news-details

ارتفاع منسوب مخزون العنف في داخلنا

كلما ازداد العنف من اطلاق نار وطوشات وسرقات وحوادث طرق وغيرها من سلاسل العنف التي تحيط بأعناقنا حتى وصلنا الى درجة الاختناق، كلما ازدادت عواصف الاستنكار والشجب والانتقادات، هذا ينتقد ممارسات الشرطة ودورها في ترك الحبل على الغارب في انتشار العنف داخل مدننا وقرانا، وذاك يتهم لجنة المتابعة لأنها لا تحرك ساكنًا من وجهة نظره لمنع حالات العنف المستشري داخل مجتمعنا، وآخر يتهم الاحزاب العربية بأنها عاجزة عن خلق أجيالًا من الشباب مثقفة واعية منضبطة، ومنهم من يتهم أعضاء الكنيست العرب بالمسؤولية عن انتشار العنف كأن أعضاء الكنيست هؤلاء هم الشرطة والقضاء والمدارس والآباء والأمهات والمجتمع بكامله.

الاتهامات التي يرافقها الحزن أحيانًا وانعدام الحيلة وفشة الخلق لا تتوقف، تنطلق هذه كالشرر من بين شفاهنا وصدورنا، لكن لا أحدًا ينظر ويسأل نفسه ما هو دور المواطنين في احتواء ومنع أو على الأقل التخفيف من ممارسة العنف.

نعترف بأن الشرطة لا تقوم بواجبها لمنع ممارسة الارهاب، واذا تعاملت مع هذه الظاهرة فأنها تتعامل معها بمكيالين، المكيال الأول بذل جميع جهودها للبحث عن الجريمة واكتشافها ومحاربة انتشار الاسلحة والحد من تغلغل العصابات الاجرامية في الوسط اليهودي، أما المكيال الثاني فهو التعامل مع الارهاب ومحاربته في الوسط العربي وهي ترتدي القفازات البيضاء المخملية خوفًا من التلوث، منطلقة من أرضية " فخار يطبش بعضه "ومن سقف" حادت عن المجتمع اليهودي بسيطة ". هذا هو حال الشرطة التي تمثل حكومة اليمين التي أبرزت وبشكل فاضح شعارها "الدولة للشعب اليهودي فقط" وما تبقى من سكانها هم من الدرجة الثانية أو الثالثة في كل شيء، حتى في علاج الشرطة لقضايا العنف.

هذا هو قدرنا الذي لم نشارك في اختياره ولم يشاورنا أحد في صنعه، لكن يُطرح السؤال، اذا كانت الحكومة تتعامل معنا ضمن قوانين عنصرية، حتى قبل صدور قانون القومية وبعده، لماذا لا نحارب ممارسات العنف نحن بالسلاح الذي نملكه، سلاح الوعي والايمان، سلاح غريزي داخلي يتجسد بأن يكون كل واحد منا شرطي على نفسه وعلى عائلته، لضبطها ودفعها للسير في الطرق القويمة.

لكن هذا الشرطي لا يتواجد عند الجميع، وان الغالبية من أبناء مجتمعنا، والمجتمعات العربية تحمل جينات من العنف المتوارث من جيل الى جيل، حيث هذه الجينات تبقى نائمة لكنها قابلة لأن تستيقظ بسرعة لأتفه الاسباب كالضغط أو الغضب أو ربما الطمع والفقر والانحلال، انتخابات السلطات المحلية توقظها حيث تتحول الخيار الديمقراطي الى عنف، ازدحام في المواصلات ربما يوقظ هذه الجينات، وسريعًا ما تتحول الى عنف يصل الى درجة القتل، الخلاف على الأرض أو المال أو ما يسمى بالشرف حيث تتحول الجينات الى نيران مشتعلة. تبعات الزواج والطلاق قابلة لفك شيطان الشر القابع في نفوسنا، الضغط السكاني والازدحامات المرورية في بلداتنا، بؤر الشر والفساد قادرة على التحكم وكسر قيود جينات الشر والعنف القابعة داخلنا، انها كالخلايا الارهابية النائمة قابلة لأن تستيقظ في كل لحظة.

هذا من وجهة نظري ليس نتاج يوم وليلة أنه متوارث، العنف يسود مجتمعنا منذ مئات السنين وأكثر، انتقل من العصر الجاهلي الى عصر ما بعد الدعوة الاسلامية، الاسلام بكل ثقلة وقيمه وقوانينه واحكامه، لم يتمكن من القضاء على آفة التعصب القبلي، التي تراجعت وأصبحت تعصب عائلي داخل المجتمعات العربية، لا زالت العشائر بمثابة حكومات داخلية داخل الحكومات المركزية خاصة في العراق وسوريا والجزيرة العربية والسودان ودول شمال افريقيا.

كيف يمكن نزع فتيل العنف من عقول وأدمغة أبناء هذه العشائر، ونحن لا زلنا نتغذى من وحي هذا السلف البعيد القريب.

الخلاف على السلطة داخل امبراطوريات الخلافة الراشدية والأموية والعباسية أغرق البلاد في بحار من الدماء، الانقسامات الطائفية كانت ولا تزال مستنقعًا للعنف، أقباط ومسلمين في مصر سنة وشيعة في العراق، بربر وعرب في الجزائر والمغرب والأمثلة كثيرة.

لم تهدم الصراعات الناتجة عن هذه الانقسامات ولا زال مردودها حتى اليوم ولكن ربما بوتيرة وصورة مختلفة، وكلما قل منسوب هذه الصراعات كانت السلطة المركزية تصب الزيت فوق نيرانها، كما ساهمت القوى الأجنبية أيضًا في اشعال نيران الفتن التي تتحول بسرعة الى عنف تمتد تبعاته مئات السنين، فأثناء الحكم العثماني ساروا على سياسة فرق تسد، فأشعلوا نيران النزاعات الطائفية في لبنان خاصة بين المعنيين والشهابيين، كما كانوا يعملون على اشعال نيران الفتن بين القبائل العربية التي يعود نسبها الى يعرب بن قحطان وتعرف بالقبائل اليمنية، أو عرب الجنوب وبين القبائل التي يعود نسبها الى قيس وهو من نسل اسماعيل وعرفت بالقبائل القيسية أو عرب الشمال، لقد استمر الصراع القيسي اليمني مئات السنين ولم ينته الا بزوال الدولة العثمانية، التي كانت تغذي هذا النزاع.

اذا العنف المستشري اليوم هو امتداد لهذا العنف المتوارث لدى الكثيرين، في الماضي القريب، آخر العهد وفي زمن فترة الانتداب اعتادت القبائل البدوية غزو القرى التي قطنها الفلاحون، كانوا يقتلون وينهبون ما يجدوه أمامهم، ويذكر التاريخ كيف في زمن الانتداب غزت قبيلة بني صخر القادمة من الاردن العديد من قرى الساحل، وقد سجل الكاتب احسان النمر هذا الغزو في كتاب " تاريخ نابلس والبلقاء " الفرق بين العنف بالأمس والعنف اليوم، ربما أن العنف بالأمس كان جماعي، أما اليوم العنف فردي أو ينحصر في مجموعات صغيرة.

الفرق أيضًا ان العنف قبل عشرات السنين كان يحدث دون أن تصل معلومات عنه الى جميع المواطنين، أما اليوم فإن وسائل الاعلام متوفرة، تنتقل سريعًا عبر وسائل الاعلام المتعددة و بالصوت والصورة والوصف الكامل، وهذا يجعلنا نؤمن بأن ظاهرة العنف ليست جديدة في مجتمعنا، بل العنف تطور مع تطور حاجيات الانسان خاصة الحاجات المالية.

من الصعب القضاء على العنف في مجتمعنا دون التخلص من درناته المختبئة في داخل أجسامنا والتي من الممكن في أي لحظة الخروج قاذفة حممها، مشعلة الطريق والأجواء والمجتمع.

لا يمكن القضاء على العنف باتهام الشرطة فقط، أو اتهام مؤسساتنا المختلفة، القضاء على العنف بحاجة الى برامج عمل، بحاجة الى تطوير مفهوم العائلة والتزاماتها ومراقبة الأبناء جيدًا خاصة في هذا العصر المليء بالمغريات، بحاجة الى ربط الاجيال الصاعدة بعجلات المشاريع التي تنمي الروح الانسانية والثقافية والفنية وترفع من القدرات العقلية والتفكيرية، وهنا نسأل أين سلطتنا المحلية من توفير تلك المشاريع، جمعينا نبكي ونستنكر ونرفض ونخرج في المظاهرات، ولكن هل سألنا أنفسنا ماذا قدمت السلطات المحلية لتلك الاجيال لحمايتها من العنف، البلد التي لا يوجد فيها ملاعب رياضية ومكتبة عامة ومعهد موسيقى ومسرح وأماكن تبلور وتطلق مواهب تلك الاجيال وتنبههم لخطورة العنف والانزلاق نحو مستنقعات الدم، من السهولة تسلل العنف الى نفوسهم. لذك ليس بالشعارات نحمي الاجيال ونحارب العنف، وليس بوجود رجال الشرطة نستطيع أن نضمن الامن والامان في مجتمعنا.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب