news-details

"يارا"... لمن تُقرع الأجراس؟

*بمناسبة عرض الفيلم في مهرجان الأفلام العربية الخامس – كوبنهاغن- أكتوبر 2019*
استطاع الياس بفضوله، أن يدخل أحد بيوت القرية المهجورة بسهولة ويارا معه. تأخذه يارا في جولة في القرية، فيدخلا المدرسة القديمة، وهي المدرسة التي تعلّم فيها والدها، تتكوّن من غرفة صغيرة ومقاعد مكسوة بالغبار، ثمّ يذهبان معاً إلى الكنيسة المهجورة، فيقرع الياس جرسها الذي يتردّد صداه في الوادي، مُعيداً إلى الأذهان السؤال: "لمن تُقرع الأجراس؟".

 

يقدّم لنا المخرج العراقي عباس فاضل في فيلمه، "يارا"، صورة عن قرية لبنانية مهجورة لا يسكنها أو يأتيها إلّا عدد قليل من الناس. تدور الأحداث في "وادي قديشا" (المقدس)، أو "وادي قنّوبين"، ذي الطبيعة الهادئة الجميلة، والقويّة بجبالها الشاهقة ووديانها السحيقة. تتساءل وأنت ترى العجوز السمينة التي تبدو كما لو كانت هي نفسها كتلة نُحتت من صخر المكان، وعمرها من عمره، ما الذي أتى بالناس إلى مكان شاهق الارتفاع كهذا، بعيد لا تصله إلّا بغلة أو مجموعة سيّاح جرّهم مرشد هو ثاني اثنين من الرجال الذين بقوا في الوادي، المرشد وصاحب البغلة؟

يُحضر المرشد السيّاح الذين لا نراهم، لتناول وجبة غداء على شرفة ذلك البيت، المظلّلة بالدالية والمطلّة على الوادي، ويزوّد صاحب البغلة، يارا وجدّتها باحتياجاتهما من المواد التموينية التي تنقصهما. تنمو بين الطرفين، المرشد وصاحب البغلة من جهة، ويارا وجدّتها من الجهة الأخرى، علاقة صداقة لطيفة مبنية على الثّقة وتبادل بضع جمل بسيطة مكرّرة.

نلمح استلطافاً ما، بين المرشد ويارا. يقفز فجأة من ناحية السور ليسألها إن كانت تستطيع أن تستقبل مجموعة سيّاح لتناول الغداء بعد يوم أو اثنين، فيما تداعب هي، مزمار المرشد وتطلب منه أن يعزف لها. فهي لن تتقن العزف على هذه الآلة يوماً. وربّما لا تريد أن تتقنه، بل تريد أن يعزف هو لها، فتُصغي.

فجأة، يظهر شابّ من المدينة أتى سائحاً. يقتحم "إلياس" المكان ويمدّ يده إلى صحن البرقوق الأخضر(الجرانك) الذي ينبت كما التوت في الحديقة، ويشرب من الماء الزلال الذي تطمئنه يارا بأنّه ماء نبع صافٍ. نلاحظ أنّ يارا التي كانت تنشر ثيابها المكوّنة من قطع ثلاث، أخفت القطعة الرابعة في يدها خلف ظهرها كي لا يراها عابر الطريق هذا. إنّها غيارها التحتي. فهل خجلت، أم أنّه رمز لعلاقة من نوع آخر؟ فقد اعتادت يارا أن تعلق ثيابها على الشرفة دون خجل في هذا المكان النائي، وحين يسألها المرشد عن سبب خروجها من الحمام ملتفّة بالمنشفة، يكون خروجها بهذا الشكل، هو جوابها له. لكنّها تتصرّف معه بشكل مغاير. فهل في ذلك إشارة إلى خشيتها على عذريّتها من هذا الغريب الذي "اقتحم" وحدتها؟

يترك هذا المتطفّل وراءه شيئاً يصير موضوعاً، قبّعته، كما هو الحال مع مزمار المرشد. يعود الياس ويعود، ومع كلّ عودة ينمو الحبّ ويكبر. لا نعرف شيئا عن الياس، إلّا ادعائه أنّه من استراليا، وأنّه سيعود إلى هناك،وسؤاله ليارا إن كانت ترغب في مرافقته. لكنّ اللافت، هو إتقان الياس اللهجة اللبنانية دون ليّ كما يفعل أبناء المهاجرين. ويعرف كذلك الأغاني اللبنانية، ومنها أغنية "يارا" للرحابنة. ورغم رتابة الأحداث وبساطة الموضوع، كما يبدو للوهلة الأولى، إلّا أنّنا نبقى مشدودين لسببين: هل ستتعرض يارا بسببهذه الوحدة في الجبل وارتدائها "الشورت" واستلقائها مع الياس على فراش في بيت مهجور، للاغتصاب؟ أم أنّ العلاقة ستنتهي باكتشاف يارا كذب هذا الشابّ وخيانته؟ فهو كلّما التقيا، رنّ هاتفه فسارع ليغلق الخطّ دون أن يشرح لها من الذي اتصل، بينما هي لا هاتف لها، ولا من يتصل بها، فهي مكشوفة كالطبيعة، كلّ ما لديها هو بعض الثياب، وفرشة بسيطة لا تغطيها حتى ملاءة، وصحن يلتقط بعض المحطّات على شاشة جهاز تلفاز قديم، في غرفة تزيّنها صورة والديها، تتوسّطهما صورة "العذراء مريم"، وعلى الجدار الآخر بندقيّة. وبندقية أخرى، أو مسدس بالأحرى، نجده بين يديّ الطفل شربل، الذي يكرّر السؤال عن البارودة المعلّقة، فنخشى وقوع مصيبة، من نوع آخر.

شربل هذا يلعب دور الابن والأخ الصغير ليارا، فتطمئن عليه وتسمح له بأن يسرّح شعرها. بينما يدور بين هذا "الرجل" الصغير وبين الجدّة، الحديث عن زرع الأرض. وهو ما لا علاقة ليارا به، فالجدّة هي فقط من تهتم بالأرض، وتلعب بذلك دور الرجل والمرأة معاً. حين تسأل يارا شربل عن "البنات" في صفّه، نعرف أنّ الصفّ يتكوّن من ثلاث بنات، ما يجعل مجمل عدد التلاميذ لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة، وشربل هذا غير معجب بشكل محدّد بأيّ من بنات صفّه، الأمر الذي يترك علامة سؤال على مستقبل وجود هذا الجيل واحتمالات بقائه في المكان.

من ناحية أخرى، وجود بنات ثلاث في الصفّ، يقابله وجود إناث ثلاث، هنّ الجدّة ويارا إلى جانب الطفلة الصغيرة (أخت شربل) التي تظهر كمعادل للصبي، لكن لا حضور أبعد من ذلك لها. قد يكون ذلك مؤشّراً إلى أن المرأة هي حارسة الأرض والذاكرة من خلال أجيال ثلاثة، وهي التربة الخصبة لاستمرار الحياة. إلى جانبهنّ هناك "العذراء مريم"،التي تلجأ إليها يارا في لحظة ضعف في هذا الوادي "المقدس"، والتي قد تكون رمزاً يعزّز فكرة الأمومة والحياة.

بيوت القرية المهجورة، فارغة من سكانها، صورهم معلّقة على الجدران، أبوابها مغلقة بشكل واهٍ، والمفاتيح معلّقة من الداخل كوعد بالعودة، أو هي دعوة لمن يريد أن يعيد الحياة إليها. استطاع الياس بفضوله، أن يدخل أحدها بسهولة ويارا معه. تأخذه يارا في جولة في القرية، فيدخلا المدرسة القديمة، وهي المدرسة التي تعلّم فيها والدها، تتكوّن من غرفة صغيرة ومقاعد مكسوة بالغبار، ثمّ يذهبان معاً إلى الكنيسة المهجورة، فيقرع الياس جرسها الذي يتردّد صداه في الوادي، مُعيداً إلى الأذهان السؤال: "لمن تُقرع الأجراس؟".

لا يلوّن حياة القرية إلّا صوت طير، أو خرير ماء، أو حفيف أوراق، أو نهيق بغلة، أو ثغاء ماعز، أو جرس كنيسة مهجورة، وربّما زجاجة طلاء أظافر قدّمها الياس ليارا، كما يفعل المرشد السياحي بمزماره حيناً، ويكسر الرتابة حين يُحضر سيّاحاً بين الحين والآخر. ورغم كلّ ذلك، لا نرى أيّة إشارة مادّية، فلا وجود للتعامل النقديّ، حتى بين صاحب البغلة ويارا التي بالإضافة إلى ثيابها القليلة وفرشتها العارية، تتجوّل حافية القدمين في البيت وعلى السطح.

بالتدريج، نعرف أنّ سبب غياب والديّ يارا هو ببساطة، حادثلا علاقة له بالحرب التي يُوحي لنا بها، وجود البارودة!

التواصل بين الجدّة - التي عرفت المكان بشكل آخر في الماضي- ويارا، بسيط ومكرّر. فكلّ واحدة منهما، تأكل لوحدها وتغسل ثيابها القليلة لوحدها، وكأنّنا بالجدّة تقضي بقية العمر حابسة ذكرياتها ومتعلقة بالأرض، لا أحد لها إلا ربّها، تصوم وتصلّي المسبحة وترقب من بعيد قصّة حُبّ حفيدتها التي لا تعرف تفاصيلها. وكما يبدو، تشكّ في استمرارها.

حين يأتي الياس ليودّع يارا، يحضر معه رسالة، لكنّها لا تأبه بقراءتها، فهي ترغب أن يسرد عليها هو فحوى الرسالة. المواجهة بينهما صعبة، والمشاعر جيّاشة. الياس يترك يارا مجبراً نتيجة ضغوط والده. وهي تترك الرسالة ملقاة على الأرض وتذهب لتستلقي على سريرها وتبكي. لكنّها، وبعد أن تُنزل صورة العذراء عن الجدار، لتضمّها إلى صدرها، كأنّ لا أحد لها إلّا غيرها.وهوما تفعله جدّتها بصومها وصلاتها. تعود يارا لتقوم بمهامها اليومية والاهتمام بالدجاجات والماعز، بنفس رباطة الجأش أو البرود الذي قابلت به نقص عنزة بسبب الواوي الذي يّهاجم القطيع بين الحين والآخر، وكأنّ ما في اليد حيلة، أو كأنّ البارودة ليست لهذا الغرض.

الياس، الذي يعجب بالمكان وابنة المكان، يتساءل: "لماذا هجره الناس"؟ لكنّه هو نفسه يُهاجر حين تصله "الفيزا" (التأشيرة)، ويرضخ لضغط والده، صاغراً.

المناسبة الوحيدة التي تحمل فيها يارا البارودة، حين ترى ظلّ رجل في السّاحة أو خلف البيت، ثم يتبيّن لها أنّه وهم أو ظلّ عابر. نتنفّس الصعداء، ونفعل ذلك ثانية حين نرى شربل يحمل مسدسه البلاستيكي ويطلق الـ "فشك" على حبّات توت صفّها على طرفساحة البيت المطلّة على الوادي.

في نهاية الفيلم، نسمع صدى صوت الياس يردّد اسم يارا، وفي مشهد آخر نرى الجدّة على شرفه البيت المطلّة على الوادي، بينما يارا على السطح تنظر نحو الأفق، ربما انتظاراًلظهور شخص ما، أو رغبة في الرحيل. لكنّ النهاية تبقى مفتوحة،من خلال طلب الجدّة منالمرشد أن يتزوج يارا، حين يسأل عنها ويقول إنّه حان وقت زواجها. وينتهي الفيلم بهذه النهاية المفتوحة علىتجّدد الحياة في هذا الوادي، أو أن يهجره الباقون، وتُطوى صفحة حياة البشر فيه بالكامل.

لبنان، الحاضر في الفيلم بجماله وغنى طبيعته وفقره والنزوح الذي شهده على مرّ التاريخ، حاضر أيضاً في تراثه الرحبانيّ. فالصدى في غرفة المدرسة، وصدى الوادي الذي يُرجع ترديد الياس لاسم يارا،أو صوت جرس الكنيسة حين يُقرع، كأنّها جميعا تغنّي: "ما في حدا، لا تندهي ما في حدا، عتم وطريق وطير طاير عالهدا... بابُن مسكّر والعشب غطّى الدراج... ما في حدا لا تندهي ما في حدا... شو قولكن؟ شو قولكن صاروا صدى؟".

(الدنمارك)

كلام الصورة: "يارا"، صورة عن قرية لبنانية مهجورة لا يسكنها أو يأتيها إلّا عدد قليل من الناس

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب