news-details

الاتحاد متفاعلة ومحرّضة على انتفاضة أيار 58 | حسن مصاروة

في شهر أيار عام 1958 كانت إسرائيل تحتفل بذكرى قيامها العاشرة، أي مرور عشر سنوات على نكبة الشعب الفلسطيني. أما البقية الباقية من هذا الشعب المنكوب داخل وطنه فكان له دور غير مسبوق وأهمية أساسية في هذا الاحتفال العاشوري. إسرائيل وحزبها الحاكم "مباي" كانوا بأمس الحاجة لتبييض صفحتهم أمام الرأي العام العالمي بعد مجزرة كفر قاسم واشتراكهم في العدوان الثلاثي الفاشل على مصر، ولا بُد في عيدها العاشر أن تظهر إسرائيل بـ"أبهى حلّتها" الديمقراطية حيث يتمتع فيها مواطنوها من بقية الشعب المنكوب المسحوقون تحت الحكم العسكري والترهيب الحكومي والسلب والمصادرة، بأرغد أشكال العيش وأصناف السمن والعسل الإسرائيلي. فنشطت في شهر نيسان من ذلك العام الأوساط الحاكمة في إسرائيل متكئة على أعوانها وأزلامها في القرى العربية لإعداد البرامج من أجل إشراك الجماهير العربية في احتفالات ومهرجانات "الاستقلال" بشكل تظاهري غير مسبوق في أي سنة ماضية.

استعملت السلطة كل السبل من ترغيب بواسطة عملائها وترهيب بالملاحقة والفصل من العمل من أجل حشد الجماهير العربية للمشاركة في هذه المسرحية الكبرى، التي كان يجري التحضير لها على قدم وساق من أجل تعزيز الشرعية الإسرائيلية أمام الرأي العام العالمي الدولي في عقدها الأول. الا أن عمال الناصرة كان لديهم خطة أخرى ورسم آخر لأحداث هذا اليوم، وعمال أم الفحم وكفرياسيف وكل الجماهير العربية الباقية في وطنها على امتداد البلاد قالت قولها ووضعت ثقلها وقلبت الموازين وردت عملاء بن غوريون على أعقابهم، وقلبت تلك المسرحية الساعية نحو تأييد شرعية الممارسات الإسرائيلية إلى يوم مشهود في تاريخ الجماهير العربية بل في تاريخ القضية الفلسطينية بأكملها، ليلفت أنظار العالم إلى هذه الجماهير الباقية في وطنها والى هذه القضية النابضة بالحياة.
 

الجماهير العربية رفضت إقامة الأفراح على أنقاض شعبها

كان يستحيل على الجماهير العربية كما عبرت عن مشاعرها الحقيقية في تلك الفترة صحيفة الاتحاد أن تقيم الزينات والأفراح على أنقاض شعبها، وبينما حقوقها القومية واليومية تداس وعشر سنوات مرت على تهجير أبناء شعبهم، فينكر حق إخوانهم اللاجئين في العودة إلى وطنهم، وتفرض عليهم سياسة اضطهاد وتمييز قوميين تحت حكم عسكري ترهيبي، ويحرمون من التنقل بحرية في وطنهم، وتسد سياسة احتلال العمل العنصرية الرزق في وجه عمالهم، ويفرض على مثقفيهم الإرهاب الاقتصادي والسياسي المهين للكرامة، وتَحرم فلاحيهم من أخصب أراضيهم، وتهدم العديد من قراهم بقصد حرمانهم من العودة إليها.

فتتساءل صحيفة الاتحاد في عددها الصادر في الـ15 من نيسان من ذلك العام بالتحديد مستنكرة ومحرضة في آن: "ورغم ازدياد حدة سياسة الاضطهاد القومي، حتى اصطبت بدمنا المسفوح في كفر قاسم وعرب السواعد وسواها، يطلب منا أن نقيم الزينات والأفراح وحلقات الرقص. لكي نقدم بذلك شهادة حسن سلوك لمضطهدينا أمام الرأي العام العالمي والمحلي؟ علينا أن نرفض تبرئة أصحاب سياسة التنكر لحقوقنا، فلن ينالوا منا أي تبرير لمواصلتهم سياسة الاضطهاد القومي الظالمة ولن نبارك استهانتهم بحقوقنا مهما سلطوا علينا من ضغط وإرهاب."

 وتلك الروح الملتهبة أمام محاولة إمعان الدوس على كرامتها صنعت الجماهير العربية بعمالها يومها المشهود وبطولتها الخالدة، ومثل تلك البطولات الخالدة في التاريخ تصنعها بطولات صغيرة يومية قد تنسى من دفاتر المآثر التاريخية، لكنها نابضة بالحياة حتى في الأرشيفات، في زوايا إخبارية مختصرة على جنبات الأعداد القديمة من صحيفة الاتحاد، بطولات صغيرة مثل رفض فرقة كشافة من الشباب في الناصرة المشاركة في الاحتفالات المسرحية وأخرى في شفاعمرو وأخرى في كفر ياسيف، طلاب مدرسة في الناصرة يرفضون المشاركة في المراسيم المدرسية المخصصة لذكرى "الاستقلال" ومعلمون من يافة الناصرة يرفضون الخنوع رغم تهديدهم بالفصل، وأعضاء مجالس وبلديات يزعجون جدول الأعمال السلطوي الذي يحاول وضعه رئيس بلدية ربيب السُلطة في تلك الأيام. كلها بطولات صغيرة تصب متراكمة لصنع مأثرة خالدة سجلت للجماهير العربية أول مواجهة شعبية حقيقية لها مع السلطة نافضة عنها بعضًا من غبار النكبة والخوف والانكسار الذي أورثه ذلك الحكم العسكري الترهيبي المشدد بمجزرة كفر قاسم الدموية قبل سنيتن بالضبط من انتفاضة أيار. الا أن الجماهير مع أنها هي البطل الحقيقي في هذا التاريخ، لكنها لا تُمثل بطلًا أسطوريًا رمزيًا يسير بخطى ثابتة نحو ثورة محتومة يُنفذها وكأنه في استعراض عام، إنّما بطل جماعي يمتزج فيه الجوع والعرق، والدم والخبز، والجرأة وعدم الوعي. لذلك ما كان له أن يسير في انتفاضته تلك ومراكمته الثورية هذه بدون قيادة تنظيم طليعي شعبي ومنظم مثل الحزب الشيوعي آنذاك، وبدون توجيه وتحريض إعلام شعبي ثوري حقيقي يحض على الجرأة ويشد عصب الوعي متمثلًا في صحيفة الاتحاد.

ودور الاتحاد لم يقتصر آنذاك على كونها صحيفة "أمينة" تنقل الأحداث الحقيقية في مواجهة جرائد السلطة والمباي التي تبث الأكاذيب والتحريض على الشيوعيين، بل كانت مثالًا حيًا للإعلام الثوري التحريضي الذي يمتزج بالممارسة الثورية في تشابك عضوي لا ينفصم. كانت الحامل لمشاعر التمرد الصامدة العابرة للحواجز العسكرية وأوامر منع التنقل بين القرى العربية تحت الحكم العسكري، تنقل خبرًا عن اجتماع حزبي في الطيبة إلى شفاعمرو، وعن مهرجان جماهيري في كفرياسيف إلى الجماهير الملتهبة في سخنين، وعن مظاهرة في الناصرة بطشت بها الشرطة إلى الجماهير المتمردة في أم الفحم للتراكم جميعًا في وعي جماعي يزداد تثويرًا يومًا بعد يوم وعددًا بعد الآخر في صنع المأثرة.

كان توزيع الاتحاد في تلك الأثناء فعلًا ثوريًا بحد ذاته، وشكّلت نموذجًا لكيفية تحوّل الأوراق الصحفية إلى قوة مادية بيد الجماهير. وهذا ما أدركته السُلطة فكان أول ما فعلت عشية انتفاضة أيار هو إغلاق منصات توزيع الصحيفة في الناصرة، وهذا ما أدركنه رفيقات الحزب في الناصرة حينما اخترقن مكتب الحزب المغلق بأمر عسكري وهممن في توزيعها. فكتبت الاتحاد في تقريرها عن الأيام التي تبعت الانتفاضة عن كيف قامت أمهات المعتقلين بتوزيع عدد يوم الجمعة من جريدة الاتحاد بأنفسهن: "حيث تلقفته الأيادي بحماس وتأييد في كل مكان، حتى لم تكف ما وصلت من أعداد. وصار القراء الذين استطاعوا الحصول على الجريدة يرجعونها إلى مكتب الاتحاد لإعادة توزيعها على غير المحظوظين".

 كما رصدت الاتحاد في تقريرها الصادر في 9 أيار عن الأجواء السائدة في الناصرة التي سيطر عليها الإرهاب البوليسي وتصاعد الاعتقالات كيف أن "نساء المعتقلين، أمهاتهم، ابناؤهم غير الحزبيين يواصلون كلهم سبيل النضال الشريف، يحملون جريدتهم، الاتحاد، ويبيعونها.. في الناصرة، أصبح اقتناء الاتحاد إحدى وسائل مقاومة الارهاب الحكومي حتى وصلت مبيعات الاتحاد إلى الضعف". وتفاخرت الاتحاد كيف أن والدة أحد الرفاق المطاردين الذي اعتاد أن يوزع الصحيفة وهي تبلغ من العمر سبعين عامًا قامت بإيصال جريدة الاتحاد إلى القراء مكانه. فكتب اميل حبيبي في زاويته الساخرة المذيلة بتوقيع "جهينة" معتذرًا للقراء عن تخليه عن السخرية هذه المرة:  اعذرني أيها القارئ لأني لن اطبع كعادتي ابتسامة التحدي على شفتيك فاليوم أمر. لكني سأرفع رأسك. ارفع رأسك بالوالدة العجوز في السبعين من عمرها، ترتقي الجبال تتوكأ على عصا لتوصل الاتحاد الى قرائها..."


رصد مخططات السلطة والتحريض على انتفاضة أيار

بدأ دور الاتحاد في التحريض على انتفاضة أيار قبل فترة طويلة، حيث امتلأت أعداد نيسان برصد مخططات السلطة بفرض الاحتفالات على الجماهير العربية والتحريض على التمرد عليها وتقريع الخانعين الذين يرضخون للمشاركة وكشف عملاء السلطة العرب الذين يحثون عليها. فكتب اميل حبيبي في العاشر من نيسان ساخرًا في نفس الزاوية: "كان يوم الثلاثاء الماضي يومًا "انقلابيًا" في اسرائيل فقد جرى في أحد المعسكرات تدريب عدد من الشبان العرب على استعمال احدث الأسلحة؛ على اطلاق الصواريخ.. ولا داعي إلى الدهشة لقد وقع الاختيار على عدد من الشبان العرب من الناصرة ومن القرى العربية للتدرب على إطلاق الصواريخ النارية في مهرجانات "العشور".

 واستمرت الصحيفة في هذا الشهر برصد كُل تمرد على مسرحية الاحتفال فنقلت رفض الفرق الكشفية في الناصرة وشفاعمرو ورفض التلاميذ والمعلمين المشاركة في الاحتفالات المدرسية، وأخبار القاعات الفارغة التي أعدّت للاحتفال المشهود ولم يحضرها أحد في يافة الناصرة وكفر ياسيف. ورصدت خيبة تحضيرات السلطة وأعوانها الاحتفالية بمفارقتها الصارخة المثيرة للسخرية والاشمئزاز في القرى العربية في تقرير نشر في عدد 22 نيسان جاء فيه: "أضواء الزينات لا تنير غير الأحجار وحتى الأحجار تصرخ بالنقمة على الاضطهاد القومي.. الأعلام ترفرف  على بيوت بعض المرتزقة في القرى العربية وأضواء الزينات "تنيرها" والمعارض الثقافية تقام لعرض "الإنجازات" وغير هذا يجري الآن في الذكرى العاشرة لقيام دولة اسرائيل ولكن هل يعتقد الحكام انهم يضللون أحدًا، هل يعتقدون أن الزينات تضيئ القلوب وأن القرى الناقمة تتبدل بهذه الانوار؟".

وعشية الأول من أيار يوم المظاهرة المشهود في الناصرة نقلت الاتحاد استعدادات فروع الحزب في الجليل للمشاركة في المظاهرة وكسر طوق الحصار العسكري حيث كتبت: "الجليل يموج بالحماس استعدادا لمظاهرة أيار في الناصرة والشعب العربي سيعرب عن ثقته بتحطيم طوقه وبالانطلاق". ونقلت استعدادات الناصرة لاستقبال المظاهرة والحماس الثوري الذي يخيم عيلها وروح التمرد التي تنمو في أحشائها عشية المظاهرة: "احتفال الاستقلال تغيبه مظاهرة الناصرة القومية.. الناصرة تصرخ بمناشيرها: لن نصفق لسالبي حقوق الشعب العربي وأراضيه ولهادمي قراه". ناقلة انفضاض الجماهير عن الاحتفالات المعدة وانقضاض رفاق الحزب على المناشير الداعية للمظاهرة والتحضيرات لمعركة المواجهة.

رصدت الاتحاد كيف حول بوليس بن غوريون شوارع الناصرة واحياءها الى حرب دامية من الساعات الأولى من يوم الأول من أيّار. ورصدت كيف قام عمال الناصرة وفلاحو قرى الجليل الذين أرادت الحكومة منعهم من التظاهر بتحويل كل زقاق وكل حي في الناصرة إلى مظاهرة تهتف للحرية وحق تقرير المصير ولإرجاع اللاجئين. وكيف ما أن تفرق قوات الشرطة مظاهرة حتى تسير مظاهرة أخرى وكانت الضحايا من العمال والشبيبة. والشرطة تعتقل يمينًا ويسارًا منهم قيادات حزبية مثل اميل حبيبي ورئيس تحرير الاتحاد آنذاك صليبا خميس. وكان المصورون الأجانب الذين أحضرتهم الحكومة ليشهدوا انتصارها في الناصرة يصورون خزي الحكومة وعارها. وحين خرج أعوان السلطة وعملاؤها بأمر مباشر إلى شوارع الناصرة رافعين شعارات تُشيد وتمدح إسرائيل بحراسة الشرطة، تصدّى للمظاهرة أعضاء الحزب ومئات من عمال الناصرة وحطموا الشعارات الخادعة واشتبكوا مع الشرطة الحامية للمظاهرة بالهراوات والحجارة حتى تفرقت مظاهرة العملاء ولم يبقَ الا أعضاء الحزب الشيوعي ومن حولهم في شوارع الناصرة.

 وصلت أنباء البطش البوليسي بحق جماهير الناصرة إلى أم الفحم عبر الاتحاد فعقد اجتماع تظاهري شعبي يوم الثالث من أيار في ساحة حارة المحاجنة، القرار كان تحديا للحاكم العسكري الذي ضرب طوقًا حول أم الفحم وأصدر تعليماته بمنع هذا الاجتماع الشعبي الذي كان من المقرر أن يتحدث فيه النائب الشيوعي توفيق طوبي. دخل النائب الشيوعى توفيق طوبي إلى مدينة أم الفحم متخفيًا، وما أن وقف ليخطب بالناس المتجمهرين حتى هجمت قوات الشرطة على المظاهرة واعتدت بقوة على المتظاهرين، فما كان من كوادر الحزب والشبيبة والجماهير الملتفة حولهم الا أن اشتبكوا بقوة مع الشرطة بالعصي وبالحجارة والتف حولهم جميع أهالي أم الفحم نساءً ورجالًا.

 ظهر الحاكم العسكري ليحاول السيطرة على الوضع فما كان من رفاق الحزب الا أن يمطرونه بالحجارة، فزحف على بطنه زحفًا حتى اختبأ تحت السيارة. البطش البوليسي كان دمويًا عشرات الإصابات ومئات المعتقلين. لخصت صحيفة الاتحاد تلك الأيام المشحونة بالتمرد والثورة والمواجهة في كلمتها المنشورة في 6 أيار: "أرادت الحكومة أن لا يهتف شعبنا مطالبًا بحقوق الشعب العربي الفلسطيني وبإرجاع أبنائه اللاجئين وأردات أن لا يهتف مطالبًا باسترجاع أراضيه وقراه السليبة.. لقد أرادت أن توجه ضربتها إلى قلب شعبنا النابض في مدينة الناصرة ولكنها فشلت.. لقد تجاهلت أن شعبنا تخرج من مدرسة دير ياسين وكفر قاسم وصندلة وسخنين، من مدرسة غرة، من مدرسة تهويد الجليل.. تجاهلت أن شعبنا يقظ موحد وحدته سياسة الاضطهاد طوال عشر وتجاهلت أن سياسة القوة لم تعد تجدي نفعًا. ان صمود شعبنا في الناصرة وأم الفحم وكفر ياسيف وفي وجه أبشع عدوان بوليسي شنته حكومة بنغريون انزل اشد ضربة على سياسة القوة واحتقار حقوق شعبنا وكرامته."


وجُنّ جنون حكومة بن غوريون

جن جنون حكومة بن غوريون كيف قلبت الجماهير العربية بقيادة الشيوعيين مخططاتهم رأسًا على عقب، وأظهرت الجماهير العربية قدرة واستعدادا على المواجهة لم تتوقعها سلطة الترهيب العسكري في أسوأ كوابيسها. فقامت بتصعيد الإرهاب البوليسي وصعّدت من الاعتقالات حتى وصل عدد المعتقلين إلى المئات. فصبّت صحيفة الاتحاد جل تركيزها ومواردها على متابعة قضايا المعتقلين، تنشر كل الأسماء التي تتوصل إليها وترصد الانتهاكات القانونية بحقهم وأحداث التعذيب التي يتعرضون لها داخل السجون في تواصل مباشر مع محامي الشعب حنا نقارة الذي كان المسؤول عن متابعة الملف. وحولت صفحاتها إلى منبر لتطمين أهالي المعتقلين والتحشيد حول قضيتهم، بل إلى منبر لرفع معنويات المعتقلين أنفسهم الذين يمكن أن تصلهم الجريدة بشكل أو بآخر. ومن شواهد ذلك المثيرة للمشاعر، إعلان وضع على الصفحة الأولى من عدد الـ9 من أيار جاء فيه: "ليطمئن المعتقل أمين رزق..صباح أمس الخميس وضعت السيدة وداد رزق زوجة الرفيق أمين رزق المعتقل في سجن الجلمة ولدًا ذكرًا وهي والمولود بصحة جيدة.. تهانينا". وحينما حاولت السلطة التضييق على المعتقلين وذويهم بواسطة حصارهم ومنعهم من العمل وسد باب معيشتهم قدمت الاتحاد مع الحزب الشيوعي درسًا في التضامن الجماهير، فأطلقا حملة تبرعات لذوي المعتقلين لمساندتهم في مواجهة حصار المؤسسة، وخصّصت الاتحاد صفحاتها إلى الدعوات لجمع التبرعات، بل تحولت مكاتب الاتحاد نفسها إلى مراكز جمع التبرعات وتوزيعها في مشاركة فعلية وحقيقية في شد عضد المعتقلين وذويهم المحاصرين.

ولأن الاتحاد ليست مجرد راصد اخباري بل هي منبر لصهر الوعي الثوري، فقد حرصت بواسطة كلماتها وتقاريرها وشعارتها ومقالات كتابها أن تعطي لهذه الانتفاضة في كل مراحل تطورها بعدًا سياسيًا ثوريًا في سياق أوسع من الناصرة وأم الفحم وكفر ياسيف. فهذه الجماهير التي نفضت عنها غبار الخوف وعزمت على المواجه ليست مفصولة بالتأكيد عن شعبها الفلسطيني وقضاياه وعلى رأسها قضية لاجئيه وحقه في تقرير مصيره، فلم يغلب على المظاهرة العمالية في الناصرة أي طابع يومي حقوقي ضيق، بل اتسعت ليغلب عليها الطابع القومي الذي يرسخ مواجهة حقيقية في ذكرى النكبة العاشرة، التي كان المراد منها أن تتحول إلى احتفال "استقلال" إسرائيل، مع منطق النكبة نفسها ومع نتائجها الكارثية من تهجير وقمع وقهر قومي وتهويد استيطاني وسلب أراضي استعماري. بل حرصت أدبيات الاتحاد في تلك الفترة أن تربط بين ما يجري في الناصرة من تصاعد روح التمرد بما يجري في العالم العربي وفي الشرق اجمالًا. فالجماهير العربية الباقية في وطنها هي جزء من الشعب الفلسطيني المشرد الباحث عن حقه في العودة وتقرير المصير وهي جزء من عالم عربي ممتد من المحيط إلى الخليج يشب هو الآخر في تلك السنوات عن طوق الاستعمار فيوجه الضربة تلو الضربة للاستعمار الفرنسي في الجزائر ويكنس الاستعمار البريطاني في مصر ويؤمم قناة السويس ويهزم العدوان الاستعماري الثلاثي، وجزء من شرق ملتهب بجمرة التحرر الوطني وتصفية الإمبريالية يوجه ضرباته لها في معركة ديان بيان فو في فيتنام.

كان لا بدّ أن نلاحظ حين نراجع أدبيات الاتحاد في تلك السنوات وتلك الأشهر بالذات في أيام أيار 58 كيف أنها مدت جسرًا ملتهبًا بتوق التحرر والتمرد من الناصرة وأم الفحم إلى الجزائر والقاهرة والسويس وهانوي. ليكتسب هذا اليوم الذي صنعه كادحو الجماهير العربية بعدًا سياسيًا  ثوريًا متقدًا زرعته في تراب أيار 58 ليزهر بمراكمة وراء المراكمة في آذار 76 صانعًا مأثرة يوم الأرض الخالد ومحطات نضالية مشهودة للجماهير العربية، وتحولًا متراكمًا مستمرًا على مستوى الوعي الوطني والطبقي وتطورًا في القدرة والاستعداد للمواجهة الكفاحية الدائمة.

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب