news-details

إدوارد سعيد ودور المثقف (2-2)

الثقافة القومية؛ الولاء، والنقد

لقد أمضى سعيد كثيراً من وقته ومن كتاباته مدافعاً عن حقوق الشعوب المستعمرة في نيل استقلالها والتحرر من نير الاستعمار والسيطرة، ولهذا، فإنه ينتبه وينبه إلى خطر الانجراف وراء الرطانة القومية التي تقوم على صناعة التماهي والتجانس بين أفراد الأمة، إلى درجة تهدد بقتل أي نزعة نقدية. وهو يشير إلى أن كتّاباً ثوريين مثل فانون، انتبهوا من قبل لهذه النزعة وحذروا منها. ويستشهد أيضاً بمواقف الشاعر الهندي طاغور ودوره، والذي لم يتوانَ عن اتخاذ موقف نقدي تجاه الحركة القومية الهندية، حتى عندما كانت تخوض معارك عادلة ضد أعدائها 1.

هذه الروح النقدية، وفقاً لسعيد، يجب أن تسود في كل وقت، وهو يرى أنه "من غير الكافي ترديد الشعارات الوطنية المناهضة للاستعمار كما هي مجسدة في الحزب والقيادة، فهناك دائماً مسألة الهدف الذي يستلزم تحليل الخيارات حتى في حومة المعركة،" والولاء للجموع لا يمكن أن يجر المثقف إلى "درجة تخدير الحس النقدي." 2

ويصل الأمر به إلى حد اتخاذ موقف عام مطلق يفضل فيه النقد على الولاء، فيكتب: "هل يُلزم واقع القومية المثقف الفرد، الذي هو محور الاهتمام في كل ما أرمي إليه هنا، بالمزاج العام، بدواعي التضامن أو الولاء الأزلي، أو الوطنية القومية؟ [....] الجواب المختصر هو أن التضامن لا يعلو أبداً على النقد." 3

هذا كلام جريء وضروري، وخصوصاً في عالم مثل عالمنا العربي، والذي تلتقي فيه فكرة الدولة مع الدولة القائمة، والدولة مع الحزب الحاكم، والحزب الحاكم مع لجنته المركزية، ولجنته المركزية مع رئيس الحزب، لينتهي الأمر بأن أي نقد لرئيس الحزب هو انتقاص من هيبة الدولة؛ وأي مساءلة لممارسات زعيم الثورة تُعتبر تشكيكاً في المسيرة برمّتها؛ وأي مراجعة لقرار أو خطوة معينة هي خيانة للمشروع بأكمله.

يعلل سعيد أسبقية النقد على الولاء في مقالته عن النقد العلماني، فيبرر هذه الأسبقية، ويعتبر أنه حتى في حمى المعركة، يجب أن يكون هناك نقد، لأنه "يجب أن يكون هناك وعي نقدي أصلاً كي يكون هناك موضوعات ومسائل ومشكلات وقضايا وقيم، وحتى حيوات، تستأهل النضال من أجلها." 4

وعليه، ليس مصادفة أن نموذج المثقف يستقي بعض مواصفاته من نموذج المنفي؛ ذلك الشخص الذي يعيش خارج وطنه، ولا يشعر بحميمية مفرطة معه، ويحافظ على مسافة منه تؤهله لإقامة هذا الوطن / المجتمع. وليس مصادفة أن سعيد يستعمل كلمة "مسافة" (distance) في معرض توظيفه لماهية دور النقد، باعتبار أن هذه المسافة ضرورية للعملية النقدية. 5

ما من شك في أن النقد يحتاج إلى هذه المسافة، وإلى هذا الانفصال الآني بين الذات والجماعة، وبين الفكرة وتجسدها المادي، وبين الهوية وصورة الهوية عن ذاتها. لكن ما أردت أن أضيفه (وهو أمر يشير إليه سعيد من دون أن يتوقف عنده كفاية)، هو أن الولاء نفسه أيضاً شرط النقد، وأن الولاء والتضامن هما قيمة ضرورية بذاتيهما أولاً، وهما شرط لقيم أُخرى أيضاً.

قد يكون من المفيد في هذا السياق العودة إلى أبجديات الفلسفة. لقد كان أفلاطون أول الفلاسفة الذين كانوا على وعي بضرورة المسافة بين الفكرة وتجلّيها المادي (ولا أدّعي أن إدوارد سعيد أفلاطوني)، وكان حريصاً على إبقاء مسافة بين الفيلسوف الحاكم وبين الأمور المادية الحياتية. فمن المفروض ألاّ يتزوج الفيلسوف الحاكم كي لا يكون عنده أولاد وأحفاد وسلالة، وألاّ يكون صاحب أملاك وعقارات في الدولة، لأن من شأن هذين الأمرين أن يجعلاه منغمساً ومتورطاً ومنحازاً، أي أن يفقد الحس النقدي الضروري كي يحكم ويقوّم الأمور بنزاهة وبمسافة متساوية بين أعضاء الجمهورية، وهو ما يمنع الاحتراب داخلها. لذلك كله، عارض أفلاطون فكرة الملكية الخاصة. 6

هذا "البعد"، أو التجرد من الانغماس في حياة الجماعة، يضمنان نوعاً معيناً من القدرة النقدية والنزاهة. إلاّ إن المشكلة التي نام عليها أفلاطون وصحا عليها أرسطو، تقوم على السؤال التالي: حتى إذا ضمنّا أن الفيلسوف الحاكم قادر على أن يحكم بالعدل، وأن يقيّم الأمور نقدياً، فما مصلحته في ذلك؟ بمعنى: ما الحافز لديه كي ينهض صباحاً ويذهب إلى عمله، ليحكم بالعدل ويقيّم الأمور نقدياً وموضوعياً؟ وكيف يمكن أن نعيد "زرع" هذا الفيلسوف بين شعبه ومجتمعه بعد أن "اقتلعناه" منهما؟ وكيف نعيده إلى الحياة بعد أن جردناه من صفاته البشرية؟ وكيف نعيد ارتباطه بالجماعة بعد أن سعينا لفك أي ارتباط له بها؟ 7

لا يعني ما سبق، أن "المسافة" غير ضرورية للنقد، بل الإشارة إلى أن كلمة "المسافة" هي كلمة علائقية تعني مسافة بين اثنين موجودين داخل وحدة معينة. النقد يحتاج إلى "المسافة" كقوة طاردة عن المركز، لكنه يحتاج إلى "الولاء" باعتباره قوة جاذبة في اتجاه المركز؛ قوة قادرة على خلق جمهور يتحدث بلغة يمكن للجميع فهمها، المنتقِد والمنتقَد.

إن غياب هذا الحد الأدنى من الحميمية يولّد سؤالين تلقائيين: الأول، ما هو حافز المنتقد على تقديم نقده؟ والثاني، ما الحافز لدى جمهور المستمعين على الاستماع إلى هذا النقد، والإصغاء إليه أساساً؟ أوليس هناك ضرورة لوجود نوع من العلاقة الحميمية التي تقوم على الولاء، والاهتمام بالمصير المشترك للجماعة، والقلق إزاء مصيرها ومستقبلها، كي يتحفز الناقد ليقدم نقده؟ وفي المقابل، أوليس هناك حاجة لدى الجماعة إلى أن تكون مقتنعة بأن المثقف الذي يقوم بنقدها مهتم وقلق إزاء مصيرها وأحلامها وآمالها وآلامها؟ أوليس وجود هذه الـ "نحن" ضرورة لغوياً وبلاغياً، كي يكون من الممكن دخول المحادثة والمشاركة فيها وتقديم النقد؟

بهذا المعنى، فإن مشكلة المثقف ربما تكون شبيهة بمشكلة الفيلسوف الحاكم لدى أفلاطون؛ كلاهما قادر على اتخاذ موقف تحليلي وقيمي وأخلاقي كوني، لكن السؤال هو أي رغبة لديهم في اتخاذ موقف كهذا إن لم يكن بدافع الانتماء، وأضيف هنا الحب؟ وأي رغبة لدى الجمهور في الاستماع إن لم يكن لديه الحد الأدنى من الثقة بالمثقف، وأضيف أيضاً هنا، بعض الحب؟

وإذا كانت الثقافة القومية مع نزعتها إلى الهيمنة والإخضاع ومطالبتها الدائمة من أفرادها بقبول قيمها السائدة، تشكل نوعاً من القيود، وإذا كان دور المثقف التمرد على هذه القيود، فعلينا أن نقرّ أيضاً بأن وجود القيود نفسه هو شرط التمرد، فالمرء يتمرد ضمن سياق معين. وكي يكون التمرد ذا معنى، عليه أن يصوغ نفسه ضمن أفق ثقافي معرفي وجداني متفق على قواعده الأساسية. والثقافة كاللغة، تقيّدنا وتمكّننا من الحرية في آن معاً، تماماً كقوانين لعبة الشطرنج أو السُلّم الموسيقي: تحدد لنا الحركات المسموحة، لأنه من دون هذا التحديد لا إمكان للعب الشطرنج، أو عزف الموسيقى.

لم يكن إدوارد سعيد غافلاً عن هذه الأمور طبعاً، لكنه لم يكن صريحاً أيضاً. وللأمانة والدقة، فإنه لم يُنظّر للمثقف المتنسّك المنعزل، ولم يتحدث عن الاستقلال الكامل، وإنما النسبي. وأكبر دليل على ذلك، أن حديثه عن المثقف ورد في سياق حديثه عن المنفى والإنسان الذي يعيش فيه. ومَن يعش في المنفى لا يفقد صلته بالوطن الذي جاء منه، ولا يصبح غريباً عنه تماماً، بل يبقى على هامشه، ويقف على الحدود بين مجتمعه والمجتمع الآخر الذي هاجر إليه. ولا يستوي موقف الذي يقيم على الحدود ويبقى في حالة قلق دائم، مع الموقف الجازم بالمطلق، والذي أطلقه سعيد، بأنه في حال تنافس الولاء مع النقد فإن الأسبقية للنقد دائماً وأبداً. لا أسبقية لشيء على شيء، فالمثقف لا يستطيع أن يركن إلى الأجوبة المريحة الواثقة بأن النقد سابق دائماً على الولاء، بل يتعين على النقد أن يكون ناقداً لنفسه أيضاً، وأن يعي شروط حضوره، وعلى المثقف أن يختار متى يطلق نقده ومتى يؤجله.

 

سعيد بين إمانويل كانط وماكس فيبر

إن شغف إدوارد سعيد وحماسته في الدفاع عن المظلومين والمقهورين، ورغبته في الوقوف إلى جانب القضايا العادلة ـ حتى إن كانت خاسرة ـ هي أمور مركزية وراسخة في كتاباته كافة. كما أنه لا يمكن فهم كتاباته عن المثقف ودوره، من دون هذا الربط المحكم الذي يقيمه بين المثقف من جهة، وقيم العدالة والحرية من جهة أُخرى. وعليه، فإنه يشير إلى أن التدخل الفاعل للمثقف في حياة المجتمع "يجب أن يرتكز على إيمان للمثقف راسخ لا يتزعزع في مفهوم للعدالة والإنصاف يسمح بالاختلافات بين الأمم والأفراد"، 8 وإلى أن المثقفين هم دائماً في موقع "يتيح المجال للاختيار ويقوم أكثر من غيره على المبادئ، بحيث يمكّنهم فعلاً من قول الحق في وجه السلطة." 9 هذه الحماسة لفكرة العدالة هي في منتهى الأهمية، وقد وظفها سعيد في خدمة قضايا عادلة كثيرة وعلى رأسها قضية فلسطين. والعدالة لا تتطلب نقد الأمم والقوميات الأُخرى، بل استجواب مستمر للسلطة أينما وأياً تكن.

هذا الشغف بالعدالة مهم جداً، لكنه غير مفهوم ضمناً. وسعيد يقف هنا في صف كثيرين من المفكرين الذين أولوا العدالة مكانة خاصة في كتاباتهم، وعلى رأسهم إمانويل كانط الذي اعتقد أنه إذا غابت العدالة عن العالم، فلا قيمة لحياة البشر على وجه البسيطة. 10 وفي موقع آخر، يقتبس سعيد، موافقاً، المبدأ القديم الذي يقول: "فلتعمّ العدالة، حتى لو اقتضى الأمر أن يلقى جميع الأوغاد موتهم"، 11 وهي المقولة الموازية للمقولة الشعبية الدارجة عندنا، والتي تقول: "لتعمّ العدالة، حتى لو أطبقت السماء على الأرض." هذه الحماسة للعدالة تفترض أن يكون المرء على معرفة ودراية بما تقضي به العدالة، وما تلزمنا به. وبالنسبة إلى فيلسوف مثل كانط، فإن مقتضيات العدالة دائماً محددة ومعروفة وواضحة، وهو يقول في مقالته الشهيرة عن النظرية والممارسة: "إن الفرد حين يسأل نفسه عن واجباته الأخلاقية والقانونية، (وذلك بفارق عن السؤال عن الطريق إلى السعادة) في كل وضع وحالة، لن يكون لديه أي لبس أو حيرة بشأن الجواب الذي يعطيه لنفسه، وهو دائماً على يقين تلقائي إزاء الواجب الذي يجب أن يؤديه." 12

بموجب هذا المنطق الكانطي، فإن الفرد ـ وكل فرد كانطي هو فرد مثقف بمعنى إمكان استقلالية الرأي وعدم الانصياع التلقائي وراء الجماعة ـ يمر في مرحلتين: الأولى، يشخّص فيها ما تقتضيه العدالة، وهذا أمر قابل للتحقق بدرجة عالية من اليقين؛ الثانية تقوم على إخضاع الفرد للاعتبارات الأُخرى للعدالة، والتي تعلو الاعتبارات كافة.

لا يتبنّى سعيد مقولات كانط كما هي، لكنه يتبنّى صيغة معينة لهذه المواقف. إن قول الحق في وجه السلطة يفترض أن لدينا قدرة دائمة على أن نعرف ما هو الحق والحقيقة، كي نقولهما في وجهها، كما يفترض وجود أنطولوجيا معينة ليس مؤكداً موافقة سعيد عليها. لقد كان إدوارد سعيد سبّاقاً في توظيف أدوات فوكو التحليلية، كي يُظهر لنا بلباقة بارعة أن ما يصوغه الفكر الاستشراقي ـ في كل ما يتعلق بالشرق، على اعتبار أنه نوع من المعرفة الصرفة ـ ما هو إلاّ ضرب من خطاب يقوم على التحكم والسيطرة. وقد نبّهنا سعيد في كتابه "الاستشراق"، إلى صعوبة معرفة الحقيقة من دون علاقات القوة، فهل عاد إلى تبنّي فكرة عن الحقيقة، تجد نفسها خارج علاقات القوة والسيطرة؟

في سياق البحث عن مفهوم الحقيقة، وعندما يجري الحديث عن الحق، يحيلنا سعيد إلى ضرورة "الثبات في مساندة معايير السلوك الدولي ودعم حقوق الإنسان." 13

سعيد يقف هنا في صف كثيرين من المفكرين الذين أولوا العدالة مكانة خاصة في كتاباتهم، وعلى رأسهم إمانويل كانط الذي اعتقد أنه إذا غابت العدالة عن العالم، فلا قيمة لحياة البشر على وجه البسيطة. وفي موقع آخر، يقتبس سعيد، موافقاً، المبدأ القديم الذي يقول: "فلتعمّ العدالة، حتى لو اقتضى الأمر أن يلقى جميع الأوغاد موتهم"، وهي المقولة الموازية للمقولة الشعبية الدارجة عندنا، والتي تقول: "لتعمّ العدالة، حتى لو أطبقت السماء على الأرض."

يعي سعيد تماماً، أنه من المتعذر اليوم الحديث عن الحق والحقيقة بالطريقة نفسها التي جرى الحديث فيها عن هذه المفاهيم قبل 200 عام، بعد انكشاف أوروبا على عوالم وحضارات وأعراق متنوعة. وعليه، فإنه يصوغ نظرية مخففة عن الحق والحقيقة، آخذة في الاعتبار تحولات ما بعد الحداثة، ويكتب في هذا السياق: "ومع أننا محقّون في الحزن على اختفاء الإجماع على مقوِّمات الموضوعية، لكننا لسنا من منطلق مماثل، هائمين كلياً في ذاتية تطلق العنان لأهوائها." 14

يوحي ما سبق بأن سعيد لا يولي ما يكفي من الأهمية للخلافات العميقة جداً في تأويل منظومة حقوق الإنسان وتفسيرها، وأنه يعول عليها وعلى موضوعيتها أكثر ممّا تستحق. إن حق الملكية الفكرية على معادلات صناعة الأدوية يتعارض دائماً مع حق جماهير واسعة من العالم في الصحة والعلاج؛ والحق في حرية التعبير يصطدم بالأمن القومي؛ وحق الاحتجاج والتظاهر يصطدم بحق حرية الحركة؛ وحق الشعوب في تقرير مصيرها وإغلاق حدودها يصطدم بحق الأفراد في الهجرة، والطرق التي يجري فيها تفسير القانون الدولي ومنظومة حقوق الإنسان، هي أكثر إشكالاً ممّا يتخيله أولئك الذين لا يتعاملون بالقانون.

هذه الإشكالات الجدية كلها تجعل من الصعوبة بمكان، الركون إلى وضوح فكرة الحق وسطوعها كموضوع مفروغ منه. غبر أن القضية الأهم والأساسية لا تكمن في صعوبة التقاط ما يمكن اعتباره الحق والحقيقة وتشخيصه، وإنما في كيفية تصرف المرء باعتباره مثقفاً عندما يعتقد أنه يكتشف حقيقة معينة، أو عندما يعتقد أن الموقف الأخلاقي يقتضي منه اتخاذ موقف ما. ماذا عليه أن يعمل عندها؟

في هذه النقطة بالذات، يبدو أن إدوارد سعيد كان جارفاً في موقفه حين جزم بأن النقد سابق دائماً على الولاء، وأن دور المثقف أن يجهر بالحق حتماً، مهما تكن النتائج. لكن هل حقاً يقتصر دور المثقف على قول الحق والحقيقة؟ أليس على المثقف مسؤولية معينة في قول الحق والحقيقة؟ هل واجبه أن يقولهما حتى لو أطبقت السماء على الأرض وانهارت الدنيا؟ هل تنتهي المسؤولية بمجرد قوله الحقيقة والحق؟

يبدو سعيد أميل إلى قبول هذا الدور للمثقف، وهناك كثير من المنطق في هذا الموقف، لأنه موقف لا يقبل المساومة، وهو ينحدر من التراث الكانطي الديونطولوجي (Deontology) الذي لا يُبقي للمرء إمكاناً للمقايضة: بعض الكذب من أجل الكسب المادي؛ سرقة أدوية لمعالجة مريض؛ بعض العنف لتحسين وضع حقوق المواطن في الدولة. قد تبدو الأمور سهلة إلى حد ما، عندما يتنازع قلب المرء وازع أخلاقي ورغبة في الثراء ـ المصلحة أو المنفعة. في هذه الحال، قد يبدو للبعض أن الوازع يجب أن يكون حاداً وواضحاً، من دون إمكان لمقايضة أو مساومة، لكن، قد يمثل أمامنا شخص ليس لدينا شك في نيّاته، وهو لا يسعى لثراء أو منفعة أو مصلحة على الإطلاق، بل يتنازعه في اللحظة نفسها وازعا الأخلاق والمصلحة اللذان يشدانه في عدة اتجاهات:

والد يحار في أن يساعد ابنه مادياً في تعليمه، أو أن يساعد صديقه المريض جداً؛ صحافي مرموق وصلته وثائق تُظهر قائد ثورة شعبه في فضيحة جنسية أو مالية، وإذا تم نشرها قد تقضي على القائد وعلى الثورة ومشروعها؛ صديق يطلب من صديق أن يكذب لأجله كي يساعده في أزمة صحية؛ وزير يطلب من مساعده عدم نشر معلومة معينة يمكن أن يؤدي نشرها إلى الهلع وانهيار البورصة، إلخ.

هناك تيار فلسفي كامل، يقف على رأسه كانط، يعتقد أنه حين نقوم بما يجب أن نقوم به أخلاقياً، فإننا غير مسؤولين عمّا يحدث بعد ذلك. قد تقود الصدف أو الحظ أو الرب، إلى تسلسل أحداث معينة أدت إلى مصيبة ما. لكن، ما دمنا قمنا بما نراه أخلاقياً، وبما توجبه علاقات الحق والعدالة، فلا مسؤولية مباشرة علينا فيما حدث. واجب علينا أن نقوم بما تمليه العدالة ومتطلباتها، وبعد ذلك فإن الأمر متروك للحظ، ولمشيئة القدر والرب. 15

يصف عالم الاجتماع ماكس فيبر في مقالته "السياسة كصنعة"، 16 الفرد الذي يتصرف بموجب هذا المنطق بأنه يعمل بموجب "سياسة القناعات"، أي أنه يختار قناعاته ويعمل بموجبها، كأنها تتحدث من خلاله وهي التي تحرّكه، أو كأنه لا يتحرك ومعدوم الإرادة أمام سطوة هذه القناعات والمبادىء.

هناك رجال سياسة يعملون من أجل تحقيق أهداف سياسية معينة، وقد تكون هذه الأهداف نبيلة وسامية: التحرر من الطغيان؛ إشاعة العدالة؛ رفع مستوى المعيشة؛ التخلص من الإجرام في المجتمع؛ إلخ. وإذا كان دور رجل السياسة أن يسعى لتحقيق هذه الأهداف، فإن دور المثقف الذي يتركز همه على الانتباه اليقظ والدائم لئلا تداس قيم أساسية أُخرى، ليس السعي لتحقيق هذه الأهداف فقط، بل التنبه إلى أن هذا السعي يجب أن يبقى ضمن أصول وضوابط وقواعد تضمن الالتزام بمعايير الحد الأدنى من الأخلاق والعدالة

 

لكن فيبر يحذرنا من هذا الانصياع لقناعاتنا ومبادئنا، ويقدم في مقابل هذا النموذج من العمل في الحيز السياسي العام، نموذج "سياسة المسؤولية" التي تقوم على الوعي التام بأننا مسؤولون عن طريقة توظيفنا لقناعاتنا، وبأنه لا يمكن غسل اليد من النتائج المترتبة عن أفعالنا، حتى إن كانت هذه الأفعال نابعة عن قناعة عميقة وحقيقية، وليس عن رغبة في الكسب أو المنفعة أو الشهرة. فشخص كهذا يمكن أن يبرىء نفسه أمام الله، كونه لم يرتكب خطيئة، ونيّاته كانت جيدة، ولم يسعَ لمنفعة أو مكسب شخصي من أي نوع كان، لكن، ذلك كله لا يعفيه اجتماعياً وسياسياً من تحمّل مسؤولية فعله، حتى إن كان فعله شهماً ومستقيماً ومستمداً من مبادىء نبيلة وسامية.

إن رجل "سياسة المسؤولية" ليس رجلاً لا يملك المبادئ، ولا هو من النوع النفعي الذي يعتبر أن أخلاقيات موقف معين تقاس بموجب كمية المنفعة المتأتية عنه، بل هو الشخص الذي لا يستطيع أن يعفي نفسه ـ في نهاية الأمر ـ من القول: "لقد قمت بما قمت به عن قناعة، ولا شأن لي فيما حدث بعد ذلك من نتائج." وعلى الرغم من مبدئيته، فإن موقف "سياسة القناعات" عندما يوظّف من دون الالتفات إلى النتائج، ربما يستدعي نوعاً من الشخصية الانتهازية التي تسعى للظهور النظيف على حساب تداعيات المواقف المتخذة.

في هذه النقطة، قد يتخذ النقاش بشأن دور المثقف اتجاهاً آخر، ويوضح سعيد موقفه كالتالي:

هناك رجال سياسة يعملون من أجل تحقيق أهداف سياسية معينة، وقد تكون هذه الأهداف نبيلة وسامية: التحرر من الطغيان؛ إشاعة العدالة؛ رفع مستوى المعيشة؛ التخلص من الإجرام في المجتمع؛ رفع المستوى الصحي وتخفيض عدد حالات الوفاة، إلخ. وإذا كان دور رجل السياسة أن يسعى لتحقيق هذه الأهداف، فإن دور المثقف الذي يتركز همه على الانتباه اليقظ والدائم لئلا تداس قيم أساسية أُخرى، ليس السعي لتحقيق هذه الأهداف فقط، بل التنبه إلى أن هذا السعي يجب أن يبقى ضمن أصول وضوابط وقواعد تضمن الالتزام بمعايير الحد الأدنى من الأخلاق والعدالة، أي مجموعة حقوق الإنسان الأساسية.

وعند قبول توزيع الأدوار هذا بين المثقف والسياسي، تطفو بعض الأسئلة على السطح وتبحث عن إجابة. وأحد أهم هذه الأسئلة يتعلق بالطبيعة المختلفة للأدوار:

إذا كان دور رجل السياسة تحقيق الأهداف الجماعية المنشودة، ودور المثقف يقتصر على التقويم والتقييم والمراقبة والنقد، فإن مهنة رجل السياسة (السياسة بمعناها النبيل) تبدو أكثر تعقيداً وشمولاً في نظرتها إلى مجمل الواقع وتركيباته، مقارنة بدور المثقف الذي يبدو محدوداً نسبياً، وسلبياً في ظل عدم اكتراثه بالنتائج المترتبة، واكتفائه بدور النقد والتقييم. قد يكون هذا التقسيم مهماً وضرورياً في المجتمع، فالمثقف لا يملك جيشاً ولا شرطة ولا أموالاً ولا إذاعة، لكنه في المقابل حرّ، وغير ملزم بتحقيق نتائج جماعية أو تقديم تقرير عن إنجازاته إزاء المجتمع. بهذا المعنى، فإنه لا يملك قوة تحت تصرفه لأنه لا يملك مسؤوليات محددة ومهمات واضحة، عدا النقد، بينما يملك رجل السياسة القوة، إلاّ إنه عرضة للمحاسبة على ما حققه من إنجازات جماعية للمجتمع برمته، وهو ليس مثل المثقفين الذين لن يحاسبوا بسبب ارتفاع غلاء المعيشة، والانفلات الأمني، وانهيار البورصة، أو اندلاع حرب غير متوقعة.

 

نحو إعادة ترتيب المفاهيم: المختص، المثقف، السياسي

أشرنا في بداية هذه المقالة إلى أن أحد مآخذ سعيد على نموذج المثقف المعاصر هو خطر الاختصاص، بمعنى أن يحصر المثقف نفسه في إطار بحثه العلمي، وبين جدران مكتبه الجامعي، ملتزماً القواعد الصارمة لبحثه وأجندته البحثية، ومتّبعاً الصرامة العلمية المطلوبة في البحث العلمي الأكاديمي.

وعرضنا أيضاً انتقاد سعيد هذا النوع من المثقفين لانكفائه على نفسه، وعدم قدرته على التواصل مع حقول العلم الأُخرى والانفتاح عليها، وعدم انشغاله بالقضايا التي تهمّ عصره ومجتمعه. كما تطرقنا إلى اتهامه الضمني لهذا المثقف أنه بانكفائه هذا يفضل نوعاً من الأمان.

الشخصي والمادي، على المجازفة والمخاطرة النابعتين من ضرورة اتخاذ المواقف المبدئية الواضحة في قضايا الحياة والمجتمع. إن هذا الحياد الذي يبدو أنه يتسم بالموضوعية هو نوع من الهروب من المسؤولية.

انطلاقاً من هذا، يصير من المرجح الادعاء أن النقد الذي يوجهه سعيد إلى رجل الاختصاص الذي لا شأن له سوى موضوع اختصاصه، حتى إن هبطت السماء إلى الأرض، يوازيه نقد مشابه يستطيع أن يقوم به رجل السياسة تجاه المثقف، كونه يبني مواقفه على "سياسة القناعات" بلغة ماكس فيبر، غير آبه بما فيه الكفاية لما قد تؤول إليه وتسبّبه مواقفه المبدئية.

فمن ناحية، قد يدّعي رجل السياسة أن السياسة بهذا المعنى أسمى ما يمكن أن تتطلبه الأخلاق، لأنها تأخذ كل شيء بعين الاعتبار، ومن ناحية أُخرى، إن رجل الاختصاص العلمي الذي لا يهجر مكتبه ولا يهتم ضمن عمله البحثي بقضايا العالم الكبرى ومشكلاته، قادر على صوغ نقد لدور المثقف السعيدي، يشابه ويوازي النقد الذي يوجهه ذلك المثقف إلى رجل السياسة. فهذا المثقف يحاول وضع جميع الأمور تحت عباءته، وينظر إلى الأمور بشمولية خانقة، لا تترك أي مسافة أو مجال للمساءلة أو النقد.

الانتهازية ليست صفة خاصة بالسياسيين، بل هي صفة عامة أيضاً؛ فمثلما قد يكون السياسي انتهازياً، يمكن للمثقف والخبير المختص أن يكونا كذلك. والاستقامة ليست صفة ملازمة للمثقفين تحديداً، بل ربما تكون صفة للخبراء المختصين ورجال السياسة أيضاً. إلاّ إن معنى الاستقامة وضروراتها في السياسة، تختلف عن ضروراتها ومتطلباتها لدى المثقف ولدى الخبير المختص.

إن دور المثقف لدى سعيد هو إقامة هذه المسافة، والإبقاء على هذا البعد قائماً بين شرعية الأهداف وشرعية الوسائل: فالأهداف السامية والنبيلة لا تستطيع أن تبرر الأدوات غير الأخلاقية وغير العادلة، والأهداف الجماعية للتقدم والتحرر لا تستطيع أن تبرر الأدوات القمعية لكمّ الأفواه ومصادرة الحريات الفردية، وضرورة حفظ الأمن لا تعني زج المواطنين اعتباطاً في السجون من دون محاكمة.

عند هذه النقطة بالتحديد، يستطيع الخبير المختص أن يواجه المثقف بالحجج والادعاءات والاتهامات ذاتها: فدور المختص هو البحث والتعمق والتفحص، وهذا مشروع علمي في الأساس، قبل أن يكون أخلاقياً، أخذاً في الاعتبار أن العلم يحتمل الموضوعية. أمّا الاخلاق فهي دائماً موضوع خلاف ونقاش ووجهات نظر، كما أن زجّها داخل عالم الممارسة العملية يجعلها عرضة للتشويه، ويخضعها لأجندة غير الأجندة العلمية الصارمة التي تسعى لتحقيقها، فضلاً عن أن هناك حاجة مستمرة إلى الإبقاء على مسافة نقدية، بين عملية البحث العلمي وعملية التقييم الأخلاقي الاجتماعي لهذه الممارسة العلمية. وما تدخّل الحزب الشيوعي الروسي في ثلاثينيات القرن الماضي، في الأجندة البحثية للباحثين في علوم الوراثة والبيولوجيا، سوى مثال واحد لهذا الإخضاع القسري. وإذا خضع العلم تماماً لشمولية المشاريع الأخلاقية وكولونياليتها ـ حتى لو كانت سامية ونبيلة ـ فإنه يصبح عرضة لأن يضل طريقه. على العلم أن يبقى قادراً على مفاجأتنا، حتى أخلاقياً، لأن إخضاع العلم لأجندة أخلاقية تقدمية إنسانية قد يؤدي بنا إلى إخفاء نتائج بحثية تتعارض مع مواقفنا الأخلاقية، أو قد يؤدي إلى تبنّي نتائج علمية نعتقد أن اعتناقها أو قبولها علمياً، ربما يساهم في تبنّي المجتمع قيم المساواة والعدالة.

إذا نظرنا إلى الموضوع بهذه الشمولية، سيبدو لنا أن المثقف يقع في منطقة وسطى بين رجل السياسة الذي يدّعي أنه صاحب النظرة الأشمل، ورجل الاختصاص صاحب النظرة الأضيق. كما سننتبه أيضاً، إلى أن نوع النقد الذي يقدمه رجل السياسة للمثقف شبيه بنقد المثقف لرجل الاختصاص. كذلك الأمر من الناحية الأُخرى: إن نقد رجل الاختصاص للمثقف، شبيه بنقد المثقف لرجل السياسة. إن جميع هذه الأدوار تحوي نوعاً من القوة، ونوعاً من الحرية، ونوعاً من المسؤولية، وأينما توجد هذه الأدوار الثلاثة، فإن من الطبيعي والممكن أن يساء استعمالها، وقد نسمي سوء الاستعمال هذا نوعاً من الانتهازية. غير أن الانتهازية ليست صفة خاصة بالسياسيين، بل هي صفة عامة أيضاً؛ فمثلما قد يكون السياسي انتهازياً، يمكن للمثقف والخبير المختص أن يكونا كذلك. والاستقامة ليست صفة ملازمة للمثقفين تحديداً، بل ربما تكون صفة للخبراء المختصين ورجال السياسة أيضاً. إلاّ إن معنى الاستقامة وضروراتها في السياسة، تختلف عن ضروراتها ومتطلباتها لدى المثقف ولدى الخبير المختص.

أمّا معنى الاستقامة وضروراتها في هذه المجالات المتنوعة، فموضوع خارج نطاق هذه الورقة المختصرة، والتي ركزت على تسليط الضوء على فكر إدوارد سعيد، ورؤيته إلى دور المثقف.

 

 

1 المصدر نفسه، ص 52.

2 المصدر نفسه.

3 المصدر نفسه، ص 45.

4 Said, “Secular Criticism”, op.cit., p. 28.

Ibid., p. 15. 5

6 انظر: b-c.462Plato, The Republic, section

في كتابات متأخرة خفف أفلاطون حدة معارضته للملكية الفردية.

7 هذه الأسئلة لا يطرحها أرسطو على الإطلاق، غير أن طريقة معالجته مسألة الملكية الخاصة تتعدى كونها قضية مادية اقتصادية، بل إنها تشير إلى ارتباط المرء بالعالم الخارجي "وتورطه" فيه. والملكية الخاصة وطرق الإدارة والاستثمار التي يتحمل المرء فيها نتائج طريقة إدارته، هي شرط أساسي لنمو الشخصية، وتعلّم المسؤولية، ونمو الفضيلة والأخلاق في الحياة. انظر:

section 1263a. Aristotle, Politics,

8 سعيد، "صور المثقف..."، مصدر سبق ذكره، ص 99.

9 المصدر نفسه، ص 101.

10 انظر: Immanuel Kant, Metaphysics of Morals (Cambridge: Cambridge University press, 1996), p 105.

11 انظر: Immanuel Kant, “Perpetual Peace: A Philosophical Sketch”, in Perpetual Peace and other Essays (Cambridge: Hacket Publishing Company, 1983), p. 133.

12 انظر: Immanuel Kant, “On the Proverb: That May Be True in Theory, But is of no Practical Use”, in Immanuel Kant, Perpetual Peace and other Essays (Cambridge: Hacket Publishing Company, 1983), p. 70.

13 سعيد، "صور المثقف..."، ص 101.

14 المصدر نفسه، ص 102.

15 يعبّر كانط عن هذا الرأي في أكثر من موقع. انظر:kant, Metaphysics of Morals…, op.cit., p. 19.

16 انظر: Max Weber, “Politics as Vocation”, in From Max Weber: Essays in Sociology, edited by Hans Heinrich Gerth and Charles Wright Mills (Oxford: Oxford University Press, 1946), pp. 77-128.

وانظر بصورة خاصة: Ibid., pp. 125-127.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب