news-details

"في الخوف من الحياة حياة": أبعدُ من التنويم المغناطيسي وأوسع!

"ليختَر كلٌّ منكم مكاناً مريحاً للجلوس؛ مكاناً يشعر فيه بالراحة والاسترخاء. سنحوّل انتباهنا إلى أجزاء من الجسم ونسمح لها بالاسترخاء. ها هو الوجه مسترخٍ كله والجبين مرتاح. الحاجبان في حالة استرخاء تام... العينان مسترخيتان... الفم مسترخٍ... الفكان مسترخيان...الكتفان مسترخيان... اليدان مسترخيتان وفي وضعية مريحة..... لنسمح لجسمنا بالتنفس، كما يريد ـبعمق وبالسرعة والوتيرة الملائمتين له. في هذه الحالة، نحن، ببساطة، موجودون. نحن حاضرون في هذه اللحظة وفي هذا المكان.. نحن حاضرون ونتنفس...نترك الأشياء تحدث لوحدها. نحن نتركز فقط في تنفسنا وجسمنا وندع الأمور تحدث وحدها، من تلقاء نفسها". 

سيسأل قارئ هذه الفقرة نفسه، متذكِّراً أنه ليس في "جلسة استرخاء" الآن: ما هذا؟ إلى أين وجهتنا؟ وإلى ماذا؟ ولن يهتدي إلى جواب سريع! لكنه سرعان ما سينسى أنه يبحث عن جواب، بل أنه طرح السؤال أصلاً. لأنه ينجرف مع النصّ وبه، باستسلام إراديّ محكومٍ بمتعة الإبحار في متاهات النص وما يرويه، بشغف الخوض في تحدّي الغموض وبرهبة التحليق فوق تجارب إنسانية والإطلال عليها من علٍ قبل أن يصحو على حقيقته المواسية: هذه قصة أعرفها... هذه قصتي أنا، عِشْتُها... هذه قصة شخص قريب عايشتها. 

رويداً رويداً، وكلما تقدم في الصفحات، سيدرك القارئ أن ما يسلط نظره وعقله عليه ليس مجرد نصوص تحكي قصص أشخاص يعانون، أو كانوا يعانون. تأسره لغة القَصّ، التي تتنقل بانسيابية مدهشة بين الفصحى والعامية، يسبيه أسلوب الراوي الحاذق، بما فيه من كسرٍ متكرر لخط الزمن القصصي، يرتطم بعتمة المشكلة العينية ودهاليزها، يحلق مع فكاك "بطل القصة" وتحرره من خيوط أزمته، ثم يعود ليهبط بسلام مع بلوغ "البطل" هدوءه النفسي واستعادة سيطرته على مشاعره وأفكاره، عن نفسه وعن الآخرين. 

تلك هي الأسطر الأولى من كتاب د. علي بدرانة الجديد (الثاني) الذي صدرت طبعته الأولى قبل أشهر تحت عنوان تكثفت فيه المعاني حدّ الاكتناز بما يحتاج إلى طويل شرح وتفسير وتأويل: "في الخوف من الحياةِ حياةٌ"! ومن كان يحسَب أن العبارة التوضيحية التي أضيفت إلى هذا العنوان ("قصص من عالَم الهيبنوزا/ التنويم المغناطيسي") ستفكّ الشيفرة وتنير له الضوء على الآتيات، فقد وجد نفسه ـ وسيجدها ـ ملاحقَةً بمزيد من الأسئلة الجديدة التي تتوالد من رحم اللغز ذاته: أي خوف من الحياة؟ هل ثمة خوف من الحياة؟ وأي خوف هو هذا الذي تولد منه حياة؟ وما علاقة هذا الخوف وهذه الحياة بالتنويم المغناطيسي وقصصه؟ .... وفي التفكيك، سيتضح للمتورط في أتون هذه الأسئلة المتوالدة من بعضها أن مأزقه المفهوميّ هنا هو اعتباطي موهوم،وليس حقيقياً. فهو يعرف "الخوف"، ويعرف "الحياة" أيضاً، بل يعرف حتى ما هو "التنويم المغناطيسي"! .... أو، هذا ما يُخيَّل إليه، على الأقل. 

سيكتشف، بأسهل مما كان يتوقع، أن ما يعرفه عن "الخوف" وعن "الحياة" هو تجارب كثيرة وغنية، شخصية وعامة، يعرفها بقلبه ووجدانه، لكن ليس بعقله الواعي في مستوى كاف من الانتباه وتحديد السياق، بينما يعرف عن "التنويم المغناطيسي" شذرات قرأها أو سمعها هنا وهناك، لِماماً، عمقت في نفسه الخوف منه أكثر فأكثر، بدلاً من تخفيفه. يعرف ولا يعرف أنه يعرف. لا يعرف ويحسب أنه يعرف. 

هذا ما يفعله علي بدارنة بقرّائه، وليست هذه المرة الأولى. يشدّهم، دون عناء يُذكر، ويضعهم في صلب المادة العلمية، التي يفترض أنها معقَّدة، جافة، مرهِقة ومملة، يجعلهم "يلتهمونها" بأقصى درجات التيقظ والحماسة والشغف. فعَل ذلك في كتابه الأول ("النيروسَيكولوجيا والثقافة والعسر التعلّمي"، الذي صدر في شباط 2016) وها هو يعود فيفعلها الآن، بوضوح أكبر وبزخم أقوى، ليثبت بما لا يدانيه شك: هو ليس أخصائياً نفسياً ومُعالِجاً نفسياً متمكناً من مادته العلمية، محيطاً بها ومتحكّماً، فقط، بل هو كاتبٌ يقبض على أدوات الكتابة الأدبية كلها، أو أهمّها وأبرزها على الأقل. لكنّ "علي" لا يمارس الكتابة كمهنة، بل كطريقة حياة... وربما، طريقة علاج أيضاً!

في كلا الكتابين ـ اللذين أسعدني الحظ في اختياري لتحريرهما لغوياً ـ تقرأ لدى علي بدارنة ليس ما بين دفتيّ الكتاب فحسب، وإنما ما يتوارى خلف كل منهما على حدة وخلف كليهما معاً فيوقن إنه إزاء مشروع توعوي ـ تثقيفي ينطلق من إرادة إنسان مثقف ورغبته في جعل ما في جعبته من علم ومعرفة سلاحاً وقوّة بين أيدي "العامة"، التي هي مجتمعه وناسه، متكئاً على ما لديه من مَلَكة أدبية متوهجة ومستعيناً بما لديه من قدرة على سكب المادة العلمية "الرصينة" و"الثقيلة" في قصص واقعية، مستمدة من حالات حقيقية، لكنها تزخر بمقوّمات الصناعة الأدبية، وفي مقدمتها الصور، التشبيهات، الاستعارات، التخييل والتمويه. وكأنّا به يقرأ التجارب روايات تنتحل لنفسها صفة الواقعية، من دون أن تجسد هذه الرواية أو تلك ـ بالضرورة ـ الحقيقة المطلقة، لكنْ حَسْبها أن يكمل بعضها بعضاً أو يعكس كل منها صدى آخر للحقيقة. ولأنه صاحب مشروع، فهوـ كما أشار فيكتور فرانكل (صاحب كتاب "الإنسان يبحث عن المعنى ـ مقدمة في العلاج بالمعنى"، ترجمة طلعت منصور) سريع الاهتداء إلى الـ "كيف"، أي الطريقة، طالما أن لديه ما يكفي من الـ "لماذا"، التي هي هاجسه الأساس، مهنياً واجتماعياً وثقافياً.   

ثمة محور مركزي في كلا الكتابين اللذين أصدرهما علي حتى الآن،هو ما يُعرَف باسم "المشكلة النفسية ـ البدنية" (أو: "معضلة العقل والجسد") التي تتركز في السؤال: كيف تنشأ الحالات النفسية، غير المادة، في الدماغ، من خلال عمليات كيميائية وكهربية، مادية في جوهرها، وبالعكس أيضاً؟ إنه الجدل حول العلاقة بين الفكر والوعي فيالعقل البشري وبين الدماغ باعتباره جزءًا من الجسم المادي.ولهذه العلاقة بين النفْس والجسد، كما هو معروف حتى لغير المهنيين في علم النفس وعلم الدماغ والأعصاب، أهمية قصوى في تقصي وفهم منابع آلام البشر ومصادرها. وأذكر، شخصياً، أنني قرأت بنهم كتاب يشعياهو ليبوفيتش عن هذه "المعضلة" (بالعنوان ذاته: "أسس المشكلة النفسية ـ البدنية"). وأذكر أنه خلافاً للمدارس المختلفة التي عالجت هذه المشكلة وحاولت طرح حلول لها، أصرّ ليبوفيتش على أنها مشكلة غير قابلة للحل والتسوية، لأنه كان يعتقد باستحالة فهم الآليات والسيرورات التي قد يؤدي حدث مادي ما بواسطتها إلى "حدث نفسي"، وبالعكس، لا سيما أن الحديث يدور عن كيانين (النفس والجسد) منفردين مختلفين عن بعضهما بصورة جوهرية ولا نقاط التقاء أو تماس بينهما. وكان ليبوفيتش جازماً في القول إن كل النظريات التي تعالج مشكلة النفس ـ جسد، أي حقيقة وجود عالمين، وعينا وإدراكنا، الجسدي والنفسي (أو الموضوعي والذاتي) والعلاقة بينهما، منذ اليونانيين وحتى يومنا هذا، "ليست إلا محاولات لفهم حقيقة نعرف أنه لا يمكن حلها"!

لكنّ ما أتى به علي في كتابه عن التنويم المغناطيسي وما رواه من قصصه تدحض، بكل قوة، الادعاء الليبوفيتشياني المتجسد في النفي القاطع لأي "نقاط التقاء أو تماس" بين هذين "الكيانين المنفردين المختلفين عن بعضهما بصورة جوهرية" ـ دحض ينبني على أحد التبصرات المركزية التي خلُص إليها زيغموند فرويد ويزيد في تأكيده: عقلنا اللا واعي هو الذي يقودنا ويديرنا، وهو يعمل وفق قوانين غير عقلانية، ما يعني بالتالي أننا ـ في المستوى الأكثر عمقاً ـ مخلوقات غير عقلانية! وهي الفكرة ذاتها التي أكدها تلميذه كارل غوستاف يونغ بالقول إنه طالما لم نجعل اللا وعي واعياً، فسيواصل التحكم بحياتنا، بينما نحن نسمي ذلك قَدَراً. 

يتقدم علي بدارنة، في هذا الكتاب، خطوة غير مسبوقة في اللغة العربية (وأسمح لنفسي أن أشك في ما إذا كانت قد تحققت بهذه الصورة في لغة أخرى أيضاً!): شرح مبسّط، تاريخيّ وعلميّ، مُعزّز بقصص واقعية ـ أو، هكذا ينجح في إقناعنا ـ ينسجها كاتب مقتدر يجيد حرفة القصّ، لموضوع "التنويم المغناطيسي" (الهيبنوزا) الذي يعتمده طريقة علاجية، تبدو "سحرية" أحياناً كثيرة، للغوص في أعماق اللا وعي الذي يتحكم بنا وبحياتنا، بمشاعرنا وتصرفاتنا، لانتشاله من دياجير العتم وإخراجه إلى نور الوعي، فيتوقف عن التحكم بنا! إنه سعي الإنسان الدائمنحو التحرر من ربقات الماضي والتطلع إلى سعادة، قد تكون غير متحققة أو غير قابلة للتحقق حتى، لكن القدرة على البحث عنها والسعي إليها ـ كما يقول الصدى الدائم التردد في مسرحيات تشيخوف ـ هي أحد أسرار قوة الإنسان وأحد أسباب فرحه. 

حقيقة يبدو جلياً تماماً أن علي يدركها، يهتدي بها ويوظف جهوداً استثنائية في نشرها وترجمتها واقعاً. 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب