news-details

حتّى يكتمل التحرير اللبناني ولا يتحوّل لمجرد "سردية"| حسن مصاروة

في كل مكان في العالم، تتحوّل ذكرى التحرير من الاحتلال إلى عيد شعبي تشارك فيه كل القوى السياسية الفاعلة المتمثلة في السلطة أو الموجودة خارجها... إلّا في لبنان! فعيد التحرير من الغزو الاسرائيلي للبنان الذي تصادف ذكراه في الـ25 من أيّار، يتحول إلى مناسبة تخصّ فصيلًا سياسيًا وتحالفًا سياسيًا معينًا ومنطقة معينة وطائفة بعينها. الذكرى تمرّ هذه السنة كما تمرّ سنويًا على نحو خجول لبنانيًا، لولا الاحتفالات التي يقيمها حزب الله، وبعض القوى الحليفة له والإسهامات الصحافية والإعلامية للوسائل المحسوبة على حزب الله والقريبة منه، لما تذكرنا أن اليوم هو ذكرى أعظم انتصار حقيقي منذ تأسيس هذا الكيان المسمى "لبنان". في عام 2005، ومع وصول فؤاد السنيورة إلى رئاسة الحكومة، صدر مرسوم حكومي قضى بإلغاء عيد المقاومة والتحرير من قائمة العطل الرسمية. أبقى على ذكره عيدًا وطنيًا، شكلًا، لكن من دون تعطيل في الإدارات الرسمية. لا احتفالات رسمية في لبنان، القادة السياسيون المحسوبون على التيارات الأخرى لا يتطرقون للتحرير بأي تصريح. ذكرى التحرير "اللبناني" لا تظهر أمامنا على أنها "لبنانية" حقًا.

ويمكن بالطبع إحالة ذلك لقصور في طبيعة وممارسة التنظيم الرائد في عملية التحرير والمستحوذ على سردية وخطاب التحرير والمقاومة وهو حزب الله وحدوده الايديولوجية التي تعرقل قدرته على تحويل التحرير والمقاومة إلى مشروع وطني تحرّري سياسي واجتماعي جامع عابر للطوائف والمناطق والكانتونات اللبنانية المصطنعة في نظام محكم الانغلاق الطائفي ساهم ذات الفصيل المقاوم في ترسيخه. وهذا القصور قد ظهر مؤخرًا في تعامل الحزب مع الانتفاضة اللبنانية في بداياتها بانحيازه للسلطة على الأقل بالتحفظ الأولي من الانخراط في الانتفاضة أو في تحشيد جمهوره حول مطالبها، حيث ظهر كقطب من أقطاب السُلطة في لبنان وجزء صلب من أجزاء هذه المنظومة الفاسدة وله مصلحة في إبقاء نظام المحاصصة الطائفية والنهب متعدد الأقطاب. حيث وضع "خيار المقاومة" الذي يمثله في مواجهة تطلّعات الناس من أجل الخبز، وتمسك بسلطة يضر نهبها وفسادها بالشكل الأكبر بجمهوره وحاضنته الشعبية. حيث أن الحزب أثبت عدم قدرته على أن يقدم، رغم الإنجازات الاجتماعية وتعزيز الشرعية منذ التحرير، مشروعًا شاملًا وعابرًا للطوائف بشكل جامع لأجندات مقاومة الهيمنة الاستعمارية العسكرية وأجندات التنمية الاجتماعية والانحياز الطبقي المؤدلج للفقراء لا الانحياز الخطابي الديني، أو البراغماتي الذي يسعى أن يحافظ على مستوى معيشي لائق نسبيًا للبيئة الشعبية الطائفية الحاضنة.

هذا مع أن الحدث والنموذج الذي مورس في أيّار 2000 وتم تعزيزه في 2006، الّذي عبر عن قدرة المقاومة العربية على هزيمة الجيش "الذي لا يُقهر"، استطاع أن يتحول إلى نموذج عابر للمحيط في مقاومة الهيمنة الاسرائيلية-الأمريكية حيث أن الجنوب اللبناني أعطى درسًا لفقراء الوطن العربي، وينتظر أن يذوتوه جميعًا: أن رغيف الخبز لا في سماءٍ فوقهم ولا في أيدٍ تعطيهم إيّاه فتاتًا على شكل مشاريع نيوليبرالية يحكمها قانون بنك النهب الدولي تتغنى "بسيادة" و"استقلال" خادعيَن، سيادة واستقلال باللغة الأورويلية، نفس اللغة التي تسمي تدمير سوريا وليبيا والعراق "بالتدخل الإنساني"، بل حتّى رغيف خبزهم تنهبهُ المشاريع الأمريكية -الاسرائيلية المتروبولية بمساندة أذنابها ووكلائها المحليين. وأن أياديهم الكادحة إذا قررت أن تستحوذ على مصيرها وتواجه تستطيع أن تذل أعظم القوى الإمبراطورية وتستل رغيفها من بين أنيابهم، وها هو الدرس يُدرك جيدًا في سوريا واليمن إلّا أن هذا المشروع بقي قاصرًا لمعضلات بنيوية داخلية لبنانية أن يتحول إلى مشروع "لبناني" شامل.

لكن العلّة الأساسية في اللا-معقولية الماثلة أمامنا في التعامل اللبناني العام مع عيد التحرير، وما هو إلا اشارة لواقع سياسي-اجتماعي-سلطوي معلول، هو وجود قوى سياسية كانت تتعامل مع الغزو الاسرائيلي أصلًا كـ"تحرير". وتعاملت مع قوات الاحتلال كحليف محرر ولا زالت مرتبطة عضويًا بمشاريع الهيمنة الاسرائيلية-الأمريكية، لا تمارس حياتها السياسية بشكل طبيعي فقط بل تشارك في السلطة، فمن الطبيعي أن تتعامل مع ذكرى التحرير على أنها ذكرى هزيمتها هي، ولو موهت ذلك بسرديات وخطابات عن "السيادة اللبنانية" و"نزع سلاح حزب الله" و"مواجهة الهيمنة الإيرانية". خالقة واقع مشابه في لا-معقوليته لما كان سيكون عليه الحال في فرنسا مثلاً لو شاركت قوى حكومة فيشي المتعاملة مع الاحتلال النازي في السلطة بعد هزيمة النازية.

والمعضلة الكارثية في ذلك أن تلك القوى العميلة تملك سردية متينة تسيطر بإحكام أيديولوجي على كتل بشرية متمايزة طائفيًا ومناطقيًا تتمظهر سياسيًا في كُتل القوات اللبنانية والكتائب وتيار المستقبل وتحالف ١٤ آذار، تخلق سردية عن تاريخها على أنها هي "المقاومة" الحقيقية في لبنان، التي قاومت "الاحتلال" الفلسطيني ثم الوجود السوري في لبنان وتنظر إلى بشير الجميل الذي استجلب الغزو الإسرائيلي ليقصف عاصمته ب٧٠ ألف قذيفة يوميًا على أنه شهيد وبطل ورمز "مقاوم" استشهد في سبيل الحفاظ على استقلالية لبنان، وأخرى تنظر إلى الصبي السعودي رفيق الحريري على أنّه رمز استقلالية لبنان وشهيده، وتروج  للارتهان للمشاريع السعودية في المنطقة على أنه نضال من أجل السيادة اللبنانية في وجه "الهيمنة الإيرانية".

 والخطورة في هذه السرديات تكمن في أنّها ليست مجرد نظرة عن الماضي، ليست مجرد "سرديّة تاريخية" بل هي في الأساس نظرة إلى الحاضر والمستقبل، وموجه أيديولوجي للأجندة السياسية فينتج عن ذلك-وفقًا لهذه السردية -أن من يساعد إسرائيل، حرفيًا، بالمساهمة والصراع من أجل نزع سلاح حزب الله هو مناضل حقيقي ويساهم حقًا بإنجاز الاستقلال الحقيقي للبنان. البشع حقًا في التقسيم السياسي-الاجتماعي-الاقتصادي الطائفي للمجتمع اللبناني، هذا التقسيم الذي لم تساهم الحرب الأهلية الطويلة ولا الانتصار العسكري على الجيش الإسرائيلي وتحرير الجنوب من زعزعته، لا يكمن كما يحاول أن يُظهر المجتمع المدني والليبراليون من مناضلي "الان جي أوز" في أنك لا تستطيع في لبنان أن تتزوج زواجًا مختلطًا وفق القانون أو أنك لا تستطيع أن تبني دولة ديموقراطية علمانية حسب مواصفات الليبرالية الغربية. بل البشع حقًا أنك إذا وُلدت هناك لطوائف معينة من المُرجح أن تكون فردًا مكونًا لكتلة تساهم في تمرير أجندات عميلة تخدم الاسرائيلي والمخطط الامبريالي الاستعماري الاستتباعي في دولتك وفي المنطقة. لا لأنك تريد أن تكون عميلًا أو أنك رخيص وهناك من يدفع لك، لا! بل لأنك في الأساس صادق وتؤمن بسردية مجموعتك الطائفية/السياسية بأن ما تفعله هو وطنية ومقاومة ودفاعًا عن الاستقلال حقًا.

انتهت الحرب الأهلية في لبنان وسحق الجيش الإسرائيلي في أيار 2000 وسمح لكل فصيل أن يعود إلى موقعه بسرديته الخاصّة عن تلك الحرب وعن ذلك التحرير، أن يمضغها في كل مناسبة وأن يعيد انتاجها في تلاحم على مستوى الخطاب مع السرديات الأخرى من جهة وفي تواؤم على اقتسام السلطة مع القوى المنتجة للسرديات المتلاحمة. وهذا يعني انه لا يمكن للتحرير الذي نحتفل به اليوم أن يكون مكتملًا، أن يتخطى كونه مجرد سردية لفصيل معين على المستوى الداخلي اللبناني، إلا بتصفية هذه القوى والقضاء عليها نهائيًا، وهذا ينجز بالأساس بواسطة تحطيم النظام السياسي-الاجتماعي-الأيديولوجي-الطائفي والسلطوي الذي يحافظ على بقاء هذه القوى ويضمن بقاء هيمنتها السياسية وسيطرة سرديتها الايديولوجية على كتل بشرية كاملة في لبنان.  ولا يمكن تحقيق هذا الا بأن يستحوذ على سردية وخطاب ومشروع التحرير والمقاومة مشروع تقدمي طلائعي عابر للطوائف والكانتونات اللبنانية، قادر ايديولوجيًا على تحشيد الجماهير اللبنانية بشتى طوائفها ومناطقها حول مشعل التحرر الوطني والاجتماعي المقاوم.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب