news-details

"لا بدَّ من حيفا": حكاية الوجع والحنين| سليم النجار

ابتداء نستطيع القول أن النقد الجديد بدأ يأخذ شكلاً جدياً، وإن كان لا يخلو من محاولات متعثرة ظلت تقف عند مرحلة " البلاغة"، التي اهتمت أكثر بالشكل وصورة الكلام والصياغة.

حاولتُ في هذه القراءة النقدية لديوان "لابد من حيفا" للشاعر عبدالناصر صالح، التمييز بين البعدين الفني والجمال، وتحرير النص الشعري من تعلقه بمؤلفه، فالنص الشعري في رأي كتّاب النقد الجديد هو إنتاج إبداعي في حد ذاته. وبالتالي يمتلك خصائص بنائية مميزة مثل: التواترات والمفارقات ومسارات النمو والتطور وأنماط الغموض.

لقد وجّه كتّاب النقد الجديد جُلَّ اهتمامهم للقراءة القريبة، أي قراءة النص من داخله وليس من خارجه.

وظهرت أيضاً ظاهرة جديدة في منظومة "النقد الجديد" ألا وهي ظاهرة "اللاشعور" للنص الشعري، وهو جزء من الخطاب العياني، الذي يمثل في إحدى تشكيلاته النقدية وتتجلى صورته بالشخصي ويتبعه شكلٌ حواريّ يخرج من متناول الشخص في محاولته وصل خطابه الشعوري.

إنه لغوي مائة بالمائة لأنه يتضمن خطاباً يحمل في طياته رؤية الآخر داخل شيفرة النص.

لذا تُعد آليات القراءة التفكيكية " الهدم والبناء" للنتاج الشعري، الجوهر الأساس في توليد التحديّات الخلاّقة، وإفراز الوجوه المبتكرة للنص الشعري. فقوام هذا الوجه التركيز على اللسان المنطوق بدلاً من اللسان المكتوب، والتزامن بدلاً من التعاقب، والحيثية بدلاً من ربط اللسان بالدوائر المعرفية الصرفة، والتركيز على العلاقات النفسية، بدلاً من اللجوء للمرجعيات المادية، ومن هذا المنظور يتبدّى لنا أنّ اللسان هنا هو فعل ذهنيّ.

أما الوجه الثاني الذي اشتغل عليه عبد الناصر صالح في ديوانه، هو الحنين كوجه شعري يعتمد على التحليل النفسي، لإيمان عبد الناصر بأن النفس البشرية تحدّدها بنيات اللغة التي تأخذ الطابع النفسي. وهذه الفكرة هي في المقام الأول فعل إنساني مشتبك مع الحدث الذي يقدمه الشاعر، كقراءة ذاتية شعرياً.

لقد وظف عبد الناصر الذاتية كصرح يُبنى عليه نصه الشعري.

مما سبق بيانه نخلص إلى أن عبد الناصر صالح يُعدّ مجدداً في حقل التحليل النفسي، وقد فتح طريقاً  لا نستطيع الزعم أنّه جديد، لكنه غير مطروق بشكل كافٍ، لذا جاز لنا القول إنه فتح جديد.

   

//الشاعر الحالم

يَعرف الشاعر عبد الناصر صالح أهمية توظيف الأنماط الرمزية الدالة على الحنين في نصه الشعري كحالة مستمرة ومتدفقة،

(لكي يرثَ البحرَ

يَدحرُ كلَّ التماثيل غارقةً بالفجيعةِ

يقرأ للأرض مَوْعِظةً

وهو يعجنُ رؤيتَهُ في كلامٍ

يفيضُ غيوماً)

في هذا المقطع تعبيرات شعرية تفضي لخلق كوني جديد، إنه خلق يقترب للأسطورة، التي لا يمكن النظر لها إلا أنها أسطورة فلسطينية بكل ما تحمل الكلمة من معنى..وإن حاورت في إحدى تجلياتها الأسطورة البابلية وأسطورة الخلق المصرية  كمفردات للأسطورة الفلسطينية. بوصفها مراكز تتمتع بتجاورات معرفية تتقاطع في التعريف بفلسطين شعراً يكسر ظلام المسكوت عنه، ويكشف الحقيقة بعيداً عن أي تأويل،

(ولا تنسَ يا صاحبي

شاعراً سلَبته المدينةُ أيامَهُ

وهَو على نَغَمِ النّاي

 يروي حكايتَه مثلَ لحنٍ أصيل)

وفي مقطع شعري آخر يُصور حالته بشكل مختلف،

(لا  لم تَمُتْ

أُمّي ذؤابةُ مُهجَتى

ومُروجُ آحداقي الظّليلةِ

واندفاعُ الموجِ في عينيَّ

أتبُع ظِلّها)

الأثير،هنا، هو العنصر المتشكل من الهواء، ومن عنصر مرافق للنار، وعنصر تتمظهر صورته بالماء كمرآة جامعة للعنصرَيْن السابقين، وهذه العناصر تتماهى مع ملكات الحنين.

       

// أسطورة الوجع

قد يطال ضرر الغموض المظاهر الشعرية الحديث، كالتضمين الأسطوري أو التناص" تداخل النصوص" أو حتى الصورة في هذه المظاهر تتجانس في أشكال إبداعية مختلفة.

هذا التماهي في أحيان كثيرة يتفاعل مع الدلالات الأسطورية،

(يرحلَونَ

 أولئكَ الأغلالُ في أعناقِهمْ

هل تخطئُ العينُ البصيرةَ؟

سوفَ يَدْهُمكَ الجنودُ)

ومثل هذا النص لا تنكشف دلالالته من القراءة الأولى له، إنما ينطبق عليه الغموض  الذي يدعو إليه عبد القادر الجرجاني، الغموض الذي يدفع إلى لبحث عن المعنى،

(ماذا دَفَنْتَ هناكَ بينَ ظِلالِها

صُوَراً مُعلقةً على الجدُرانِ؟

حُلمكَ فارهٌ يمشي على قَدْرِ الحياةِ

وصيّةً مَخْبوءةً بالرّملِ

تُرضِعكَ السّجونُ حَليبها)

في هذه العلاقة الجديدة تصبح الرغبة أحد طرفين يتغذيان على الضمير الذي يتبلور صورته في أزمان متطاولة،

(كي يستبيحَ الليل وثْبتنَا

ستقودُها بجدارةِ العقلِ المُحرَّرِ

هل ستنسى؟)

ويكشف هذا المقطع أن هناك ليلاً فلسطينياً يقترب من مفاهيم أسطورية،

(تصَدّعتِ المروجُ وتنخلُها العالي

يُناغي غَيْمةً حارَ المساءُ بِها

فما ذَنْبُ الفَراشِ إذا مَضى

مُتسَربلاً بدموعِهِ؟

لابُدَّ من لُغةٍ لأسْتُرَ عَوْرتي)

في هذا النص عودة ثانية لأسطورة الوجع الفلسطيني.

إنها أسطورة الأسير الفلسطيني القابع في سجون الإحتلال الإسرائيلي.

الشاعر عبد الناصر عاشق حيفا / التي منحته خصوبة أسعدت أيامه وجعلته يستعيد لحظة خاطفة عابرة عندما غادر السياسة، وعاد لحيفا شاعراً. هي لحظة حمل فيها كلماته بين يديه، وكان يرفع قلبه طريقاً مُعبّداً للعودة، إنها العودة لحيفا. فكان "لابد من حيفا".

    

// لماذا أنا فلسطيني؟

نستطيع أن ننظر إلى "ثقافة الشعر" السائدة في أدب هذه الأيام على أنها تجربة قديمة وجديدة في آن، هي تجربة قديمة موغلة في القدم لأن الإنسان الأول، كما هو معلوم، قد اكتشف ثقافته قبل أن يكتشف عقله، فرقص قبل أن يتكلم، ولم يكن له أن يصل إلى أي تصور للعقل أو أي مفهوم عنه، إلا من خلال العقل ذاته، لذا خاطب الشاعر عبد الناصر صالح في" لابد من حيفا" العقل على اعتبار أنه وُلِدَ من رحم الثقافة.

غير أن هذه الثقافة ليست مجردة من مكنوناتها الإنسانية، فهي عنوان جامع اختاره شاعرنا كفلسطيني الرؤية وإنساني الانتماء.

وما دامت فلسطين قد أصبحت لعبة، أو هكذا يتصور " الإسرائيلي" ومن صنَعَهُ، فكان لا بدَّ من حضور الشعر ليعرّي هذه اللعبة، حتى لا تنزلق باللامعقول، فالمعقول هو الحس الشعري الفلسطيني الذي يستعصي على النسيان أو المحو.

وقد استفاد الشاعر عبد الناصر من وجع الشخصية الفلسطينية، من خلال التعامل معها في مواقف عادية بالغة البساطة، حيث يعمد إلى التركيز والتذكير والتكثيف واستخدام الإيماءات المرهفة في الكشف عن ما تسبرهُ الأعماق دون ضجة أو زعيق. واستخدم لحظات الصمت كواحدة من استراتيجيات إبراز بعض الأحداث او لفت نظر المتلقي إلى أهمية المواقف الإنسانية التي يتعرض لها الأسير الفلسطيني، الذي يَبني وطناً جديداً في المعتقل " الإسرائيلي"، مشيراً إلى كل التناقضات الكاشفة عن مختلف التنويعات في الحياة اليومية للأسير الفلسطيني الذي يدفع ثمناً غالياً من حياته، كهوية جديدة للوطن الفلسطيني المقاوم والساعي لبناء جنته التي يريد لها الحياة، فكان عبد الناصر صالح شاعراً لهذا الوطن الجديد.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب