news-details

  185ألف كيلومتر مربع | عبد الرزاق دحنون

 ما زال المزارعون السوريون يدّعون أن طائراً أسطورياً لا تعرف أشجارهم وسفوح جبالهم أروع منه حلَّة ولا أبهى رونقاً، يصدح، فتُصغي البساتين والغابات بغبطة لما يقول، وتُصفّق أوراق الأشجار بخفّة، وترقص رقصتها الأزليَّة، للواكف المنهمر، وتهتف: إنه السكران.

هل هو نوع من الحساسين الصغيرة الملوَّنة؟ كما وَثَّقه كاتبنا السوريّ المحبوب سعيد حورانيَّة في واحدة من أجمل قصصه (عاد المُدمن) تجدها منشورة ضمن مجموعته القصصية (شتاء قاسٍ آخر) أو هل هو طائر المكَّاء؟ كما وثَّقه الصديق الباحث الشاعر الفلسطيني زكريا محمد في كتابه الجميل (عبادة إيزيس و أوزيريس في مكة الجاهلية). تقول حكاية هذا الطائر السوريّ السكران كما سمعتها من جدي عثمان دحنون-رحمه الله- والذي ظلَّ فلاحاً مرابعاً بلا أرض، حيث رفض أخذ حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعي في ستينيات القرن العشرين مُدعياً أن هذه الأرض مَكْس، فهي حرام، في الحديث “لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنَّة”:

في أوائل الخريف من كلِّ عام يحطُّ طائر السكران على شجرة الرمان الحلو- والله أعلم كيف يُميز هذا الطائر بين شجر الرمان الحلو والحامض واللّفان- ثم يدور حولها متفحصاً، حتى يختار إحدى أكبر حبات رمانها الناضج، ويروح ينقرها حتى يسيل دمها، فيمص السائل الحلو اللذيذ، ويظلُّ يُتابع طيرانه ورشفه حتى يفرغ رمانته من لُبِّها تماماً، عندئذ يمسك منقاره غصنها فيقصفه، تسقط الرمانة على الأرض، يُدحرجها إلى وهدة قريبة، ثمَّ يتركها في الشمس حتى تيبس. وبعد حين من الزمن تبدأ عملية هذا الخمَّار المدهشة، ينسى شدوه وينصرف إلى العمل بهمّة عالية، عليه أن يملأ دنان الرمان بحبات العنب الناضج الحلو، ومن ثمَّ بعد الفراغ من عمله هذا في جمع العنب يختم فم الرمانة بالقش والطين، ثمَّ يدفنها في التراب. فإذا تمت مؤونته مع قدوم الشتاء، ضرب بجناحيه الأجواء، مغنياً أغنية الوداع، مختفياً في الآفاق، في هجرة معتادة صوب شمس الجزيرة العربية. تظلُّ دِنان الرمان مدفونة في الأرض، تُخمّر نبيذها على مهل.

وتمر أربعة أشهر قبل أن تهبَّ أول نُسيمات الربيع، فتجد تلك الطيور نفسها محلِّقة في الآفاق البعيدة من جديد، متجهة صوب منازلها التي لها في القلوب منازل، يدفعها الشوق والحنين فتطير في عصائب يتلو بعضها بعضاً. وحين تصل بلاد الشام، تنزل بثقة لا حدَّ لها إلى دِنان النبيذ المعتق المطمورة في التراب، تنبش كنزها، وتفتح الختم المرصود، وتمدّ مناقيرها بوجل، وتذوق نبيذها مرة ومرتين، ثمَّ تعبّ منه عبَّاً، تدفعها النشوة صوب الأشجار، فتصدح البساتين بالغناء من جديد. وكنتُ أقول: ولكن يا جدي هل حكاية طائر سورية السكران حقيقية؟ وهل يُدرك ما يفعله، أم هي خبيئة, زوَّادة, يطمرها لفصل الربيع, حيث لا قوت في تلك البساتين التي تنهض من رُقادها؟ كان يُعقِّب: من لا يعرف العُقاب يشويه. رحمك الله يا جدي, فقد تعلمت منك الكثير وغاب عني الكثير. 

لو تأملنا حياة الفلاح السوريّ في أواخر العقد السادس من القرن العشرين من خلال شخصيَّة جدي الذي عاش ومات فلاحاً مرابعاً، وقد كنتُ قريباً منه في تلك الأيام قبل سنّ المدرسة أذهب في أول فصل الصيف لمعاونته في شتل البندورة وصب السمسم و المكنس – والمكنس: هو القش الذي تُصنع منه المكانس الناعمة، جمع مكنسة، والمشابيط الخشنة، جمع مشباط. كانت حرفة شد المكانس والمشابيط قائمة بذاتها تلك الأيام ولها سوق رائجة في مدينة إدلب في الشمال السوري- واساعد جدي أيضاً في تقبيع القرع والخيار والعجور والكندور والبامية واللوبياء والفاصولياء والبطيخ والشمام. هذه المساحة من الوطن السوريّ كانت تُنتج دورتين زراعيتين في السنة، دورة بعلية صيفية ودورة شتوية. حيث يُزرع الشعير والقمح والحمُّص والعدس والجلبان، وتشرب هذه المحاصيل من ماء الشتاء، وتُحْصَد أول فصل الصيف، ثمَّ تُفلح الأرض من جديد وتُزرع فيها خضار الصيف. كان الفلاح السوريّ يعيش ويحرص ألا تتجاوز مطالبه ما يمكن تحقيقه. يأكل خبزاً من حنطته وسمناً وجبناً ولبناً من بقراته وعنزاته الشامية، أو نعاجه العواس، ويأكل زيتوناً ودبساً وعسلاً إن توفر، ويحرص على مؤونة الشتاء من تين وزبيب وجوز ولوز وقمر الدين وملبن ودبس عنب ويخفي عن أعين الثقلاء عرقه ونبيذه.

 فما الذي تغيَّر هكذا فجأة؟ ماذا حدث بين ليلة وضُحاها؟ كان البلد يتسع لمن يُغني كما يتسع لمن يُصلي. كيف انقلب المناخ السوريّ؟ كيف بدأ هذا القحط الذي ضرب مساحة الوطن سبع سنين عجاف؟ خربت الأرض وتغيرت معالمها، أرض مكفهرة مغطاة برماد المجزرة. حين عدتُ استفهم عن الخبر اليقين من سعيد حورانية، ومن بقية قصته (عاد المُدمن) وبعد استكمال القراءة، فزعتُ، بل قُل شلَّني الرعبُ، ورحتُ أسأل: بماذا كنتَ تفكر يا سعيد حين كتبتكَ قصتك تلك؟ وماذا كانت تفعل زرقاء اليمامة في قصتك؟

 تحت شجرة السنديان المعمرة -بلغ عمرها مئات السنين- تعالت أصوات حاقد هادرة، كانت جماعة من أصحاب البساتين ترتجف من الغضب وهي تستمع إلى طائر سورية السكران يُصلى في محراب الكون. نعم عاد المدن من جديد. لا بد من نتف ريشه ودق عنقه، جاء الصوت من تحت شجرة السنديان، لنتحد جميعاً ضدَّ هذا السكير المعربد الوقح الذي يُفسد علينا هدوء حياتنا، إن طريقتنا القديمة في مكافحته أصبحت غير مجدية وها هو يتكاثر حتى يكاد يسدُّ الآفاق، وأرى أن يقودنا دم جديد، شاب لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلاً. وكان ما كان مما لست أذكره/فظنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبر. وصاح الجمع بقوة: نعم، قُدنا أنتَ وحدك القادر على افنائهم! هتف: لا معارضة، هتفوا: لا معارضة. وبدأت المجزرة، أُخرجت البنادق، استلت الخناجر من أغمادها، بدأ الرعب الأكبر، واجتاح البلاد طاعون أصفر، امتلأت الأجواء الساكنة بأصوات الرصاص وصيحات الحقد. نكَّست الأزهار تيجانها بذل تاركة لرائحة الموت والحرائق الخانقة تلوين المدى. سمعت الغربان وعصائب البوم بهذا الخراب فتوافدت جماعات تتلوى جماعات، وأخذت تنعق وتنعب مُمجدة المذبحة. حتى إذا طلع النهار، لم يبق في البلد سوى جثث سود محترقة وأرض مكفهرة مغطاة برماد المجزرة، وبدا أن كل شيء قد انتهى إلى الفناء. لكن، فجأة، وبغير موعد، هسهسة، وشوشة، رقيقة، ناعمة، سُمعت قادمة من بين سُحب الدخان التي تحجب الآفاق والشمس … عاد المُدمن.

*ملحوظة: 185 ألف كيلو متر مربع مساحة سورية

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب