news-details

ألسَّبَت الكبير (4)| محمد نفاع

في الرُّبع حجابٌ مثلّث مجلّد بالخَرَز الملوّن، خرز صغير مدوّر، الخَرَزة بشكل وحجم حبّة الدّحيرْجِه الّتي تنبت مع القِطاني، كما ينبت الزّوان مع القمح. في سنة الجوع، ظلّ الزوان الكثير مع القمح والطحين، داخ الناس، بَرَمت رؤوسهم كالمضروبين، -زيوَنَت البَشر-!! وإذا تعذّرت معرفة الدّحيْرجه فها هي حبّات اللّزّيقة، ومن النادر أن تجدَ بيتا بلا حجاب، بعضها مغلف بالمخمل الأسود والأحمر، ضِدّ النقزة والسّرساب، حُجب للمحبّة والمكارهَة، وهذه المغصوبة وضعت الحجاب على جسدها الأبيض الناعم كالغيم النقي، كحبات الطّفَل على طبابيق الهِنْبل. لم يقدر عريسها أن يجوز عليها، أكثر من نُصّ سنة. حتى جاءت واحدة من قريباتها المحنّكات القارحات وقالت: عزارة وعليها شهود، ابنكو مش بْتاع جيزة، ومش بتاع نِسوان، وحدث الطلاق حتى أخذت نقا عينها وقلبها.

دلقتُ ما في الرّبع من أغراض صغيرة، مصاري من على زمن الأتراك، سحتوت وبارَه، متاليك وبشالي وحتى زهراوي، وكلها مكتوب عليها عزّ نصرُه ضُرب في القسطنطينية، أما لماذا لم يكتبوا في اسطمبول أو الآستانة فالسبب غير معروف.

وهناك قروش وتعاريف، من فلسطين على زمن الانكليز منقوش عليها: حكومة فلسطين، ومع حرفين من لغة أخرى تبيّن أنهما من العبرية: ألف وياء. أرض إسرائيل، الانكليز متل البَرْد أساس كل علّه.

خَرز مسابح وأوراق، كوشان طابو، ودفاتر محفوظات ونشيد، عن زهر اللوز، والورد:

أزهرَ اللوزِ أنت لكل زهرٍ

                             من الأزهارِ يأتينا إمامُ

لقد حسُنت بكَ الأيام حتى

                           كأنك في فمِ الدنيا ابتسامُ

قامت حروبُ الزّهرِ ما

                         بين الرياض السندسية

وأتتْ بأجْمعها لتغْزو

                        روضة الوردِ الجَنيّه

لكنها انكسرتْ لأنّ

                       الورد شوكتُه قوية

وسطرين من الرثاء علّمنا اياهم المعلم سلمان ذيب دغَش من المغار، في الصف الرّابع:

أأرثيكَ أم أرثي النُّهي والمعالِيا

                                  فِداكَ دمي لو يقبل الموتُ فاديا

عزيزٌ علينا أن توسَّدَ في الثّرى

                                 وقد كنتَ ما بين الجوانحِ ثاويا

دفاتر نشيد من لبنان:

ضَيعِتْنا غامرها النّور

                       مَشْرورَة على راس التَّلْ

مَدخَلْها درج زْهور

                         بْتِضْحَكلَك لما بتطلّ

رْبينا سنين ربينا شهور

                         في الوادي بين الصّخور

كان بْييجينا العصفور         

                        يشاركنا عالزّوادِه

خفق قلبي خفقة قوية، كأني سمعتُ صوتها الآتي من الأعماق، ونَمّل رأسي، وارتعش شَعره، في شقفة نايلون صورة الفنلندية كويا سِرْفولا. من قبل خمسين سنة، خبأتها في السَّبَت، حتى لا أتعرض للحجاب والعقاب والقَرقَره والجواب.

مشاهد وأحداث تتكرّر وتتراكض في أكثر من نَصّ وأكثر من مناسبة، وأنا أتحمّل الذنب والجريرة، وهذه ليست من هَفَواتي، وهي كثيرة.

صبيّة بيضاء ناعمة كريش الزّغاليل، والقحوان النّدي ونعف زهر البريوزْكا، صوتها متموج مُقَطّع مكسّر كخلجان النرويج، لها زوج أو صديق وسيم هادئ جميل، من العَبَث مقارنتي به، لكن ليلة الأحد طويلة وشيّقة وعطلة دراسة في المعهد، والوفد الألماني في الطابق الخامس من البناية يصخب ويضج، يشربون البيرا، وينشدون ويتحدثون تمامًا كما توقعت، صعدتُ إلى هناك، رحّبوا بي بحرارة، أجلسوني قربها، ثم تركوني وتفرغوا لشأنهم، بعد أن قدموا لي المشروب الذي لا أحبّه، لا أعرف لماذا لا أحب البيرا، لا أحبها بتاتا، وها هي تشرب بشهية وتشارك في الغناء، أناشيد ثورية، أكيد، قد تكون عن روزا لوكسِمبورغ، روزا الحمراء.

في التكتيك العسكري الفنلندي ملخّص "قنْص الأعداء" كما قرأت في كتاب "ضمائر حية"، لستُ عدوًا مطلقًا، كويا قنصتني منذ أن رأيتها لأول مرة، كنت أسترق النّظر اليها، قد تكون انتبهت إلى ذلك، والحق عليها إذا لم تنتَبه. الجلوس قربها والتمتع بصوتها المتموّج الناعم الرائق وأنا أعبّ البيرا عبًّا، والألمان مشغولون بشأنهم، هي نعمة من النِّعَم، والذكريات الحلوة العذبة الفواحة كزهر نيسان، حتى في هذا الجيل، قد تكون علاجًا ناجعًا ضد الكورونا.

في الهزيع الأخير من الليل، رافقوها إلى غرفتي وهم ينشدون، لا أعرف كيف تجيء إلى غرفتي، وهم معها، والأدهى من ذلك، ان زميلي في الغرفة، والذي كان يغط في النوم، أفاق على هذه المعمعة، ليرى في الغرفة صبية، نهض مهرولًا، رافسًا النوم والنعاس، عَبَطها ومشقها سيلًا من القبلات النّهمة الجشِعة وأنا صحوت جدًا من تأثير البيرا، يا كباه يا تعساه!!

اكتفيت بما حدث في المَمَرّ وأنا أرافقها إلى غرفتها، والممرّ طويل وفي طابق آخر. بعدها حدث ما يعكّر هذه العلاقة، في اجتماع للوفود، والوفود كثيرة في معهد الدّراسات، قام الوفد الياباني وطالب بإعادة جزيرة سخالين، وكأن العسكرية اليابانية لم تَعْتَدِ على مونغوليا، وعلى الاتحاد السوفياتي في محور روما برلين طوكيو. وقامت كويا الجميلة الناعمة المحبوبة وتساءلت ماذا مع برزخ فنلندا.

جرى صراع عنيف في داخلي، بين المبدأ والضّمير من جهة والعاطفة من الجانب الآخر، ورحتُ أستعرض حصار لينينغراد الطويل من قبل النازية، أكل المحاصَرون حتى الجِيَف، لكن لينينغراد صمدت، حتى جاءت معارك الدفاع عن موسكو ومعركة ستالنغراد، وكورسك، وحتى صمود كتيبة ماميش أوغلي، وأبطال قلعة بريست. ويأتيك من يُبدع ويقترح تسمية ستالنغراد – فولغاغراد، وكأنه يتشبّه إلى ظُفر ستالين، الذي ناب عن لينين في تقديم البيان السياسي الى مؤتمر الشيوعيين، ولينين في الغابة عند بحيرة رازليف والملاحَق من قِبل حكومة كيرانسكي.

رأيت في صوت كويا يومها، صوتا كريهًا غير مستساغ إطلاقًا، مقَتُ نظراتها ولهجتها وصوتها وصورتها.

أوشكت أن أمزّق صورتها التي طلبتُها منها، وقدّمتْها، "عن حظَى عن رضى"، لكن ها هي أمامي وأنا في السَّبَت، والرياح تزمجر وتطرق الأبواب بلا رحمة، والسنونو يحوم حول العش المعلّق، والدنيا بدأت تعْبِس، وأنا أرتاح من دلق البيانات والتحذيرات والتوصيات من الكورونا، وبخاصة لجيلنا، جيلي وجيل كويا من بلدة زاماطي، كانت تلفظ اسمها بشكل لطيف جدًا، وبصوت خلّاب يقنص كالتكتيك العسكري، واثقا أننا لن نُصاب بهذا الوباء، وأشغلتُ نفسي بمعركة خاخين خول – من قبل المعتدين اليابانيين، ومآثر لينينغراد وستالنغراد، في ستالنغراد طوّق الجيش الأحمر جيش النازي باوْلوس، واستمات الفوهرر وهملر لفك الطوق، ولضرب أنصار كوباك وميدييديف وهم يفجّرون القطارات النازية، ويفجرون الجسور والدبابات ويقنصون الجنرالات النازيين والصليب المعقوف، ومن "هايل هتلر" الى "هتلر كابوت" هتلر انتهى، والصورة في يدي، ونظري يمغزل ويزغْلِل، وقلبي يعود إلى حالته الطبيعية، وأنسى انسداد الشرايين، والضغط، وضيق التنفّس، الانتصار على المعتدين المتغطرسين دواء ناجع، حرب نفسية مجرّبة. وبلا أي تسامح مع المعتدين، حلّق فكري وحط عند نقاش لينين مع مكسيم غوركي العِملاق، ولينين في المنفى، وفي الطبيعة الخلّابة، وغوركي بين الناس والعُمال، لينين يبتسم ويقول: كان يجب ان يكون غوركي هنا، في الطبيعة، وأنا هناك، لأن أفكاره المهادنة في الفكر والتنظيم لا تحدث إلا البَلْبَلة.

تهتفُ الجموع في المواكب

                              بشعار حِزبنا الأمين

شعبنا الأبي لن يحارب

                             وطنًا أشاده لينين

مع تحملي كل المسؤولية عن هذه المباشَرَة وأدب الشعارات الذي يضرب الفنّ في الصميم، هي ليست هفوة. خبأت الصورة الجميلة في أرض السَّبَت، لتبقى هناك مع كل الأغراض العتيقة الغالية، هي والسَبَت الكبير من خشب الجوز.

يتبع- الحلقة الأخيرة

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب