news-details

أيُّ عصرٍ هذا...؟! "بتموت الشّوحة وعينها على الصّوص"| إياد الحاج

في خضمّ الأحداث المتواترة في عالمنا، وأمام الانبهار بالمظهر المخادع الذي يغطّي الجوهر الحقيقيّ لهذه الأحداث، لا تغيب عن البال المقولة التي كان يردّدها الممثّل السّوريّ الرّاحل، نهاد قلعي (حسني البرزان)، مع شريكه الباقي على عطائه، دريد لحّام (غوّار الطّوشة)، في مسلسلهم القديم الجميل "صحّ النّوم"، هذه المقولة التي كان يقولها بعد تفكير عميق، وكأنّه ينطق بجواب اللّغز المحيّر الذي انتظرناه طويلًا، وكان ينطق به بالفصحى، "لغة المثقّفين": "إذا أردنا أن نعرف ماذا يوجد في إيطاليا، علينا أن نعرف ماذا يوجد في البرازيل".

     ولو استبدلنا البرازيل بفنزويلا، فهل نحافظ على جوهر المقولة، لتكون صالحة ليومنا هذا. أعتقد أنّ الجواب نعم على هذا السّؤال. لأنّنا إذا حاولنا فهم الأحداث الجارية في العالم، بصورة منقطعة عن بعضها، فسنفقد منظر الغابة، وسنغرق في تفاصيل الأشجار، وما أكثر الأشجار في الغابة!

     إنّ المواطن العاديّ الذي أغرقته وسائل الإعلام بمستجدّات وباء "الكورونا"، وعلى مدار السّاعة، مطالب بفهم ما يستعصي فهمه على منطق التّفكير السّليم، فكيف يصيب الوباء الصّين، وأمريكا، وأوروبا برمّتها، ويصل إلى 177 دولة في العالم، حتّى الآن، بهذه السّرعة، ولا يستطيع العلم في أكثر الدّول تطوّرًا أن يتغلّب على هذا الفيروس؟! وكثيرون يسألون: أهو من فعل الإنسان، أم الطّبيعة، أم الله؟ وكيف تجد الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وشريكتها إسرائيل الجهد الحربيّ والإجراميّ والانتقاميّ، في محاربة فنزويلا وإيران وسوريا والفلسطينيّين، وخطر "الكورونا" يهدّد أرواح الآلاف، بل مئات الآلاف إن لم يكن الملايين من مواطنيهما؟!

     سأحاول أن أصل إلى أسباب الظّواهر الكثيرة، التي أصبح بعضها ينمو فجأة كالفطر، دون أن نجد تفسيرًا لهذا الظّهور المفاجئ، ودون أن نجد الجواب على التساؤل، هل هذا الظّهور، هو فعلًا مفاجئ؟ وسأستفيد من الطّريقة الصّينيّة التّقليديّة في العلاج، هذه الطّريقة التي لا تعالج الأعراض الجانبيّة النّاشئة للمرض، بل تبحث عن مسبّب هذه الأعراض، وتعالجه ليكون العلاج جذريًّا، وليس سطحيًّا.

     لم أقرأ تعريفًا للمرحلة التّاريخيّة التي نعيشها، يعتبر تعريفًا علميًّا يستند إلى نظريّة علميّة، تتضمّن جانبًا عمليًّا وتطبيقيًّا لمفاهيمها ومصطلحاتها وأفكارها ومبادئها، على الواقع المتغيّر الذي نعيشه، واقتنعت به، كما اقتنعت بتحليل لينين لطبيعة المرحلة التّاريخيّة الحديثة، وأنا على قناعة أنّه كان صحيحًا، وأنّه لا يزال صحيحًا، رغم المياه الكثيرة التي تدفّقت في نهر الحياة، من بداية القرن العشرين، وحتّى بداية القرن الحادي والعشرين، إلّا أنّ المجرى هو المجرى ذاته، بمعنى أنّ النّظام الاقتصاديّ والاجتماعيّ هو نفسه لم يتغيّر، رغم مرور أكثر من قرن من الزّمن عليه.

     ما هو هذا النّظام الاقتصاديّ الاجتماعيّ، أليس هو الرّأسماليّة التي نعرفها، ونعاني من تبعاتها؟ لا، إنّه مرحلة متقدّمة عن الرّأسماليّة، نشأت في بداية القرن العشرين، وما زالت مسيطرة حتّى اليوم، على مجريات معظم أمور العالم، إنّها الإمبرياليّة. وما هي هذه الإمبريالية؟

     يقول لينين في مقدّمة كتابه "الإمبرياليّة أعلى مراحل الرّأسماليّة" الذي ألّفه عام 1916: "وإذا لم يدرك المرء الجذور الاقتصاديّة لهذه الظّاهرة، إذا لم يقدّر أهميّتها السّياسيّة والاجتماعيّة حقّ قدرها، لا يستطيع أن يخطو خطوة في ميدان حلّ المهام العمليّة التي تواجه الحركة الشّيوعيّة والثّورة الاجتماعيّة المقبلة"[1].

     وبعد التّأكيد على أهميّة قاعدة الفهم، فهم "الجذور الاقتصاديّة" لهذه الظّاهرة، ننتقل إلى الفهم نفسه، وهو المطلوب. يعود لينين إلى المنظّر الأوّل في حركتنا الشّيوعيّة، إلى ماركس، وكتابه الذي نعتبره المرجع الأوّل في الفهم الاقتصاديّ والاجتماعيّ للمجتمع الإنسانيّ، كتاب "رأس المال"، طبعًا؛ فيقول: "وقد حاول العلم الرّسميّ أن يقتل عن طريق مؤامرة الصّمت مؤلّف ماركس الذي برهن بتحليله النّظريّ والتّاريخيّ للرّأسماليّة على أنّ المزاحمة الحرّة تولّد تمركز الإنتاج وعلى أنّ هذا التّمركز يفضي، عند درجة معيّنة من تطوّره، إلى الاحتكار"، وهو يتابع: "في حين أنّ نشوء الاحتكارات عن تمركز الإنتاج هو القانون العام والأساسيّ في المرحلة الحديثة من تطوّر الرّأسماليّة"[2].

     ويعزو لينين تشكّل الإمبرياليّة من الرّأسماليّة إلى بداية القرن العشرين: "نهضة أواخر القرن التّاسع عشر وأزمة سنوات 1900- 1903: تصبح الكارتيلات أساسًا من أسس الحياة الاقتصاديّة بأكملها. تحوّلت الرّأسماليّة إلى إمبرياليّة"[3].

     ويتابع لينين رصده للإمبرياليّة، منذ نشوئها: "فالرّأسماليّة في مرحلتها الإمبرياليّة توصل رأسًا إلى إعطاء الإنتاج صبغة اجتماعيّة شاملة، وهي تجرّ الرّأسماليّين، إن أمكن القول، رغم إرادتهم وإدراكهم، إلى نظام اجتماعي جديد، انتقاليّ من حريّة المزاحمة التّامّة إلى الاصطباغ التّام بالصّبغة الاجتماعيّة.

يغدو الإنتاج اجتماعيًّا، ولكنّ التّملّك يبقى خاصًّا، تظل وسائل الإنتاج الاجتماعيّة ملكًا خاصًّا لعدد ضئيل من الأفراد"[4].

     ومن الاحتكار ونشوئه من المزاحمة، ينتقل لينين إلى البنوك، ويحدّد دورها الجديد: "إنّ وظيفة البنوك الأساسيّة والأولى هي الوساطة في الدّفع. وأثناء ذلك تحوّل البنوك الرّأسمال النّقديّ غير العامل إلى رأسمال عامل، أي إلى رأسمال يدرّ الأرباح، وتجمع العائدات النّقديّة بشتّى أنواعها وتضعها تحت تصرّف طبقة الرّسماليّين.

ومع تطوّر الشّؤون البنكيّة وتمركزها في مؤسّسات قليلة العدد، تتحوّل البنوك من وسطاء متواضعين إلى احتكارات شديدة الحول والطّول تتصرّف بمعظم الرّأسمال النّقديّ العائد لمجموع الرّأسماليّين وصغار أصحاب الأعمال وكذلك بالقسم الأكبر من وسائل الإنتاج ومصادر الخامات في بلاد معيّنة، أو في جملة من البلدان. وتحوّل الوسطاء الكثيرين المتواضعين إلى حفنة من الاحتكاريّين هو وجه أساسيّ من وجوه صيرورة الرّأسماليّة إلى إمبرياليّة رأسماليّة"[5].

     وعلى فكرة، فإنّ لينين في معرض وصفه لتحوّل البنوك من وسيط، إلى شريك في الإنتاج، ومن ثمّ إلى مسيطرة على الإنتاج بعد إخضاع رأس المال الصّناعيّ لسلطتها، ليسود رأس المال الماليّ، في المرحلة الإمبرياليّة، هو يذكر بعض العائلات التي مازالت مسيطرة على اقتصاد العالم بفضل رأسمالها الماليّ، مثل: روكفلر، مورجان، روتشلد، نوبل، ...، فكأنّنا، وكما قال إميل حبيبي، في رائعته "المتشائل": "كأنّا يا بدر لا رحنا ولا جينا".

     ويلخّص لينين ما تقدّم، ببعض الكلمات: تمركز الإنتاج، الاحتكارات النّاشئة عن هذا التّمركز، اندماج البنوك والصّناعة-  "هذا هو تاريخ نشوء الرّأسمال الماليّ وفحوى هذا المفهوم"[6].

     وينتقل لينين في تحديد خصائص الإمبرياليّة إلى تصدير رأس المال: "كان تصدير البضائع الحالة النّموذجيّة في الرّأسماليّة القديمة، حيث كانت السّيادة التّامّة للمزاحمة الحرّة. وغدا تصدير الرّأسمال الحالة النّموذجيّة في الرّأسماليّة الحديثة التي تسودها الاحتكارات"[7]. وهو ينهي هذا الباب بنتائج تصدير رأس المال: "إنّ البلدان مصدّرة الرّساميل قد اقتسمت العالم فيما بينها بمعنى الكلمة المجازيّ؛ غير أنّ الرّأسمال الماليّ قد أفضى إلى اقتسام مباشر للعالم"[8].

     ويصف لينين مرحلة اقتسام العالم بين اتّحادات الرّأسماليّين، كما يلي: "إنّ اتّحادات الرّأسماليّين الاحتكاريّة- الكارتيلات، السينديكات، التّروستات، تقتسم العالم فيما بينها، بادئ ذي بدء السّوق الدّاخليّة، مؤمّنة لنفسها السّيطرة على الإنتاج في بلاد معيّنة بصورة مطلقة ما أمكن. ولكن لا مناص للسّوق الدّاخليّة في عهد الرّأسماليّة من أن ترتبط بالسّوق الخارجيّة. وقد أنشأت الرّأسماليّة السّوق العالميّة من أمد بعيد. وكلّما كان يزداد تصدير الرّأسمال وتتّسع شتّى أنواع العلاقات بالخارج وبالمستعمرات وتتّسع "مناطق نفوذ" الاتّحادات الاحتكاريّة الضّخمة، كانت الأمور تسير "بصورة طبيعيّة" في اتّجاه الاتّفاق العالميّ بين هذه الاتّحادات، في اتّجاه تشكّل الكارتيلات العالميّة. وهذه درجة جديدة في تمركز الرّأسمال والإنتاج على النّطاق العالميّ ودرجة أعلى من السّابقة إلى ما لا يقاس له"[9].  

     وسأنهي سلسل الاقتباسات هذه، في المرحلة التي يذكرها لينين في كتابه، وهي مرحلة اقتسام العالم بين الدّول الكبرى: "إنّ عهد الرّأسماليّة الحديثة يبيّن لنا أنّ ثمّة علاقات تتكوّن بين اتّحادات الرّأسماليّين على صعيد اقتسام العالم اقتصاديًّا وأنّ ثمّة علاقات تتكوّن بمحاذاة ذلك وتبعًا لذلك بين الاتّحادات السّياسيّة، بين الدّول، على صعيد اقتسام العالم إقليميًّا، على صعيد الصّراع من أجل المستعمرات، الصّراع من أجل الرّقاع الاقتصاديّة"، ولا بدّ من إضافة رأي هامّ للينين حول طريقة التّقاسم: "لأنّ التّمركز قد بلغ درجة ترغم على ولوج هذا الطّريق للحصول على الرّبح؛ هذا وهم يقتسمونه "حسب الرّأسمال"، "حسب القوّة" – لأنّه لا يوجد وسيلة أخرى للتّقاسم في ظلّ نظام الإنتاج البضاعيّ والرّأسماليّة"[10].

     كان لا بدّ من أجل تعريف الإمبرياليّة، بحسب لينين، من تحديد علاماتها الخمس الأساسيّة: 1- تمركز الإنتاج والرّأسمال يؤدّي إلى الاحتكارات التي تقوم بالدّور الفاصل في الحياة الاقتصاديّة 2- اندماج الرّأسمال البنكيّ بالصّناعيّ ونشوء الطّغمة الماليّة 3- تصدير الرّأسمال، خلافًا لتصدير البضائع، يكتسب أهميّة خطيرة 4- تشكّل اتّحادات رأسماليّين احتكاريّة عالميّة تقتسم العالم 5- انتهى تقاسم الأرض إقليميًّا فيما بين كبريات الدّول الرّأسماليّة.

وبناء عليه فإنّ الإمبرياليّة هي الرّأسماليّة في مرحلة من التّطوّر تكوّنت فيها سيطرة الاحتكارات والرّأسمال الماليّ واكتسب تصدير الرّأسمال أهميّة كبرى، وابتدأ تقاسم العالم بين التّروستات العالميّة، وانتهى تقاسم الأرض كلّها إقليميًّا بين كبريات البلدان الرّسماليّة[11].

     لماذا أسهبت في نقل تفاصيل النّصوص المقتبسة؟ لأنّنا نريد أن نعود إلى مرجعيّتنا الفكريّة في استنباط المواقف الصّحيحة ممّا يجري في العالم، على ضوء الفهم الماركسيّ اللّينينيّ، فبدون الفكر سنفقد البوصلة، وسنقع في حبائل التّضليل الإعلاميّ الرّأسماليّ الذي لا ينفكّ عن التّأثير على وعي النّاس صبح مساء، بشكل يشبه غسيل الأدمغة، وبدون الفكر سنفقد حصانتنا التي تقينا من الانخداع ببريق المظهر، وسنعدم طريق الولوج إلى جوهر فهم الظّواهر المحيطة.

     لا بأس من إنعاش الذّاكرة لمن يعلم، وشعر أنّني أثقلت على ذاكرته، أمّا أجيالنا الطّالعة، والسّائرة على هذا الدّرب، فلا بدّ لها من التّسلّح بالوعي النّظريّ لتفكّر ماركسيًّا بشكل مستقلّ، بعيدًا عن الانجرار وراء المواقف، ودون تفعيل التّفكير النّقديّ في صحّتها وملاءمتها لنهجنا الفكريّ، والطّبقيّ، والسّياسيّ.

     بعد تثبيت الأساس الفكريّ الذي يوجّهنا، نسأل: هل تغيّرت شروط وجود الإمبريالية، من بداية القرن العشرين، وحتّى بداية القرن الحادي والعشرين؟ بحسب رأيي المتواضع، لم تتغيّر، فما زالت الخصائص الخمس المذكورة آنفًا، قائمة، بل وازدادت معالمها بروزًا، وغدت أكثر وضوحًا، بحيث لا يعصى إدراكها على أبسط النّاس.

     ويتبادر إلى الذّهن سؤال آخر هل هذه المرحلة هي المرحلة الأخيرة في تطوّر الرّأسماليّة، ألا يوجد مرحلة ما بعد الإمبرياليّة كما كان يدّعي كاوتسكي، وعارضه لينين بذلك، في كتابه المذكور، مؤكّدًا أنّه لا مرحلة بعد الإمبريالية، التي ستغدو طفيليّة متقيّحة، ولكنّها لن تفضي إلى حالة جديدة أكثر تطوّرًا، بناء على خواصّها الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وبناء عليه فأنا أنطلق من هذه الرؤية في النّظر من حولي لواقع اليوم.

     وبعد أن وضّحت نفسي فأنا أرى، كما يرى العالم كلّه الدّور الاقتصاديّ المتنامي للصّين، كثاني اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وهي تملك أكبر وتيرة نمو اقتصاديّ، ممّا يجعلها منافسة حاليّة ومستقبليّة للإمبرياليّة الأمريكيّة، فهل ستسمح الولايات المتّحدة للصّين بالتّوسّع في أسواق العالم، وتسمح لها بتصدير رأسمالها  إلى بقاع الأرض، بناء على تضخّم رساميلها التي تتطلّب تفعيلها في اقتصاد الدّول والمجتمعات؟

     إنّ اتّجاه التّطوّر يقودنا في العالم إلى تعاظم قوّة الصّين، ولا يمكن لأحد أن يتجاهل هذا المارد الاقتصاديّ الصّاعد، فكيف ستواجهه الولايات المتّحدة؟ وأنا أرى أنّ الولايات المتّحدة بمراكز أبحاثها على كلّ المستويات تقرأ الصّورة جيّدًا، لذلك هي تقوم بالاستعداد للمواجهة التي أراها حتميّة، مهما تفادت الصّين هذه المواجهة، بوسائلها السّياسيّة، والدبلوماسيّة، ومهما قدّمت من التّنازلات الاقتصاديّة، فالإمبرياليّة عنيفة بطبعها: "الإمبرياليّة من النّاحية السّياسيّة هي بوجه عام نزوع إلى العنف والرّجعيّة"[12]. ومن يخلق الوحوش الدّاعشيّة في سوريا والعراق، لن يوفّر أيّ وسيلة أكثر إجراميّة، وأكثر وحشيّة على أرض المنافس الصّاعد، في الصّين.

     ومن أجل تخصيص القوى الكافيّة لهذه المهمّة الأكثر إلحاحًا بالنسبة لمكانة الإمبرياليّة في اقتصاد العالم، كمسيطر على مجريات الأمور، بواسطة النّظام الماليّ العالميّ الذي يخضع كليًّا للإرادة الإمبريالية، ومن أجل الحفاظ على الدولار عملة عالميّة في التّداول، على الولايات المتّحدة أن تعيد توزيع قوتها العسكرية، ومجهودها الاقتصاديّ، وتتفرّغ للمهام الكبيرة المنتظرة.

     ومن أجل النّجاح في إعادة توزيع القوّة العسكريّة، على أمريكا أن تخفّف من تواجدها الفعليّ في منطقة الشّرق الأوسط، ولكن في نفس الوقت عليها أن تضمن مصالحها، وأن تكفل لشريكتها إسرائيل السّيطرة على المنطقة، في ظل عمليّة إعادة انتشار قوّة الولايات المتّحدة في العالم. ومن الوسائل التي قامت وتقوم بها الولايات المتّحدة من عقود، طبعًا، هي تدمير الدّول القائمة، وإضعاف ما لا تستطيع تدميره.

     إنّ تدمير العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، وحصار إيران، وتقسيم السّودان، وإضعاف دول المغرب العربيّ، والدّول العربيّة في إفريقيا، وتحييد مصر... ومحاولة تصفية القضيّة الفلسطينيّة، من خلال صفقة القرن، ومن خلال دعم احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينيّة والعربيّة، ما هو إلّا أعراض خارجيّة لنفس الظاهرة.

     أمّا دعم إسرائيل غير المحدود، فهو ما سيضمن لها السّيطرة على المنطقة لملء الفراغ، لذلك فإنّ الحرب على محور المقاومة ستشتدّ، بهدف إضعافه إلى الحدّ الذي تتفوّق عليه إسرائيل، فهو التّهديد الوجوديّ الوحيد عليها، كما يعلن خبراؤها الأمنيّون.

     هذه طبعًا حسابات "السّرايا"، وليست حسابات "القرايا"، والرّهان على من يتصدّى لهذه المشاريع، التي باتت واضحة وضوح الشّمس، إلّا لمن لا يريد أن يرى الحقيقة، أو للمضلِّلين أنفسهم الذي "يعرفون ويحرفون".

     إنّ الشّروط تتهيّأ، وتنضج للمواجهة الشّاملة مع الإمبرياليّة الأمريكيّة، على مستوى العالم، وعلى مستوى المنطقة، والمنتصر في هذه المواجهة سيفرض نظامه على العالم، فهل يسود نظام الإمبرياليّة العالميّة من جديد، ويكرّس نفسه بقوّته الماليّة والعسكريّة، أم تتشكّل جبهة عالميّة من المتضرّرين منه، وتفرض على العالم نظامًا جديدًا متحرّرًا من قبضة أطماع الإمبرياليّة، ومن يضطلع بالدّور القياديّ لهذه الجبهة، وهل دور الدّول يلغي دور المجتمعات البشريّة بقواها الحيّة، بأحزابها ومؤسّساتها الاجتماعيّة؟

     على ضوء ما تقدّم، فإنّ المرحلة القادمة حبلى بمرحلة جديدة في حياة البشر، لم نعهدها من قبل، ستتواجه فيها قوى كبيرة على النّظام الاقتصاديّ والاجتماعيّ الجديد للعالم، والسّؤال هو ماذا تعدّ الأحزاب الشّيوعيّة في العالم لهذه المواجهة، وكيف ستعرض البديل التّقدّميّ الإنسانيّ الجديد للقديم الرّجعيّ العنيف البالي؟

     وبناء عليه، هل نحن بحاجة لأمميّة جديدة، أمميّة رابعة، بعد تدمير الاتّحاد السّوفييتيّ لم يرث موقعه الأمميّ القياديّ أيّ جهة، فمن سيضطلع بهذه المهمّة التّاريخيّة؟ إنّ شعوب العالم، والأحزاب اليساريّة عامّة، والشّيوعيّة خاصّة، بحاجة إلى وحدة أمميّة، طبقيّة، جديدة، واعية لطبيعة المرحلة، وللمهام المطلوبة فيها، وحدة تستقطب كلّ المتضرّرين من الإمبرياليّة، وتنمّي الأمل بإمكانية تطبيق نشيد الأمميّة: "غد الأمميّة سيشمل البشر".

     لا يكفي الانكفاء على القضايا المحليّة للأحزاب، لا يجوز أن نكون مقطوعين عن امتدادنا الطّبقيّ الأمميّ، ففي نهاية الأمر، فإنّ القضايا مترابطة ببعضها، فكما ربطنا الخبز بالسّلام، تستطيع شعوب المنطقة ربط حريّتها بحريّة الشّعب الفلسطينيّ، وتستطيع شعوب العالم ربط ضمان أمنها الوطنيّ والقوميّ بهزيمة قوى الحرب في العالم.

تعلّمنا طبيعة النّسر عندما يهرم أنّه يحلّق إلى أعلى قمّة يصلها، ليموت فيها عزيزًا كريمًا، ولكنّنا نتعلّم عن طبيعة الإمبرياليّة أنّها لا تتحلّى بشيء من طبيعة النّسر الأبيّة، بل هي أشبه "بالشّوحة" التي لا تنفكّ عن رصد "الصّوص" للانقضاض عليه، في اللّحظة المناسبة، وهذا ديدنها حتّى مماتها. ستبقى الإمبرياليّة متأهّبة لارتكاب أبشع الجرائم لجني المزيد من الأرباح، حتّى النّفس الأخير، فكيف نحمي "الصّيصان" من جشعها الإجراميّ، أيتّها الشّعوب المستضعفة، وأيّتها الأحزاب الثّوريّة في العالم؟

 

 (كفرياسيف)   

 


[1] لينين، د.ت. ص14.

[2] ن. م. ص22- 23.

[3] لينين، د.ت. ص25.

[4] ن. م. ص31.

[5] ن. م. ص37- 38.

[6] لينين، د. ت. ص61.

[7] ن. م. ص81.

[8] ن. م. ص89.

[9] ن. م. ص89- 90.

[10] لينين، د. ت. ص100 101.

[11] أنظر: لينين. ف. إ. الإمبريالية أعلى مراحل الرّأسماليّة، دار التّقدّم، موسكو، د. ت. ص118- 133.

[12] لينين، د. ت. ص122.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب