news-details

2020 عام تفتت بقايا المنظومة السياسية والحزبية الإسرائيلية| برهوم جرايسي

أبرزت الأيام الأخيرة للعام 2020، مستوى تفتت الجهاز الحزبي الذي يدور في فلك الحكم، ويتناوب عليه. فإسرائيل تستعد لانتخابات برلمانية تجري في مطلع ربيع 2021، يوم 23 آذار، بمنافسة ستكون مختلفة بقدر كبير جدا، عما كان في الجولات الانتخابية الثلاث، في العامين الأخيرين 2019 و2020. وتقريبا لن يبقى حزب، أو تحالف برلماني على حاله. وسيكون وزن كبير لتحالفات في طور النشوء، والمعركة الأساس ستكون داخل معسكر اليمين الاستيطاني. الغائب الأكبر عن هذه الانتخابات هي المنظومة الحزبية المؤسساتية. أغلبية القوائم سيشكلها شخص واحد، تحركه جهات "خفية"، وهذا انعكس وينعكس مباشرة على أجهزة المؤسسة الحاكمة، لتضعف أكثر. من ناحيتنا، هذا سيشطب آخر ما تبقى من ضوابط في السياسات، ولو كانت محدودة أصلا، لنرى استفحالا أشد للتمييز العنصري، وللحرب الشاملة على شعبنا، ونحن بضمنه.

ما نشهده في الحلبة الإسرائيلية اليوم، هو تحصيل حاصل لعملية تراكمية بدأت في بحر سنوات التسعين، حينما بدأ حيتان المال يتغلغلون في الحزبين الأكبرين، "العمل" و"الليكود"، بعد أن انتقلا للنظام الحزبي الأميركي، للانتخابات الداخلية المفتوحة، وتمويل المرشحين الذين احتاج كل منهم الى عشرات آلاف ولربما مئات آلاف الدولارات، كي يضمن نفسه في مكان متقدم في القائمة، فكلما كانت الغلة أكبر، كان الاقتراب من رأس الهرم أقوى، ناهيك عن رؤساء الأحزاب. ومنذ تلك الفترة، بات ولاء الشخص المنتخب، نائبا كان أم وزيرا، لمن يموّله، وليس للمؤسسة الحزبية.

لاحقا، ومن باب الإيجاز، في بحر السنوات الأولى من سنوات الألفين، بدأ التلاقي بين حيتان المال واليمين الاستيطاني المتطرف، إذ بحث حيتان المال طيلة الوقت عن "الشخص القوي الحاكم" الذي يفرض سطوته، ويمرر سياسات اقتصادية تخدمهم، فوجدوه، أو وجدوهم في اليمين الاستيطاني العقائدي المتطرف، الذي كان مطلبه من حيتان المال عدم التدخل في السياسات، مقابل الحصول على مرادهم.

بعد ضرب اتحاد النقابات (الهستدروت)، في النصف الأول من سنوات التسعين، على يد حزب "العمل"، باتت كل السياسات الاقتصادية متاحة، رغم أن الهستدروت كان طيلة الوقت متخاذلا مع السياسات الاقتصادية الشرسة، ولكن كان له تأثير ما على اتفاقيات العمل والأجور وغيرها.

وفي ذات الفترة، أحدثت حكومة يتسحاق رابين 1992- 1996، قفزة كبيرة، في مجال الخصخصة، وبالذات قانون الصحة العام، وبموازاته تمت تصفية شركات "الهستدروت" وكل القطاع الاقتصادي التابع لاتحاد النقابات، الذي كان يسيطر على 30% من الاقتصاد الإسرائيلي.

في فترة حكومة بنيامين نتنياهو الأولى، 1996- 1999، كرئيس لليكود، بدأت ديباجة "كسر كل معوقات ازدهار الاقتصاد"، وهذه "الصيغة السحرية" لكسر ما تبقى من قيود على الاحتكارات. واستأنف نتنياهو هذه المهمة، حينما كان وزيرا للمالية في حكومة أريئيل شارون، مطلع 2003- نهاية 2005. حينما عمل على قلب نظام صناديق التقاعد، من أجل تعويم الصناديق في البورصة، ليقامر بتعب وشقاء العمال.

المرحلة اللاحقة، بدأت في حكومة "كديما" برئاسة ايهود أولمرت، لضرب الجهاز القضائي، واستمرت طيلة سنوات حكم نتنياهو، وكان الشخص المبادر في حكومة أولمرت، وزير القضاء حاييم رامون، وهو صاحب فكرة أمركة الأحزاب، بدءا من حزبه "العمل" عام 1992، وهو صاحب فكرة قانون الصحة العام، ليفتح الباب أمام حيتان المال. وهو أيضا من قاد بيع شركات الهستدروت، وإضعاف اتحاد النقابات.

خلال فترة حكم نتنياهو الحالية، التي بدأت في 2009، كان العمل على ضرب جهاز الدولة، ليكون خاضعا لشخص نتنياهو. ونتنياهو ينفذ توجيهات مموليه، لتطاله مناعم كثيرة، قادته للمحكمة بتهم فساد، ويجب عدم التعليق كثيرا على هذه المحاكمة، فلربما يضطر نتنياهو للنزول عن المنصة، ولكن من سيأتي بعده سيواصل العملية ذاتها.

أضف إلى هذا، فإن نتنياهو ومنذ عودته لرئاسة الليكود في مطلع العام 2006، بدأ عملية ضرب ما تبقى من مؤسساتية للحزب، واستبعاد شخصيات ذات وزن، لينفرد كليا بالحزب، الذي بات تابعا له، وأن الشخص الذي يريد التقدم للصف الأول، عليه ابداء "الولاء للسيد"، وزوجة وابن "السيد نتنياهو".

أحد انعكاسات الحالة السياسية الإسرائيلية، هي حالة عدم الاستقرار السياسي التي تشهدها إسرائيل في العقود الثلاثة الأخيرة، فآخر انتخابات برلمانية جرت في موعدها كان في العام 1988. وفي العامين الأخيرين، جرت وتجري 4 انتخابات برلمانية، في غضون 23 شهرا، وحسب استطلاعات الرأي، رغم أنه لا يمكنها أن تكون حاسمة قبل 3 أشهر من الانتخابات، إلا أنها مؤشر لاستمرار الأزمة حتى في الانتخابات المقبلة، لأن أي حكومة ستتشكل، فستكون بين كتل متقاربة من حيث حجمها، وكل زعيم فيها يريد أن يكون الأول.

أضف إلى هذا، أن أجهزة مركزية في مؤسسة الحكم تفتقد للشخص المسؤول الأول. وما منع التعيينات ليست أنظمة أو قوانين، بل لأن رغبات بنيامين نتنياهو في استمرار عملية السيطرة المطلقة على كل نواحي الحكم، باتت تصطدم مع بقايا الجهاز القضائي، وهو جهاز مستهدف من عدة نواحي، ويبث رسائل ضعف في الأداء.

فالجهاز القضائي لم يكن في أي يوم من الأيام خارج الخط المركزي للمؤسسة الحاكمة، والفكر الصهيوني الاقتلاعي. وحتى لو وجدت بعض القرارات الاستثنائية، التي تناصر الملتمسين، من عرب وغيرهم، فإن هذه القرارات لم تضرب العصب الأساس القائم عليه الفكر الصهيوني، والحُكم الإسرائيلي برمته.

 

//أحزاب برأس واحد

إذا عدنا الى كافة الأحزاب والتحالفات التي من المتوقع أن تشارك في الانتخابات آذار 2023، فإنها كلها قائمة على الشخص الواحد، أو معه شريكين أو ثلاثة، الذين سيرسمون القائمة، ليس وفق أهوائهم، بل وفق الجهات التي تلعب من وراء الكواليس. فكم مرّة رأينا عضو كنيست جديدا، "مجهول الهوية"، يظهر لأول مرّة في المسرح السياسي. ولا يمر وقت بعد تشكيل الحكومة، إلا وظهر هذا الشخص، وهذه حالة واسعة، بسحب الأجندة التي تم توكيله بها، وبات يعالج جوانب في القطاع الاقتصادي.

بدءا من الليكود، الذي حتى لو جرت انتخابات داخلية فيه، فلا يختلف اثنان على أن رغبة نتنياهو هي ما ستكون، خاصة بعد خروج بعض "المتمردين"، الذين ما كانوا سيتمردون لولا حصولهم على ما يضمن مستقبلهم في الفضاء السياسي، بما فيه تمويل فترة استقالتهم من الكنيست، وحتى الرجوع اليه بعد الانتخابات.

وكذا بالنسبة لغدعون ساعر، الذي ما أن يهدأ "غبار المعركة" حتى نقرأ عن حيتان المال الداعمة له، ولربما سنجد من الصحفيين من سيزيد نشاطه، ليكشف الخبايا قبل يوم الانتخابات. فساعر هو من سيحدد القائمة والتركيبة، وفي المحصلة سيكون هذا فريقا خاضعا ينفذ أوامر ومهمات.

وهذا يسري أيضا على حزب "يش عتيد"، وعلى تحالف أحزاب التيار الديني الصهيوني، "يمينا"، وأيضا القوائم التي تجري بلورتها في العلن وفي الخفاء. أما الحريديم، فلديهم هيئات حاخامية عليا، ولكن هي أيضا لديها دوافع اقتصادية، مغلفة باحتياجات مؤسسات الحريديم الدينية والتعليمية والاجتماعية، ففي تلك الساحة أيضا يلعب حيتان مال من الحريديم أنفسهم، ولكنهم غالبا غائبون عن السطح.

 

//هل يعنينا هذا؟ بالتأكيد

لا يوجد فراغ في الحُكم، أي حُكم، وحينما كانت السياسة الإسرائيلية ترتكز على منظومة حزبية واضحة المعالم، وضعت أشرس السياسات العنصرية، وقادت الحروب التوسعية، ورغم هذا، كانت ضوابط معينة، وطابع مؤسساتي للُحكم، وكان العدو الذي أمامك واضح المعالم، بما لا يقاس عما هو اليوم.

أما اليوم، وفي ظل فوضى الحكم، وغياب وتغييب المرجعية المؤسساتية، وكثرة التشريعات العنصرية والاقصائية والاقتلاعية، وشرعنة السرقة والسلب والنهب، بموجب قوانين يسنها الاحتلال لنفسه، ترتكز على ذات قوانين المصادرة وغيرها التي سنت في سنوات الخمسين، فإن الحكم اصبح مشاعا أمام حكم عصابات، نعم عصابات بالوصف الدقيق، عصابات اليمين الاستيطاني الإرهابية.

فعصابات المستوطنين، مثل رجافيم، وعطيرت كوهنيم، وغيرها من التسميات، باتت أجندتها مرتكزا أساسيا في الحُكم الإسرائيلي؛ وإذا رأينا أن الولاية البرلمانية الـ 20 (2015- 2019) سجلت ذروة في التشريعات العنصرية والاستبدادية، فكما يبدو ينتظرنا مستقبلا ما هو أشد خطورة، ناجمة ليس فقط عن تطبيق أجندات جاهزة مسبقا، بل سيؤثر عليها التنافس الحاد في داخل اليمين الاستيطاني. في كل واحدة من الجولات الانتخابية الثلاث صوت ما بين 62% إلى 64% من اليهود لأحزاب اليمين الاستيطاني والحريديم. وأن تعارك نظام حُكم قائم على عقلية عصابات، ترعى عصابات مِنها "تدفيع الثمن"، هو أشد تعقيدا من مواجهة عدو مؤسساتي، والضحية الأولى، دون منافس لنظام حكم كهذا، هو جماهيرنا العربية، وشعبنا الفلسطيني ككل؛ ولكن في الحالة القائمة، فإن الافعى ستبدأ في قضم ذيلها. والأزمة ستتعمق داخل الجمهور الإسرائيلي، وفي الأساس بين المتدينين على مختلف تلويناتهم، الذين باتوا الجمهور الطاغي في الُحكم الإسرائيلي، رغم أنهم ليسوا أغلبية بين اليهود بعد، وبين الجمهور العلماني، الذي يبحث عن جودة حياة، ولكن تجري محاصرته في مناطق جغرافية، وخاصة في منطقة تل أبيب الكبرى.

 

//إسرائيل بعيدة عن الاستقرار

تعود حالة عدم الاستقرار الى سلسلة تناقضات نشأت مع نشوء الكيان الإسرائيلي، وتنامت أكثر، ودخلت تناقضات أخرى، وما ذكر هنا، هو عناوين مركزية ورئيسية للحالة التي نعيشها في السنوات الأخيرة، فهذا موضوع قائم بحد ذاته، لا يمكن عرضه بتوسع شامل في مقالة.

فحينما تصبح الأجندة واحدة من حيث الجوهر، أو شبيهة، ومختلفة بالديباجات، فإن الخيارات تتقلص، وتحتدم المنافسة على من يجلس على رأس الحكم، وفي حالة كهذه، فإن حالة التحالف السابق لكحول لفان، ليست فريدة من نوعها في السياسات الإسرائيلية، رأينا مثلها في انتخابات 1977، ولاحقا الكثير من أحزاب الفقاعة، ولربما النموذج الصارخ، كان حزب "كديما" في العقد الأول من سنوات الالفين.

انهيار كحول لفان حاليا، ينبئ بانهيار من سيأتي بعده، ويستولي على "الغنيمة"، وهذه دوامة سترافق إسرائيل لسنوات عديدة مقبلة، في الوقت الذي ستستمر فيها التغيرات الديمغرافية اليهودية، ويقارب المتدينون إلى خط نصف مقاعد البرلمان. فانتخابات آذار 2020 أدخلت 36 نائبا متدينا على الأقل، نصفهم من الحريديم، والباقين من التيار الديني الصهيوني، وهذا العدد مرشح للارتفاع في آذار 2023.

وكلما زاد عدد المتدينين، ستزداد شهيتهم للسطوة على الحياة العامة، خاصة ان التيار الديني الصهيوني يشهد في العقود الثلاثة حالة تشددا دينيا متزايدا، وغاب عنه في إسرائيل، التيار الديني الإصلاحي، المنتشر أساسا في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.

في المقابل، فإن في كل ما تقدم هنا، غاب تقريبا موضوع الاحتلال، وهذا ليس تغييبا، بل هذا هو حال السياسة الإسرائيلية، التي لم تعد فيها منافسة على طرح الحل، رغم أن كل ما طُرح سابقا هو من منظور صهيوني لحماية "يهودية الكيان". والجمهور الإسرائيلي لم يعد يسأل، لأنه لا يشعر بمشروع الاحتلال، لا بل هو بات مربحا لقطاعات جدية فيه.

وتساهم في هذا المشهد، الحالة الفلسطينية البائسة والخطيرة، المنشغلة بنفسها داخليًا، خلافا لسنوات خلت.

القاعدة التاريخية تقول إنه لم يكن شعب في التاريخ قد صمت للأبد على ضيمه، وبالتأكيد ليس في القرون الأخيرة فقط. وهذه القاعدة حتما تسري على شعبنا، الذي إذا ما قرر الانتفاض على المحتل المستبد، فالكثير من الأوراق الإسرائيلية، وتلك الداعمة لها إقليميا وعالميا، ستحترق، وستتبدل الكثير من المسلّمات التي طرحت هنا، عن الحالة الإسرائيلية ومستقبلها.

 

 

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب