news-details

أربع ساعات في فلسطين| د. مجدي عاشور

قبل أكثر من سبع سنين زرت فلسطين التي أحب. فلسطين التي لا أعرف...

 

 في الصباح خرجنا عبر معبر رفح. شقت الحافلة طريقها في الصحراء. بدو وقطاع طرق وجيش عبر خط بارليف ليثبت وجوده الرمزي على كثبان الرمل. هللنا وارتحنا قليلاً عندما عبرنا الجسر الذي يعبر فوق القناة. وصلنا إلى أم الدنيا. الدنيا تغيرت بعد مليونيات ميدان التحرير. وصلنا في الليل إلى فندق بنجوم سبعة. غالبني النعاس. قضينا ليلتين في القاهرة. حطت طائرتنا على مدرج يخرج لسانه للعالم من البحر المتوسط. رفض ضباط المطار وضع الأختام على وثيقة سفرنا الفلسطينية. أخذوا تصاريح الزيارة. ملأنا نموذجًا رسميًا من الورق المقوى ودمغوه بالختم الرسمي. انتظرتنا حافلة صغيرة لتقلنا إلى نزل أنيق في وسط العاصمة.

 

استخرجت أسماء الشوارع من ذاكرتي لكنني لم أتقن سوى التيه فيها. بعثت برسالة عبر الإنترنت لصاحبي الذي لم أره لعشرين عامًا. خرجنا في رحلة إلى المغارات والبحر والجبل. نتناول الإفطار. كونتينتال بريكفاست. يسألوننا عن الحرب والحصار ولا تتوقف العجوزة الإيطالية الشقراء عن نفث دخان سجائرها وعن حديثها الذي لا ينتهي عن الفوسفور الأبيض. نشارك في المؤتمر الذي جئنا إليه. نضحك بملء ْ أشداقنا على نوادر أستاذ الجامعة الذي تزوج ثلاثة من زميلاته.

 

يأتيني صاحبي محملاً بغبار الغياب وبريقه. يمر بصعوبة بين اختناقات المرور. يتصل أكثر من مرة ليحدد بالضبط مكان النزل. أخبره أنني سأنتظره على مدخله. ألمح سيارة تتوقف. يخرج من البي أم دبليو. جسده الضخم يشق طريقه تجاهي برشاقة سهم. نتعانق. أنظر إلى وجهه. أتذكر علي أبو طوق. أنظر إلى وجهه لكن لا شيء فيه يشبه علي أبو طوق. يغزو وجه علي أبو طوق عيني. اخذ صاحبي ونجلس في البهو. نشرب القهوة ونسترجع الذكريات ونلملم أسماء الرفاق القدامى. أقترح عليه أن نقضي المساء في المدينة.

 

نستقل السيارة. ينفث السجائر ويتأفف من الطرق المزدحمة. يتحدث عن المدينة وعن الشهداء. مقبرة الشهداء. ضريح الشهداء.العمارات التي لم تدمرها القنابل العنقودية أكلها الزمن لتبدو كصور قديمة ملونة بالأصفر. المدينة الرياضية. الملعب البلدي. تنساب السيارة في الشوارع. يؤشر إلى الطريق المؤدي إلى مستشفى حيفا ويستمر في سرد الحكايات ولا يتوقف عن تدخين السجائر.

 

يأخذنا إلى المخيم. نمر بالسوق الشعبي لفقراء العاصمة. لديه بيت في المخيم وآخر على أطرافه ولديه سيارتان. لا يحمل ترخيصًا لممارسة الطب في البلد لكنه يعالج فقراء العاصمة في المخيم والمقاتلين في مغارات الجنوب. نمر بالشوارع الواسعة في المخيم. بالكاد تتسع الشوارع الواسعة لعرض سيارة واحدة تمشي ببطء في اتجاه واحد. نمر بحواجز الفصائل. صور الديكتاتور المرسومة على الجدران القريبة من الحواجز العسكرية تفقأ عينيّ وتقتل الربيع في دمشق وبابا عمرو في حمص. ملصقات على الجدران. فتح. الصاعقة. صور لياسر عرفات. أبو جهاد الوزير. جهاد جبريل. الشقاقي. أحمد ياسين. أبوعلي مصطفى.

 

مطر آذار لم يجف عن الشوارع. يركن سيارته في ساحة صغيرة تتوسط الأزقة. نخرج بأجسادنا من فولاذ البي أم دبليو. نُقحِم أجسادنا في غابة إسمنتية صغيرة. نخفض رؤوسنا لفوضى أسلاك الكهرباء التي تتعانق مع خراطيم المياه. نرفع رؤوسنا إلى السماء. لا سماء هنا. لا أفق هنا. هنا إسمنت مسلح وكفاح مسلح وتآمر مسلح وفقر مسلح وتشوه مسلح. الاسمنت المسلح يعلو فوق رؤوسنا. أتذكر مخيم الشاطئ. التشابه لا يخفي الاختلاف. أتذكر معسكر دير البلح. نمشي. نفس الأطفال والملابس والعيون ورائحة البحر. الأزقة بقيت على حالها والغرف صعدت إلى السماء في صناديق من الإسمنت المعلب.

 

نتوقف في عيادة صاحبي الفارغة إلا من مرضى قلائل جاءوا ليراجعوا أخيه الطبيب. أتعرف على أخيه. نجلس. أسأله عن صاحبنا الدمث القديم. نشرب الشاي. يأتي صاحبنا القديم. أعانقه. صوته كما هو لكن شيئًا ما أكسبه المزيد من الحياد واللامبالاة. نتحدث عن ذكرياتنا القديمة وأعمالنا الراهنة. يطل غسان كنفاني كعادته من وجه صاحبي الدمث. أتساءل إن كان غسان قد بُعِث حيًا ليصاب بالاكتئاب بعد أن شُفي من شظايا السيارة المفخخة ومن داء السكري. نخرج من العيادة بعد أقل من ساعة ونصف في المخيم. أسأل صاحبي لماذا لم يأخذني لنتجول في العاصمة. "أنا لا أعرف المدينة. أنا لا أعرف سوى المخيم ولا أجيء لبيروت إلا عندما يزورني أصدقاء مثلك وعندما يأتي أقاربي من الدانمارك وآخذهم إلى الروشة". نحشر أجسادنا في الزواريب التي تسمى شوارع.

 

أتذكر مخيم جباليا. أبحث عن الفرق والتشابه. بعيدًا عن قواعد الفدائيين في شرق الأردن وعن جسد آسره الملتصق به، يخرج جان جينيه من أزقة المخيم مع الدم والجثث والذباب. يذكرني بساعاته الأربع في شاتيلا. أرى فلسطين التي تشبهنا. أرى فلسطين التي لا تشبه إلا نفسها.

 

 

الصورة: الصفحة الأولى من "الاتحاد"، 21 أيلول 1982

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب