news-details

75 عاما على قيام دولة إسرائيل: نظرة الى الوراء ونظرات للمستقبل!| د. سمير خطيب

إسرائيل هي  آخر مشروع كولونيالي في العالم، ويختلف عن باقي المشاريع الكولونيالية الاستيطانية السابقة بأنه يتوافق مع المشاريع الامبريالية في المنطقة، فإسرائيل هي أهم مشروع أميركي في القرن العشرين، وهي أهم نتائج الاستعمار الغربي للعالم العربي.  والاختلاف الثاني أنه المشروع الكولونيالي الوحيد الذي لم يكتمل بعد، لأن كل المشاريع الاستيطانية  السابقة انتهت إما بالقضاء على السكان الأصلانيين أو باستيعابهم كجزء فاعل وصاحب قرار بالدولة الحديثة، ولكن في حالة اسرائيل لم تستطع القضاء على السكان أصحاب الأرض الأصلانيين ولم تستوعبهم كمواطنين كاملي الحقوق في اتخاذ القرار.

وللتأكيد على عدم اكتمال المشروع الكولونيالي، اسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم  التي تستعمل مصطلح "خطر وجودي" أو "تهديد وجودي" وتتساءل  بمؤتمرات الامن القومي هل اسرائيل ستستمر حتى عام ٢٠٥٠؟  في حين لم نسمع يوما مثلا أن فرنسا أو الأردن أو كينيا أو أي دولة بالعالم استعملت او تستعمل هذا المصطلح أو تسأل هذه الأسئلة. حتى أن رئيس الدولة هرتسوغ اعتبر أن الأزمة السياسية الأخيرة هي تهديد وجودي لإسرائيل. ذلك لأن أباطرة الصهيونية يعلمون أنه طالما لم تحل قضية الشعب الفلسطيني، ولم ينته الاحتلال، ولم تتم مساواة الأقلية الفلسطينية فسيبقى المشروع الصهيوني غير مكتمل وغير ناجح ويهدده خطر وجودي (حسب مصطلحاتهم). ويعلمون أن هذا المشروع هجين ثقافيا وفكريا على المنطقة. والأرجح أن الأزمة السياسية الإسرائيلية ليست أزمة وجودية بقدر ما وجدانية حيث ما زال الفلسطيني كل يوم يذكرهم بموبقاتهم، وما زالت الخلافات الجوهرية بين شرائح المجتمع تتفاقم، وتتسع الهوة بين الاطراف المتنازعة ليس على السلطة ومراكز القوى فحسب بل على هوية الدولة.
منذ إقامة دولة اسرائيل عام ١٩٤٨ سيطر على المشهد السياسي في إسرائيل  اليهود الغربيون الذين حاولوا بناء القومية اليهودية المعاصرة على النمط الغربي، اي  ليبرالية علمانية بملامح  يهودية صهيونية. أي ان الليبرالي ليس ليبراليا حقيقيا ولا العلماني علماني حقيقي ولهذا كان ثاني الضحايا لهذا المشروع بعد الضحية الأكبر وهي الشعب الفلسطيني، هم اليهود الشرقيون الذين سلبت هويتهم الثقافية والقومية.

وحاول هذا المشروع منذ تأسيس الدولة التوفيق بين قضيتين متناقضتين جوهريا وهما اليهودية والديمقراطية، ولكن هذا المشروع فشل  عندما تم "الانقلاب" البرلماني عام ١٩٧٧ وسيطرة مناحيم بيغن والليكود. ومن يذكر تلك الفترة فقد تم استغلال الغبن المدفون لدى اليهود الشرقيين بعد تسميتهم من قبل احد المذيعين بالرعاع، وبهذا جند الليكود الذي تزعمه الروسي الأصل بيغن غبن الشرقيين وأججه للفوز بالانتخابات مقابل حزب مباي التاريخي الذي يمثل الفوقية اليهودية الغربية على اليهود الشرقيين، وعندها كانت بداية التصدع لفكرة بناء القومية اليهودية المعاصرة، ووصل هذا التصدع ذروته في فترة رئوفين ريفلين الرئاسية الأولى عندما القى خطابا سمي بخطاب الاسباط، وحدد فيه أن المجتمع في اسرائيل ينقسم إلى أربعة اسباط هي: العلماني، المتدين المعاصر، المتدين المتزمت والعرب كأقلية اثنية (وليس اقلية قومية او قومية موازية)، وحدد ان هذا هو التعبير الحقيقي عن واقع المجتمع الإسرائيلي وانه يجب إيجاد نقطة التوازن بين الاسباط، تماما كما تفعل الدول الحديثة متعددة القوميات والثقافات وذلك للاعتراف بالهويات القومية والثقافية والدينية التي تقع تحت الهوية الجامعة الكبرى للدولة، وفي هذا المشروع أيضا فشلت إسرائيل لعدة أسباب أولها ان العرب لا يمكن ان يكونوا جزءا من الهوية الجامعة الإسرائيلية ما لم يتم الاعتراف بهم كأقلية اصلانية، وثانيها زيادة قوة المتدينين المعاصرين والمتزمتين حيث اصبحوا قوة مؤثرة على القرار السياسي بعد ان كانوا على هامش الحكومات حتى الانقلاب البرلماني عام 1977، وثالثها ضعف وتراجع الخطاب اليساري العلماني ( بالمفهوم الإسرائيلي الصهيوني ) ولهذا عام على السطح بوضوح زيف التوفيق بين يهودية الدولة وديمقراطيتها وزاد الشرخ بين مكونات المجتمع.

 

الخطر الوجودي والحراك السياسي بعد محاولة الانقلاب السلطوي

مرت إسرائيل بأزمات سياسية كثيرة وحراكات جماهيرية عديدة على مر السنين منذ تأسيسها وكمثال لا الحصر حركة الفهود السود في السبعينيات، حركة اربع أمهات في سنوات التسعينيات والتي كانت عاملا مهما في انسحاب إسرائيل من لبنان  والحراك الاجتماعي عام 2011، ولكن حراك الأشهر الأخيرة والذي لم ينته بعد هو الأخطر على إسرائيل لأنه تخطى الحدود الحمراء الصهيونية ومس المسلمات في قوة إسرائيل ومتانتها وذلك في ثلاث ظواهر جديدة:

الأولى: تسييس الجيش الاسرائيلي، فاعلان وحدات من الاحتياط عدم تطبيقها للأوامر اذا استمر الانقلاب السلطوي معناها بداية تسييس الجيش، لأنه في المقابل هناك وحدات ستدعم الطرف الاخر، أي الانقلاب السلطوي، حتى انه بدا التسريب ان صعود بن غفير وسموطرتش وراءه اجندات سياسية بالجيش تدعم فكره اليميني،  وهم ذاتهم من يسمح لقطعان المستوطنين بالانفلات غير القانوني والسافر ضد المواطنين الفلسطينيين. ولمن لا يعرف فالجيش الإسرائيلي ليس كأي جيش بأي دولة أخرى فهو ليس فقط قوة عسكرية انما  يسمى أيضا جيش الشعب،  وهو قبل ان يكون القلب النابض للمؤسسة العسكرية والأمنية فإنه وكيل الهوية الإسرائيلية والصانع الأول للهوية اليهودية الصهيونية المعاصرة، ولهذا يسمى أيضا ببوتقة الصهر لشتى أنواع اليهود القادمين الذين لا يجمعهم أي شيء الا فكرة ارض الميعاد الأسطورية، وبدون التنبؤ بالمستقبل، الا انه علميا وعمليا  بداية تسييس الجيش هي خطوة لا رجعة فيها.

الظاهرة الثانية: انضمام رأس المال للاحتجاج، وراس المال عادة مرن ولكنه حساس للتحركات السياسية ولهذا يبحث عن الربح في أي معادلة سياسية، واستطاع حتى الان ان يربح من الحرب ومن السلام ولكنه في هذه المرة فهم ان استمرار الانقلاب القضائي او السلطوي معناه خروج إسرائيل من نادي الدول اللبرالية العلمانية وهذا سيؤدي الى خسارته ولهذا تجند لمنع سن القوانين الجديدة ولهذا بدا بسحب أمواله من إسرائيل.

الثالثة: ان الحراك السياسي اكد ما يرفض الوسط واليسار الاعتراف به وهو انه لا يمكن الفوز بالسلطة بدون العرب، لان أصوات اليمين هي الأكثر في المجتمع اليهودي ولكنها ليست الأكثر في كامل إسرائيل،  ولهذا لا يمكن ان يصل الوسط واليسار للحكم بدون أصوات العرب، ولهذا أيضا تحتد الازمة ما بين إسرائيل السياسية (التي تجمع كل الشرائح السكانية ) وما بين إسرائيل اليهودية، ولكي تنتصر إسرائيل السياسية على إسرائيل اليهودية لا بد من دخول العرب لمركز صنع القرار الذي يجب ان يشمل بالضرورة انهاء الاحتلال أولا والمساواة التامة ثانيا، ولهذا يسعى سموترتش وبن جفير - المنفذان لسياسة تهويد الدولة  والمسؤولين عن مشروع  انهاء القضية  الفلسطينية حيث ان الأول مسؤول عن الملف الفلسطيني خارج حدود المواطنة (وزارة الامن) والثاني داخل حدود المواطنة (وزير الامن الداخلي) - لمنع أي إمكانية للفلسطينيين من التأثير على القرار السياسي الإسرائيلي.

 

الأقلية الفلسطينية في إسرائيل ويهودية الدولة

خلال ال 75 عاما منذ قيام إسرائيل سنت العديد من القوانين العنصرية، وكان لها السبق في سن قوانين لم يتم سنها على مر التاريخ مثل قانون أملاك الغائبين للسيطرة على الملكية الخاصة للمهجرين الفلسطينيين. وقانون القومية الذي يضمن حقوق الأكثرية اليهودية بينما كل دول العالم سنت وتسن قوانين لحماية حقوق الأقليات. وهذا ان دل على شيء انما يدل على ازمة وجدانية ووجودية في آن واحد، وذلك لان الفلسطيني في إسرائيل ابتدأ يشق طريقه تدريجيا رغما عن كل المعوقات التي فرضتها وتفرضها إسرائيل. الا ان قطار العربي لم يتوقف بل تزداد سرعته نحو فرض وجوده الفردي والاقتصادي والسياسي وصولا لمركز اتخاذ القرار.

فمن اقلية خائفة فقيرة منعزلة ومقطوعة من شجرة تحولت الى اقلية واعية منظمة لا تعاني من عقدة النقص او الهوان، وقد عانت سابقا في فترة الحكم العسكري من العزلة والفقر، وبعد انهاء الحكم العسكري الذي تم الغاءه بسبب حاجة الأكثرية اليهودية للأيدي العاملة العربية وليس منة او كرما إسرائيليا، بدأت تتشكل طبقة وسطى مثقفة بعد زيادة عدد العاملين بالمهن بعد ان كانت الغالبية العظمى من العرب فلاحين وبعد زيادة عدد المتعلمين بالجامعات في البلاد والخارج. وقد لعب الشيوعيون خريجو الدول الاشتراكية الأوائل دورا مهما في تشكيل هذه الطبقة التي تصل اليوم الى حوالي 30% من العرب، وهذه الطبقة اخترقت المجتمع اليهودي الذي كان مغلقا امامها وفرضت نفسها بقوة في المجالات المهنية والعلمية، وبدا تأثيرها اكثر على كل مناحي الحياة في إسرائيل، حتى تأثيرها على الوعي. فمن النظرة الى العربي "كعربي نتن" بالعبارة العنصرية الإسرائيلية، انتقلوا الى الصيدلي والطبيب ثم الى رئيس القسم في المستشفى والقاضي والمهندس صاحب المشروع الاسكاني، وهذا التطور خلق ازمة وجدانية ووجودية لليهودي في إسرائيل. فهذا الفلسطيني يذكره بكل الموبقات التي قاموا بها من قتل وتشريد، وها هو قد بدأ يؤثر بجدارة في القرارات المهنية والعلمية والاقتصادية ولن يكون بعيدا اليوم الذي سيؤثر به سياسيا، وكانت اللحظة الفاصلة عندما شكل أعضاء الكنيست العرب الجسم المانع لدعم حكومة رابين في التسعينيات، وذلك تأييدا لاتفاقية أوسلو تمهيدا لابرام السلام مع منظمة التحرير الفلسطينية، وبهذا فرض العرب انفسهم سياسيا.

منذ تلك اللحظة قاد اليمين سياسة الاكثرية اليهودية منعا للعرب من التأثير على القرار السياسي حتى تشكيل القائمة المشتركة، واصبح العرب القوة السياسية الثالثة، ولكن للأسف استطاعت الحركة الصهيونية اضعافها بعد ان شقت صفوفها واخرجت القائمة العربية الموحدة منها، والتي وافقت على التعامل مع العرب كرعايا دولة اسرائيل وليس كأقلية قومية اصلانية. وتنازلت عن التأثير على القرار السياسي مقابل الدعم المادي، ولكن بالرغم من تراجع عدد أعضائها الا ان هاجس القائمة المشتركة وتنامي قوة العرب وتأثيرهم في كل المجالات ما زال يؤرق المؤسسة الصهيونية واليمين الإسرائيلي. ولهذا سارعت لسن قانون القومية والتأكيد على يهودية الدولة صباح مساء لتعزيز ثقة المواطنين اليهود بالانتماء لدولة اليهود.

 

خلاصة

إسرائيل مشروع استيطاني كولونيالي غير مكتمل، يعاني من الكثير من التناقضات منذ تأسيسها فلا شيء يجمع اليهودي العراقي مع اليهودي البولندي الا الفكرة الصهيونية المبنية على هاجس الملاحقة من غير اليهود. وقد حاولوا منذ تأسيسها عبر صهر كل الثقافات المختلفة والمتناقضة أحيانا، تشكيل الهوية الصهيونية اليهودية المعاصرة، لكن هذا المشروع قد اثبت فشله. فإن كانوا قد استطاعوا محو الهوية العربية لليهود الشرقيين في سنوات الخمسينيات فقد فشلوا في محو الهوية الروسية لليهود الروس في سنوات التسعينيات. ومن مظاهر ازمة الهوية الإسرائيلية انه لم يتم حتى الان تعريف من هو اليهودي، ولم يتم تحديد حدود للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي، ولم يتم حتى الان دستوريا وقانونيا وضع حدود يهودية وديمقراطية الدولة، ناهيك عن الخلاف بين المتدينين والعلمانيين والخلاف القومي بين اليهود والأقلية الفلسطينية في إسرائيل.

بالرغم من كل التناقضات فالحديث عن انهيار او اختفاء إسرائيل كما يزعم بعض المفكرين اليهود هو حديث من اجل ترهيب اليهود ودفعهم الى الاستمرار بالتمسك بالمشروع الصهيوني خوفا من تفاقم الخلافات وزيادة الشرخ بين الفئات اليهودية المتصارعة على مراكز القوى مما يؤدي الى الهجرة العكسية التي تتفاقم سنويا، وانحسار الهجرة الى إسرائيل الى ادنى مستويات بسبب الوضع الداخلي الإسرائيلي وبسبب عدم وجود اعداد كبيرة مجتمعة في العالم لإحضارها كمهاجرين جدد. ولكن بالرغم من قوة إسرائيل العسكرية والاقتصادية الا ان المستقبل قد يكون سيئا ما لم يتم حل القضية الفلسطينية وانهاء الاحتلال وحل التناقضات الداخلية، فالأزمات السياسية قد تتحول الى ازمة وجودية اذا لم يتم حلها ومواجهة المشاكل الحقيقية بجرأة وشجاعة.

 

كفركنا 4/2022

 

//ص

صوت سياسي واضح رغم محدوديته في الاحتجاجات: لا ديمقراطية مع ابرتهايد

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب