news-details

أطبَّاء أدباء| سعود قبيلات

عرف تاريخ الأدب عدداً من الأطبَّاء الَّذين اشتهروا بوصفهم أدباء أكثر منهم بوصفهم أطبَّاء. وقد تميَّز هؤلاء بكونهم قدَّموا إسهامات حقيقيَّة مميَّزة ورائدة في حقل الإنتاج الأدبيّ، ولم يكونوا مجرَّد دخلاء عابرين، أو حتَّى مجرَّد أدباء عاديّين. وأتذكَّر مِنْ بين هؤلاء، على سبيل المثال: انطون تشيخوف، ويوسف إدريس، وإبراهيم ناجي، وإبراهيم غبّيش (الأردنّ).

 

تشيخوف:

درس انطون تشيخوف الطِّبّ ومارسه كمهنة لسنوات. وربَّما كان سبب اختياره له هو حياة البؤس والأمراض الفتَّاكة الَّتي كانت منتشرة مِنْ حوله في الأوساط الفقيرة والمعدمة الَّتي وُلد ونشأ فيها. ومع ذلك فلم يمكِّنه هذا مِنْ حماية صحَّته، هو نفسه؛ إذ أصيب بمرض السّلّ باكراً، وظلَّ يعاني منه، طوال النِّصف الثَّاني مِنْ عمره القصير، إلى أنْ فتك به في النِّهاية وهو في أوج شبابه.

وربَّما كان هذا هو ما دفع تشيخوف، بعد سنوات مِن اشتغاله بمهنة الطِّبّ، إلى التَّوقُّف عن ممارسة هذه المهنة والتَّفرُّغ للأدب، بعدما كان قد تعوَّد على ممارسة الحرفتين معاً. فلربَّما وجد أنَّ ميله إلى معالجة النّفوس كان أكبر مِنْ ميله إلى معالجة الأجساد، أو لربَّما أنَّه، بعدما أخذ المرض يفتك بجسده وأدرك كطبيب أنَّه لا شفاء له منه وأنَّ أيَّامه معدودة، أصبح أكثر حاجة للتفرُّغ لعلاج نفسه (بدلاً مِنْ علاج جسده) مِنْ خلال التَّأمُّل في الحياة مِنْ حوله وفي تفاهات البشر وصغائرهم ومصائرهم المأساويَّة البائسة.

لقد أصبح لديه هاجس قويّ بأنْ يقول كلمته قبل أنْ يغادر هذه الفانية. ولذلك، فقد كتب الكثير من القصص والعديد من المسرحيَّات في وقتٍ قصيرٍ نسبيّاً. صحيح أنَّ الكتابة كانت بالنِّسبة له وسيلة عيشٍ أيضاً، خصوصاً في القسم الأوَّل مِنْ شبابه، وأنَّه كان يكثر من الكتابة في تلك الفترة ليحصل على المزيد من النّقود، إلا أنَّه كان يستطيع أنْ يتحوَّل في ما بعد إلى الاعتماد على مهنة الطِّبّ للحصول على ما يحتاج إليه من النّقود؛ خصوصاً بعد تخرّجه من الجامعة واشتغاله في هذه المهنة. وبالإضافة إلى هذا، فإنَّ مَنْ يتأمَّل في أدب تشيخوف جيِّداً، يتعرَّف بسهولة على عمق المأساة الإنسانيَّة المرتبطة بوجود الإنسان وبالنِّهاية المأساويَّة الحتميَّة الَّتي يُساق إليها بلا رأفة ومِنْ دون إبطاء.

 

يوسف إدريس:

يوسف إدريس أيضاً، درس الطِّبَّ ومارسه كمهنة، ثمَّ تفرَّغ للأدب. وربَّما ليس مصادفةً أنَّه سار في الأدب على نهج تشيخوف، وأنَّ أسلوبه السَّلس والحارّ والمتدفِّق كان هو الأقرب في العالم العربيّ إلى أسلوب تشيخوف، كما أنَّ كلّاً منهما وُلد ونشأ في ظروفٍ تاريخيَّةٍ محتدمةٍ وحاسمةٍ بالنِّسبة لبلده..

وُلد تشيخوف في العام 1860، قبل صدور مرسوم تحرير الأقنان في روسيا بسنة. وفي سنوات السَّبعينيَّات والثَّمانينيَّات من القرن التَّاسع عشر كان الصِّراع الاجتماعيّ والسِّياسيّ قد بلغ ذروته؛ إلى حدّ أنَّ منظَّمة «إرادة الشَّعب» الثَّوريَّة لجأت إلى استخدام العنف ضدّ السّلطة القيصريَّة ورموزها، كردٍّ على القمع الأعمى والشَّامل الَّذي كانت تمارسه تلك السّلطة ضدّ المطالبين بالعدل والحريَّة بينما هي ترفض أيّ نوعٍ مِنْ أنواع الإصلاح أو التَّسوية مع مطالب الشَّعب وحقوقه. وفي العام 1905، أي بُعيد وفاة تشيخوف بسنة، اندلعت الثَّورة الرّوسيَّة الأولى في أعقاب الحرب اليابانيَّة الرّوسيَّة الَّتي خسرتها روسيا.

أمَّا يوسف إدريس المولود في العام 1927 (والمتوفِّي في العام 1991)، فقد وُلد ونشأ إبَّان احتدام الكفاح المصريّ مِنْ أجل الحريَّة والاستقلال في مواجهة الاحتلال البريطانيّ وحكومات القصر. ثمَّ ظهرتْ موهبته الأدبيَّة مترافقة مع ولادة ثورة تمّوز/يوليو 1952 وازدياد أهميَّتها ونفوذها طوال عقدي الخمسينيَّات والسِّتينيَّات. سوى أنَّ اهتمام يوسف إدريس بالسِّياسة، والكتابة عنها، كان أكبر من اهتمام تشيخوف الَّذي اقتصر تقريباً على الأدب. ولقد كان حظّ إدريس من الحياة أفضل نسبيّاً مِنْ حظّ تشيخوف؛ إذ عاش الأوَّل حتَّى الرابعة والسِّتين مِنْ عمره، بينما لم يعش الثَّاني سوى أربعة وأربعين عاماً.

 

إبراهيم ناجي:

بخلاف الأديبين السَّابقين، ظلَّ إبراهيم ناجي، حتَّى آخر حياته، يجمع بين مهنة الطِّبّ وبين «مهنة» الأدب؛ بل إنَّه عندما توفِّي في العام 1953 (وكان في الخامسة والخمسين مِنْ عمره)، كان منكبّاً في تلك اللحظة على فحص حالة أحد مرضاه.

وعُرف ناجي بكتابة الشِّعر الرّومانسيّ، وكان قد انتمى في العام 1932 إلى جماعة «أبولو» الشِّعريَّة الرّومانسيَّة المعروفة. ومِنْ أشهر قصائده قصيدة «الأطلال» الَّتي غنَّتها أمّ كلثوم بعد وفاته. وكان قد عرضها عليها مِنْ قبل، لكنَّها تلكَّأتْ في غنائها إلى أنْ توفِّي. وبعدئذٍ، عادت للاهتمام بها وكلَّفتْ رياض السنباطي بتلحينها؛ حيث صنع منها واحدةً مِنْ أجمل الأغاني الَّتي لحَّنها لأمّ كلثوم.

ويلفت النَّظر أنَّ أوَّل قصَّة نُشرتْ ليوسف إدريس، وهي «أنشودة الغرباء»، قد نُشِرَتْ في العام 1950 في «مجلَّة القصَّة» الَّتي كان يصدرها آنذاك الشَّاعر (الطَّبيب) إبراهيم ناجي.

ومِنْ ضمن ما يُلاحظ، من السِّمات المشتركة بين هؤلاء الأطبَّاء الَّذين احترفوا الأدب، أنَّ لغتهم بسيطة، وواضحة، ولكنَّها عميقة ومعبِّرة وموحية؛ وكلماتهم حارَّة متدفِّقة ومشحونة بالعواطف الملتهبة؛ كما أنَّ أدبهم يكشف عن نفوسٍ مرهفة معذَّبة.

ومن الواضح أنَّ دراسة هؤلاء للطِّبّ واشتغالهم به، مع رهافة حسِّهم، جعلهم يحسّون بقوَّة بمأساة الوجود الإنسانيّ، ولذلك فقد اندفعوا للتَّعبير عن شعورهم هذا بوساطة الكتابة، لكي يتخلَّصوا مِنْ وطأة الإحساس بالعبث واللاجدوى، ولكي يتشاركوا في هذا الهمّ الثَّقيل مع الآخرين عن طريق البوح لهم بالحقيقة الأليمة بوضوح وصراحة ودقَّة.

على أنَّ هذا الرَّأي ليس سوى محاولة متواضعة لتلمُّس أبعاد هذه الظَّاهرة الأدبيَّة الطِّبيَّة الخاصَّة الَّتي تحتاج إلى دراسة أكثر شمولاً وتعمُّقاً.. بحيث تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاجتماعيَّة والنَّفسيَّة والظّروف السِّياسيَّة والتَّاريخيَّة لكلّ حالة، ولما هو مشترك بينها جميعاً، وتخلص إلى ما يمكن الرّكون إليه من الاستنتاجات والتَّفسيرات العلميَّة الدَّقيقة.

 

إبراهيم غبِّيش:

بالإضافة إلى هؤلاء الأدباء الأطبَّاء المشهورين، أريد أنْ أتحدَّث هنا، عن طبيبٍ آخر اشتغل بالأدب، وقدَّم مساهمته الإبداعيَّة الخاصَّة والمميَّزة في هذا المجال، ولكنَّ هذه المساهمة المهمَّة ليست معروفة جيِّداً – مع الأسف – كما أنَّها لم تحظَ بالاهتمام المناسب الَّذي تستحقّه. وربَّما كان سبب ذلك هو أنَّ صلة صاحبها بالأدب لم تظهر (أو ربَّما لم تُعرف) إلا في وقتٍ متأخِّر، وخصوصاً بعدما رسختْ في الأذهان ولمدَّة طويلة صورته كطبيب وكمناضل سياسيّ.

لقد عرفتُ الدَّكتور إبراهيم غبِّيش منذ مدَّة طويلة، ولكن مِنْ بعيد تقريباً؛ فقد كنَّا عضوين في الحزب نفسه، إلا أنَّه كان ينشط سياسيّاً في حقلٍ مختلفٍ تماماً عن الحقل الَّذي كنتُ أنشط فيه. وبالتَّالي، فقد كان كلُّ ما كنتُ أعرفه عنه هو أنَّه طبيبٌ شيوعيّ، فقط، ولم أسمع أنَّ له أيّة اهتمامات أدبيَّة مِنْ قبل.

لذلك، عندما أرسل لي عمله الأوَّل المنشور «أسكدنيا»، بدا لي ذلك مفاجئاً ومدهشاً. كما أنِّي، في البداية، نظرتُ بنوع ٍ من عدم الجديَّة إلى كتابه ذاك، انطلاقاً مِنْ كونه، بالأساس، طبيباً، ومِنْ كونه أيضاً قد تجاوز المرحلة العمريَّة الَّتي تظهر فيها، في العادة، العلامات الأولى للأدب على مَنْ يُتوقَّع منهم أنْ يقدِّموا إسهامات جديَّة ومميَّزة في هذا المجال. ولذلك فقد كان انطباعي الأوَّل عن كتابه، قبل أنْ أقرأه، هو أنَّه لابدَّ أنْ يكون في أحسن الأحوال محاولة متواضعة لواحدٍ مِنْ أولئك المثقَّفين المشتغلين بالسِّياسة الَّذين كثيراً ما يحاولون تجريب حظَّهم في الأدب مِنْ دون أنْ تتوفَّر لهم العدَّة الفنيَّة الضَّروريَّة لذلك، وإذا ما توفَّرتْ فإنَّها غالباً ما تكون بحدودها الدّنيا فقط. ولكن، عندما قرأت الكتاب، فوجئتُ بأنَّني حيال أديبٍ حقيقيّ، متمكِّن مِنْ أدواته إلى حدٍّ كبير. وقد استفاد تماماً بتجربته الحياتيَّة والسِّياسيَّة الغنيَّة وثقافته العميقة (العلميَّة والسِّياسيَّة والأدبيَّة)، ليعمِّق نظرته إلى الحياة وإلى النَّاس، ويثري كتابته بالتَّفاصيل الموحية وبالأفكار الأصيلة، ويرتقي بأساليبه الفنيَّة.

وبعد ذلك، تتالى صدور روايات إبراهيم غبِّيش، وأقبلتُ على قراءتها جميعاً بالكثير من الاهتمام والمتعة.

وأودُّ، هنا، أنْ ألخِّص انطباعي عن كتابته بالملاحظات التَّالية:

تتميَّز كتابة إبراهيم غبِّيش، مثل زملائه من الأدباء الأطبَّاء، بالحرارة والتَّدفُّق، وبلغته البسيطة والدَّقيقة والمشحونة بالعاطفة؛

يتميَّز، مثلهم، بدقَّته في «وصف الحالة» لشخصيَّاته الرِّوائيَّة، وبالحنوّ عليها ورعايتها وتفهُّمها، لكن مِنْ دون الإخلال بحياديَّته الفنيَّة كروائيّ؛

يشترك مع يوسف إدريس في الحديث عن التَّجربة السِّياسيَّة للمناضل اليساريّ العربيّ؛ حيث نشط كلاهما في صفوف فصائل الحركة الشّيوعيَّة العربيَّة؛

ومع ذلك، يتميَّز إبراهيم غبِّيش بخصوصيَّة التَّجربة الَّتي يتناولها في كتاباته؛ إذ أنَّه واحد مِنْ أفضل مَنْ تحدَّثوا بعمق ودقَّة عن ظروف حياة المناضل السِّياسيّ اليساريّ العربيّ وأشكال معاناته، في ظلّ تراجع دوره وانحسار حلمه، بعد انهيار الاتِّحاد السّوفييتيّ وتراجع حركة التَّحرُّر الوطنيّ.

ولذا، فشخصيَّاته معذَّبة ومجروحة ومنكفئة وتعاني مِنْ التَّوتُّر في حساسيَّتها الوجوديَّة.

وقد لفت نظري، في إحدى رواياته، مشهدٌ مثير، ومؤثِّر، ومعبِّر بعمق، يمثِّل لقاءً غريباً جرى صدفة بين أحد الأطبَّاء الَّذي كان في السَّابق مناضلاً ومعتقلاً سياسيّاً، وبين الخبير الألمانيّ (الشَّهير)*، وهذه المرَّة بوصف الجلاَّد مريضاً والمعتقل السَّابق طبيباً.

وكانت قد جرت مياه كثيرة في تسعينيَّات القرن الماضي (حين تمَّ ذلك اللقاء المفترض) تحت جسر الصِّراع الضَّاريّ الَّذي كان هذان الرّجلان يمثِّلان فيه خندقين متقابلين في الماضي. ودار حوار ذكيّ ومعبِّر وذو أبعاد إنسانيَّة شديدة التَّعقيد بين خصمي الأمس، أو بين الطَّبيب ومريضه في اللحظة الماثلة.

ويستحق التنويه، هنا، أنَّ الغرض السِّياسيّ أو الأيديولوجي لم يكن هو المهيمن على أجواء ذلك المشهد المثير. وأيضاً لم يتضمَّن المشهد أيَّ ملمح مِنْ ملامح تصفية الحسابات الَّذي من الممكن أنْ يكون شديد الإغراء في مثل هذا الموقف الإنسانيّ الاستثنائيّ والخاصّ؛

يركِّز إبراهيم غبِّيش، غالباً، على البعد الإنسانيّ (والوجوديّ، أحياناً) لتجربة المناضل السِّياسيّ، وللحياة السِّياسيَّة بتعقيداتها، ولمسألة الحرّيَّة؛

يتناول المأساة الفلسطينيَّة بأسلوب فنيّ رفيع؛ مِنْ دون صراخ، ولا نبرة أيديولوجيَّة أو سياسيَّة مباشرة (أو خطابيَّة)، ومِنْ دون أيّ مظهر مِنْ مظاهر الثَّرثرة الوجدانيَّة أو الاختباء خلف بريق اللغة الشِّعريَّة؛

يعبِّر عن الحزن والألم والمعاناة بطريقة مؤثِّرة وعميقة، لكن مِنْ دون أنْ يظهر لديه أيّ ملمح مِنْ ملامح استجداء عواطف القارئ أو أيّة سمة مِنْ سمات الميلودراميَّة الرَّخيصة والمبتذلة؛

تمتزج لديه الواقعيَّة والغرائبيَّة، وفق منطق فنيّ خاصّ، مِنْ دون افتعال أو مجانيَّة.

على أيَّة حال، هذه مجرَّد انطباعات قارئ لا تغني عن النَّقد الَّذي يجب أنْ يقوم به المتخصِّصون في هذا المجال، ولكنَّهم – مع الأسف – تقاعسوا، حتَّى الآن، عن القيام بدورهم المطلوب، حيال هذه التَّجربة الأدبيَّة الغنيَّة والمهمَّة، لسببٍ لا أعرفه. وآمل أنَّني، بكتابتي عنها، أكون قد لفتُّ نظر بعضهم إليها فيولونها ما تستحقّ من الاهتمام والاحتفاء.

أطباء أدباء تشيخوف

أطباء أدباء ناجي

أطباء أدباء وغبيش

--------------------------------

*كان هذا الخبير مِنْ بقايا المخابرات النازيّة الألمانيّة، وقد أُستُقدِم إلى الأردن، في أواخر خمسينيّات القرن الماضي، للاستفادة بتجربته الغنيّة في التَّحقيق مع الشيوعيين وتعذيبهم. وقد أُستُشهد، على يديه، المناضل الشّيوعيّ الأردنيّ المعروف عبد الفتّاح تولستان.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب