news-details

أحمد سعد، حكايات البرناوي: الأرض المشاغبة!| فتحي فوراني

 

شخصيات فولكلورية تكاد تقفز من شرفات الحكايا
هذا هو المشهد الذي تتحرك على ترابه الشخوص الفولكلورية التي يبدعها البرناوي في حكاياته الشعبية.
وهذا هو البرناوي سيد المشهد، يخرج من معطفه الحكاية تلو الحكاية، وينقل لنا بخبرة رجل تعمّد بالهم وفولذته الأيام وشيبته الليالي، ينقل لنا شخصيات شعبية لا تملك إلا أن تعانقها وتغمرها عشقًا ومحبة. إنها شخصيات مغروفة من صميمية الأرض وحميمية التراب، نعرفها وتعرفنا.. وتكاد تقفز إلينا من شرفات هذه الحكايات، لتعانقنا بعد غياب طويل، فيلتحم الشوق بالشوق ويكون ميلاد جديد وربيع جديد.
إنها تخرج إلينا من بين السطور، وتقول لنا:  صباح الخير!
 فتجلس معنا على المصطبة وفي ديوان مجمع الخلان، وندعوها لكي تشرب معنا قهوة الصباح، فتحكي لنا حكايات أيام زمان، وتسلط الضوء على الراهن الساخن الذي يسير على درب الآلام النازفة، وتنسج لنا أحلامًا خضراء وتشحننا إصرارًا فولاذيًّا لجعل هذه الأحلام تمشي على قدمين.
قامات تحترف الشموخ، وأقدام تمشي على الشوك نازفة.. وهامات تأبى إلا أن  تلمس سقف السماء! وعزم على فتح بوابة المستحيل ومعانقة الحلم!
إنهم يتدفقون من بين السطور ويغمرون المشهد الفولكلوري ويسيطرون عليه ويرفعون الرايات: نحن هنا!
انظروا في المرآة! أنتم نحن!
ونحن التراجيكوميديا التي تمشي على قدمين!
يطلون علينا من أعماق الواقع، يتدفقون حيوية، يحملون قراهم وملاعب الصبا في قلوبهم. نعرفهم واحدًا واحدًا.. نعرفهم من أصواتهم ولهجاتهم وأزيائهم وعبق قهوتهم وخبز طابونهم وزيت زيتونهم وحطات رؤوسهم وحطات أقدامهم..


//يقفون على مرمى الحجر من بيوتهم.. مفاتيحهم في جيوبهم..
من البروة وكويكات وعَمقا وأم الفرج والبصّة والسمرية والغابسية والدامون وصفورية وميعار وعين غزال وإجزم وأم الزينات وباقي الأخوات الثاكلات.
ويطل البرناوي حاديًا ومعه في السحجة الكوكاني والداموني والصفوري والميعاري والجزماوي.. وباقي أفراد العائلة كريمة المحتد..
إنهم يقفون على مرمى الحجر من بيوتهم.. مفاتيحهم في جيوبهم..
في القلب غصّة.. وفي العين دمعة!
كالعيس في البيداء يقتلها الظما

والماء فوق ظهورها محمول
وينتظم معهم ساعدا واحدًا وقلبًا واحدًا وهمًّا واحدًا وأملًا واحدًا:
ابن حسن العبد الله وابن علي الموسى والياس الحنا ومصطفى دلة وفؤاد البطرس  ومحمد الدعبول وما تيسر من الأسماء المغروفة من نبع التراث الشعبي ومن الواقع الذي يتدفق شوقًا وعطشًا وحرارة.
هذه هي الشخصيات المتحركة في المشهد الذي يقف على الأرض المشاغبةّ!


هذا هو فتى الحكايات الفلسطيني الذي يحمل وطنه في قلبه!
ينتصب شاهقا ويعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف يحتال على الواقع المراوغ الهارب من وجه التاريخ!
وفي أكثر من حكاية نلتقي خوري البروة.. الخوري جبران.. خوري المسلمين قبل المسيحيين الذي يسجل له التاريخ مواقف مشرفة تصلح لأن تكون دروسًا في الوطنية الإنسانية الأصيلة تنهل من نبعها الأجيال الصاعدة، وتستمد منها الطاقة على مواجهة السهام المصوبة إلى هويتها الثقافية والقومية  والإنسانية.

 

  • المرأة ذات شخصية حادة الملامح وتملك طاقات خلاقة
  • وفي خضم هذه اللوحات الفولكلورية، تقف شخصية المرأة التي صقلتها الأحداث والليالي والتي تحمل موقفًا حياتيًّا ممّا يدور حولها من أحداث. ولها كلمتها ورأيها في الشخصيات وأفكارها وممارساتها، وتعرف كيف تفرز القمح من الزؤان وكيف تقيّم أمور الدنيا ومواقف الشخصيات.
    إنها امرأة ذات شخصية حادة الملامح وتملك طاقات خلاقة. امرأة ملتزمة متزلمة مُسيّسة كلمتها حادة تقطع كالسكين. إنها بنت الناس البسطاء المكافحة التي تتحدى الرجال وتتحلى بجرأة نادرة. تُعرّي المتخلفين عن الركب وتعرف ماذا تقول للأعور الذي يتوهم أنه بشر سوي وذو عينين اثنتين لم يخلق أجمل منهما!
    إنها خريجة التراب والمصطبة "برلمان الشعب" ومناضلة نشيطة لها دورها  في الحياة السياسية والاجتماعية. وتمتشق  قاموسها الذي يحفل  بأبجدية ذات نكهة شعبية لها مذاق لاذع يكاد يلامس مشارف الخط الأحمر!
    فأم السبع وخزنة الردّاحة والحاجة صفيّة المطفيّة وزهرة الخنبة وزادة العوض وغيرها من الشخصيات النسائية  تشكل نماذج مختلفة تساهم في بلورة نمط جديد لشخصية المرأة يختلف عن الشخصية المألوفة في القصة العربية.

 

من تراب البروة وأخواتها يطلع إلينا الفتى العربي الأسمر


وهُوية الشخوص التي تتحرك على الأرض المشاغبة تتفرد بالأصالة والقيم الإنسانية وحنين الانتماء إلى الجذور التي تغوص عميقًا في رحم الأرض والتاريخ لإرساء الذاكرة الجمعية.
فمن تراب البروة وأخواتها يطلع إلينا الفتى العربي الأسمر يغمره الحنين إلى شعب بوان التي تظل طيباً في المغاني رغم محاولة اغتصاب التاريخ في عز الظهيرة.
يقف الفتى البرناوي-حقيقة ورمزًا- على خط التماس، منتقلًا إلى الصدام والمواجهة مع محاولات شطبه وجعله غريب الوجه واليد واللسان على تراب الأرض التي رضع منها آباؤه وأجداده منذ طفولة التاريخ!
إنها الأرض التي وطئها المتنبي!

 

شخصيات تهز البطن في بلاط السلطان وترقص على إيقاعه


وينفتح الجرح على الذاكرة..
وتكون مع حكايات البرناوي وقفات نطل عبرها على الماضي.. وعلى عصر الانتداب البريطاني وممارساته التي تركت في قلوبنا ندبة عصيّة على النسيان. 
 وتأبى ريشة البرناوي إلا أن تقدم لنا شخصية المسحوقين البسطاء.. الصاعدين من التراب والذين ولدتهم أمهاتهم أحرارًا،  لمواجهة  رجال الإمبراطورية العظمى!
وعلى الطرف الآخر تقف شخصيات تبيع أمهاتها في سوق النخاسة  بثلاثين من الفضة، وتأبى إلا أن ترقص في مواكب السبي على مسارح التتار، وتنافس قداسة البابا في كاثوليكيته!!
تهز البطن في بلاط السلطان وترقص على إيقاعه، وتتثنى في حضرته وحضرة أمرائه وقواده وحشمه وخدمه وخصيانه وتنابله وجميع أفراد العائلة  الفاضلة!
ويكون الجربوع وغزال ونديم الطحبوش وعلي الزطمة وجعفر المدحلة نماذج لأشباه الرجال الذين يطيرون فرحا و"كيفًا" عندما يرون هولاكو يمتطي صهوات جداتهم!! فيهللون ويصفقون، ولا تنقصهم "الفتاوى" والتنظيرات "الفاضلة" لتبرير هذه الفاجعة!!

 

هذا هو الزمن التراجيكوميدي الذي أصبحت فيه عبر الدهر تفلق.. حتى الصخر!


هذه هي الأرض المشاغبة التي تتحرك على ترابها الشخوص الفولكلورية المسيسة التي تبدعها ريشة البرناوي بصدق وواقعية وحرارة تسم هذه الحكايات بميسمها المميز،  فتسبغ عليها مذاقها الشعبي الخاص.
وهذا هو الزمن التراجيكوميدي الذي أصبح فيه بعض المخلوقات سادة، وأصبحت فيه عبر الدهر تفلق..  حتى الصخر!
وإبراهيم طوقان هو الشاهد على العصر.. رأى كل حاجة، وهو الشاهد على هذه الظاهرة التي تحتل حيزًا من المشهد الراهن! فقال ما قال عن المهاتيك الذين صاروا في غفلة من الدهر سادة المشهد!
أما ذاكرة التاريخ فلا ترحم هذه المطايا!
وأما الأجيال الصاعدة من بين خرائب اللحظة الراهنة العابرة، والمثخنة بالتجربة، فتملك ما يكفي من جراح مفتوحة على المستقبل لإفراد هؤلاء إفراد البعير المعبّد، ووضعهم في الخانة التي تليق بهم في  مكان ما من مزبلة التاريخ!

 

أنا التراجيديا التي تمشي على قدمين!


وهذه هي الشخوص التي تخرج من هذه الحكايا الفولكلورية، تتدفق نبعًا ثرًّا، وتتقد  ذكاء فطريًّا صقلته الأيام والليالي، وتمتثل أمامنا لتأخذ بتلابيبنا فتهزّنا: اُنظروا في المرآة! أنا أنتم! وأنتم أنا!
أنا الصوت والصدى! أنا الصورة والظل!
أنا التراجيديا التي تمشي على قدمين!
وتتعانق الأشياء! ويشتبك الشوق بالشوق!
وتمتزج العامية بالفصحى والفصحى بالعامية وتكون عامية مفصحة تعطي نكهة متفردة تنشر بخورًا يضوع عبقه في سماء المعبد البرناوي.
وتتدفق الأمثال الشعبية في جميع أرجاء هذه الحكايات توابل شرقية تثير الشهية وتكون كنزًا تراثيًّا عزّ نظيره، ويليق به أن يحتلّ مكانا سامقًا في خزانة التراث الفلسطيني.
هذا هو البرناوي قائدًا ثقة ومرجعية سياسية تهتدي بها الشخوص التي يصخب بها المشهد الفولكلوري.
وهذا هو حامل الراية والبوصلة وطليعة القافلة.. مُواسي رجالها ومؤنسها في درب آلامها وحادي مسيرتها الصاعدة نحو الشمس!
وهذا هو السندباد رُبان السفينة الذي يبث الأمل ويستشرف المستقبل ليعانق الفجر الطالع حتمًا!


(مقدِّمة كتاب "حكايات البرناوي" لـ د. أحمد سعد)
3/6/2006

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب