في مدينة بيت لحم. لكن، سرعان ما تراجع بينيت عن قراره هذا بما يخُص العمّال الفلسطينيين والذين يُشكلون حواليّ ثُلث عمّال فرع البناء في اسرائيل بحجّة أن هذا الامر سيساهم أيضًا في منع كارثة اقتصادية تلحَق بالسلطة الفلسطينية، وهي بالضرورة حجج المُستعمر لتنصلّه من أي مسؤولية تجاه صحّة واقتصاد الشعب الواقع تحت احتلالهِ، وتشهد على هذه الحجّة الواهية ملايين الشواقل من مستحقات العمّال الفلسطينيين القابعة في خزينة الدولة.

وهذا في حين يصعب الحصول على تصاريح عمل في "الأيام العادية" فقد وصل عدد التصاريح في الشهر الاخير إلى نحو 55 ألف تصريح نظرًا لحاجة اسرائيل ل-"أيدٍ عاملة رخيصة" لا سيّما وأن هناك صعوبة في استيعاب عمّال اجانب.

والحاجة أم الاختراع! اذ ان ذات الوزير المتطرف "وزير المستوطنين" بينيت الذي يرى بنا خطرًا موقوتًا، اشترط هذه المرة دخول الفلسطينيين للعمل بالتزامهم بالإقامة في اسرائيل لمدة متواصلة، بحجّة منع تصدير العدوى من الضفّة(!).

 

هشاشة الأطر العمالية:

لعل أحد أبرز افرازات جائحة الكورونا التي طالت البلاد والعالم هي كشف عورة السياسات الليبرالية الجديدة وسياسات الخصخصة، كل هذا في ظل ضرب الحركات العمّالية وارتهان النقابات العمّالية لاعتبارات سياسية متخليّة عن دورها الأساس في تنظيم العمال كقوّة فاعلة من شأنها التأثير على مصيرها اذ أصبح دور هذه الفئة المَسحوقة مقتصرًا بكونها "مُتلَّقي" للسياسات لا حول لها ولا قوّة إلّا أن تختار بين حياتهِا وبين قوت أطفالهِا. 

يعود علينا اليوم الأممي للطبقة العاملة في هذا العام وقد بات الشعار الذي لطالما ردّدناه في مسيرات الأوّل من أيّار "بدنا عمل للعمّال .. بدنا خبز للأطفال" كسلاح ذو حدّين. نريد عملًا، لكننا نريده كريمًا يصون حياتنا وكرامتنا، ونريد ألّا نكتفي بالخبز وألّا نقع في الفخ الذي نصبوه لنا بحيث تتحوّل نضالاتنا للحصول على أبسط الحقوق وأوّلها – الحق في الحياة وسلامة الجسد.

علّ أيّار القادم يعود علينا وقد استقينا من رحم هذه المعاناة عبرة لتنظيم وتمكين جمهور العمّال في حراكات مُقارعة غير متهادنة تنتفض ضد الظلم وسطوة الاستغلال ويكونون هم – عصب الوجود – أسياد مصائرهم.

كل عام وعمّال العالم بألف خير.

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب