news-details

" فوارس الكورونا المجهولون – أعمدة الجهاز الطبي المهمشين" |  حنان مرجية

قبل سنوات ليست ببعيدة، شاءت الأقدار أن أقضي شهورًا طويلة في المستشفى كمرافقة لظروف عائلية.  أيام طويلة على مدار أكثر من عشر سنوات عشت فيها مع الطواقم العاملة في المستشفى من طبيبات وأطباء، ممرضات وممرضين، قوى المساعدة، متطوعين، عمال وعاملات النظافة، عمال وعاملات الحراسة، العمال والعاملات في الكافيتريا، عمال الصيانة وغيرهم. ومع أنه في وقتها بالنسبة لي كمرافقة، كان الطبيب يمثل الدور الأهم لأنه هو المشرف الرئيسي والأساسي على المرضى، ووظيفته غنية عن التعريف، ولكن الحق يقال إن قدرتنا على استحمال فترات المكوث الطويلة في المستشفى لم يكن يخفّفها سوى طاقم العاملين في الأقسام الذين كنا باتصال معهم بشكل يومي وعلى مدار الساعة.

فبينما كنا نرى الطبيب على الأغلب مرة واحدة في النهار عند موعد الزيارة الصباحية، كان بقية أفراد الطاقم يرافقوننا أغلب ساعات النهار ليجعلوا ساعات المستشفى الكئيبة تمر بشكل أسهل وألطف، فكانت الممرضات يتعاملن معنا بلطف وتفهم محاولات التخفيف عنا في محنتنا، ابتداءً من تقديم الأدوية والرعاية الصحية، وانتهاءً بدردشات عن مشاكل الحياة وغيرها؛ كان تعاملهم معنا إنساني بحت، مما دفعنا الى إنشاء علاقات وروابط قوية معهن.  ولكن ما أذكره بشكل خاص كان عاملات النظافة وعاملات القوى المساعدة اللواتي كن يدخلن الغرفة كل ساعة أو ساعتين، أغلبهن عربيات، لذا كن يشعرن أنه من واجبهن أن "يديروا بالهن علينا". كن يسألن دائمًا إذا كنا نحتاج شيئًا وإذا طلبنا أي شيء يفعلن كل ما بوسعهن لإحضاره. أذكر بشكل خاص المتطوع الذي كان في سن متقدمة والذي كان يتطوع في قسم القلب، وكان دائم الحديث عن عمله التطوعي وأهمية التطوع في المستشفى مع مشاغله الكثيرة وإدارته لشركته الخاصة بمجال الحواسيب.

قبل أشهر أطل علينا فيروس الكورونا وأصبح مستقبل البشرية جمعاء غامضًا في حضوره، المستشفيات مليئة بالمرضى، وتسليط الأضواء وجّه بأغلبيته على الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات. أغلب نشرات الاخبار تتحدث عن الأطباء وخوضهم الحرب مع الفيروس، المعاناة في ظل المستشفى والعمل لساعات متواصلة، الأطباء الذين يطالهم المرض، حملات دعم لكونهم خط المواجهة الأول مع المرض، تغني الناس لهم في الشرفات وتصفق، فليحيا أبطال حرب الكورونا – يهتفون.

قبل يومين خبر على صفحات الفيسبوك: أمين عام المخازن في أحد المستشفيات في مصر يتوفى نتيجة إصابته بالكورونا. نظرت مليًا إلى الخبر وسرحت في ذاكرتي بضعة دقائق، رجعت عشر سنوات الى الماضي، وتذكرت عاملات النظافة والمساعدات والمتطوع في القسم، ولأول مرة منذ أن ابتدأت حرب غسل الأدمغة التي ينتهجها الإعلام، نزعت الحواجز التي نصبت حول عقلي الحر وسألت: يا ترى كيف هو حال عاملات النظافة في "تل هشومير" في ظل كورونا؟ هل النسوة اللطيفات اللواتي كن يدخلن الى غرفتنا ليشاركننا غلاية القهوة العربية التي أحضرنها من البيت لا زلن بخير؟ هل ما زلن يعملن رغم الظروف الخطرة في المستشفى؟ هل طالتهن الكورونا؟ 

في ظل النظام الرأسمالي الذي نعيش فيه، يغيّب الإعلام كامل لكل طاقم العمال الكادحين في المستشفيات الذي هو أيضًا موجود في خط المواجهة الأول مع الكورونا، ولكنهم جنود مجهولون لا أحد يعترف بأهمية دورهم ولا أحد يصفق لهم أو حتى يهتم بالنشر في الاخبار أن كان هناك إصابات في أوساطهم.  

إن العمال في المجالات الأخرى في المستشفيات غير الطاقم الطبي، لهم دور أساسي في محاربة الوباء الذي يجتاحنا. تخيلوا ما سيكون عليه وضع المستشفيات إن لم يقم العمال القائمين على النظافة والصيانة بتعقيم المستشفيات وتنظيفها؟ تخيلوا بؤرة الوباء التي ستتحول إليها المستشفيات؟ تخيلوا لو جميع القوى المساعدة في المستشفيات اختفت؟ هل تستطيع الممرضات أن تقوم بكل أعمال القسم لوحدها؟ الاعتناء بالمرضى توزيع الأكل والطعام والبقاء على تواصل معهم؟ 

إن طاقم العاملين في المستشفيات، أولئك الذين لا يتذكرهم أحد ولا يصفق لهم أي كان، هم أعمدة الأساس التي تقوم عليها المستشفيات، هم يقومون بكل الأعمال "السوداء" من وراء الكواليس التي لا يعطيها أحد قيمة كافية ولكن إن لم يتجند هؤلاء العمال ليقوموا بها يوميا لانهارت المستشفيات في إسرائيل على رؤوسنا جميعًا. هؤلاء هم الذين يقومون بكل الأعمال الأساسية لإتاحة العمل للأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات ولولاهم لما كانت لدينا مستشفيات تستقبل مرضى الكورونا وتعالجهم، والأسوأ من ذلك أن هؤلاء الفرسان والفارسات المجهولين، في أغلبهم هم عمال يعملون لدى مقاولين مقابل الحد الأدنى من الأجور ولا يخفى عن أحد أن ظروف عملهم في أغلب الاحيان تكون في ظل انتهاك صارخ لحقوقهم الأساسية كعمال وعاملات، وحياتهم معرضة للخطر تمامًا كباقي الطاقم الطبي لوجودهم في مكان خطر كالمستشفيات وانكشافهم على مئات المرضى يوميًا.

بينما يتلقى الأطباء والممرضين كل التقدير والاحترام من المجتمع، ويتصدرون الاخبار، وأجورهم مرتفعة مقارنة بأجور عمال النظافة على سبيل المثال، يخاطر باقي العمال المجهولين في المستشفيات بحياتهم مقابل الحد الأدنى للأجور، ولا يحظون بأيٍ من التقدير والاهتمام، فقد اعتاد الجمهور ألا يرى هؤلاء العمال ولا يقيّم عملهم بالشكل الازم، لقد اعتدنا على الرؤية عبر شفافيتهم التي يفرضها النظام.

لا أحاول هنا التقليل، ولا بأي شكل، من أهمية العمل الذي يقوم به الأطباء، ولكن علينا أيضًا أن نرى الصورة واضحة وكاملة مع كل المتغيرات في المعادلة، وعند الحديث عن المستشفيات يجب ألاّ نحصر تفكيرنا في الطاقم الطبي فقط ونتجاهل معاناة العمال الآخرين الذين لا تقل وظائفهم أهمية عن وظيفة الأطباء في أداء المستشفيات، يجب أن نرى، نقدّر وندعم مجهود جميع عمال المستشفيات الذين هم أيضًا يخاطرون بسببنا، وألا نهمش تعبهم، مجهودهم واحتياجاتهم للدعم والتقدير.

اليوم هو الأول من أيار، وهو أول عيد عمال في ظل كورونا، ولا يسعني إلاّ أن أرسل ألف تحية إكرام وإجلال نضالية لطاقم العمال الكادحين في المستشفيات، الذين يخاطرون بحياتهم لينقذوا حياتنا، وأقول لهم أنتم أعمدة الأساس، ونضالكم هو نضالنا.

عاش الأول من أيار!

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب