news-details

الاتحاد – تنفع الناس فتمكث في الارض

الاتحاد جريدة شعب..وحاضنة الطبقة العاملة الفلسطينية الصاعدة!

لم تصدر الاتحاد في العام 1944 بفعل الصدفة أو بفعل نزوة طارئة ولا بدافع طموح شخصي او كسب تجاري وانما كحاجة موضوعية تعكس التحولات الطبقية المتسارعة والكبيرة في فلسطين مع بداية أربعينيات القرن العشرين في ظل الحرب العالمية الثانية، وشكلت الاتحاد مكوّنا عضوياً في هذه التحولات، ونتيجة محتمة لنشوء حركة عمالية عربية في فلسطين أخذ يبرزحضورها ويكتمل تبلورها على الارض بكونها قوة اجتماعية صاعدة وواعدة، تبشر بحالة جديدة. كان من شأن تعاظم حضور الطبقة العاملة العربية في فلسطين، أن يحدث نقلة نوعية في طابع نضال الشعب الفلسطيني وبنيته الطبقية تتطلب خلق أدوات جديدة لنشر وعي وطني وطبقي جديد وبلورة ثقافة سياسية واجتماعية تقدمية من طراز جديد، تعكس التحولات الطبقية الكبرى وتكشف أبعاد بروز الطبقة العاملة العربية الفلسطينية وازدياد ثقلها كلاعب مركزي في المعادلات الاجتماعية والسياسية.

في هذه المرحلة التاريخية صدرت الاتحاد عن عصبة التحرر الوطني وكان صاحبها ومحررها المسؤول القائد المؤسس في العصبة إميل توما،لتكون جزءا فاعلا من هذا التحول وأداة كفاحية في يد الطبقة العاملة الفلسطينية، ليست راصدا للأحداث فقط، بل شريكا فاعلا فيها، مجاهرا بانتمائه الى الطبقة العاملة والجماهير الشعبية ومحرضا على الكفاح الوطني معتبرة "أن نصر الطبقة العاملة والانتصار لها يتميز بأنه نصر عام يشمل الأمة بأسرها وينتصر لها".

في عددها الاول في 15 أيار 1944 عرضت الاتحاد هويتها الطبقية ومهمتها الوطنية التقدمية بوضوح : "هذه جريدتنا، جريدة العمال العرب، أول جريدة تنطق بلسانهم، جريدة شعبية تدافع عن مصالح الشعب وتعّبر عن أمانيه، ومن كان ناطقا بلسان العمال العرب في فلسطين، فهو ناطق بلسان جماهير الشعب الكادحة".

و يعتمد مشروع الاتحاد بهذا المعنى على قراءة التاريخ، من خلال رصد نضال الجماهير الشعبية والطبقات الشعبية الفلاحية والعمالية المسحوقة والمثقفين الثوريين والعاطلين عن العمل الذين تجاهلهم المؤرخون البرجوازيون وأهملوا مصالحهم وطموحاتهم وروايتهم الاجتماعية والوطنية، وهي الشرائح والطبقات التي شكلت تاريخيا وقود الصراع، فجاءت الاتحاد لترصد منطلقاتهم ومصالحهم الوطنية والطبقية في المواجهة مع الاستعمار والصهيونية ودعاماتها الرجعية العربية في المنطقة.

واعتبرت الاتحاد على صدر عددها الاول: "هذه جريدتنا إحدى نتائج حركتنا العمالية، تستوحي سياستها وخطتها العامة من نضال العمال اليومي لتحسين أحوالهم الاقتصادية ورفع مستواهم الثقافي والاجتماعي، سوف تكون خير أداة لتوحيد جهدهم وجمع كلمتهم ولم شملهم في وحدة كاملة".

 

تحولات بنيوية كبيرة وبروز الطبقة العاملة العربية.. لماذا بداية الأربعينيات؟

حصل هذا التحول الطبقي على خلفية اضطرار الامبريالية البريطانية وهي تعد امبراطوريتها للحرب العالمية الثانية الى التخلي عن سياستها التقليدية تجاه فلسطين وشعبها، ففي حين عملت سلطات الانتداب خلال عقود من استعمار فلسطين على تشريع القوانين الاستعمارية لمنع قيام صناعات واقتصاد عربي متطور في فلسطين وبذلك حدّت من ظهور حركة عمالية قوية وفاعلة، فقد قصرت حكومة الانتداب الاستثمارات الكبيرة وتطوير المرافق، والاقتصاد المتطور والصناعات المتقدمة وشركة الكهرباء على الاقتصاد الصهيوني الاستيطاني في الييشوف فقط، في إطار مهمتها لإقامة "وطن قومي"لليهود في فلسطين، إلا أن خوف بريطانيا قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية من أن تقطع عليها دول المحور، وخصوصا ألمانيا وإيطاليا طرق نقل العتاد والإمدادات والجنود عبر البحر المتوسط، جعلها تغير استراتيجيتها وتقرر بناء اقتصاد يقوم على الاكتفاء الذاتي في فلسطين والمنطقة العربية يخدم حاجات الامبراطورية الاستعمارية شرق المتوسط من دون الاعتماد مباشرة على نقلها من بريطانيا، فاتسع بناء المصانع ومعسكرات الجيش في فلسطين، وتجهيز ما يتبعها من قاعدة لوجستية وورشات بناء وشق الطرق والكراجات، ومصانع الاكل وتوسيع البنى التحتية لوسائط النقل، واتساع الحاجة الى الخدمات والعمل في مصافي النفط ومد الانابيب، وانعكس هذا التطور في تعاظم حجم الطبقة العاملة العربية بشكل متسارع، والمكونة من جماهير فلاحية من الريف الفلسطيني بدأت تأخذ طريقها الى أماكن العمل في المدن والبلدات المركزية، في عملية برتلة (التحول الى بروليتاريا) كبيرة ومتسارعة، خلقت طبقة عاملة أكبر مما كانت في فلسطين في اي يوم، واكبر مما كان من الممكن ان يتطور بشكل طبيعي وفي ظروف طبيعية متدرجة، وقد دفع هذا التطور بالطبقة العاملة الى مقدمة الحلبة السياسية والاجتماعية.

إن نشوء الطبقة العاملة الفلسطينية خلق معه بشكل أصيل، الحاجة الى تنظيمات عمالية نقابية تكون نداً وبديلا للنقابات الصهيونية الفاعلة في الييشوف اليهودي وفي صلبها الهستدروت التي شكلت عاملا مؤسساً في المشروع الصهيوني أكثر من كونها موجِّهاً ثورياً أو حتى نقابيا ومطلبياً للطبقة العاملة وتكون بديلا عن تنظيمات نقابية يمينية شكلت ذراعا للقيادة الفلسطينية التقليدية التي احتقرت الحركة العمالية وتعاملت بعداء مع مطالبها ونضالاتها.

وهكذا نشأ تنظيم شيوعي عربي نابع من واقع الشعب العربي الفلسطيني في قلب معركته الوطنية التحررية، ونابع عن مواجهة همومه الطبقية تمثل في عصبة التحرر الوطني ومؤتمر العمال العرب. ويصف توفيق طوبي وهو أحد القادة المؤسسين لعصبة التحرر الوطني هذا التطور بقوله :"وتميزت تلك الفترة ببناء المنشآت المختلفة لمتطلبات المجهود البريطاني. وكانت حيفا وضواحيها قاعدة هامة لهذا المجهود اجتذبت عشرات آلاف العمال من القرى القريبة والبعيدة التي تدفقت الى منشآت البترول والقواعد الحربية ومنشآت الجيش البريطاني والصناعة التابعة. وكان الاتجاه الطبيعي لجماهير العمال الاندفاع نحو التنظيم دفاعا عن حقوقهم."

 

ترخيص "الاتحاد".. وانتزاع حرية التعبير والتنظيم من شدقي المستعمر!

لم يكن مفهوماً ضمناً أن تحصل الاتحاد – صوت الطبقة العاملة العربية المنظمة ولسانها الثوري في فلسطين على ترخيص من حكومة الانتداب في العام 1944، لتصبح جريدة الشعب وحاضنة الطبقة العاملة ورأس حربتها في خلق مفهوم ثوري متميز وجديد لمعركة التحرر الوطني الفلسطينية قوامه التناقض المطلق والصدام المباشر الأساسي مع الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية ومشاريعها جميعها معا، وكل واحدة منها على حدة، ولتطرح فكرها واستراتيجيتها الديمقراطية التقدمية بديلا عن مفاهيم القيادة التقليدية ومفاهيم الرجعية العربية المتمثلة بجامعة الدول العربية والنظام العربي الرسمي الخاضع في غالبيته للاستعمار، وهو نظام أراد أن ينقذ فلسطين من الاستعمار البريطاني من خلال استرضائه والمنافسة على طلب وده لا مواجهته. لقد جاءت الاتحاد لتقلب المفاهيم وتقلب المعادلات وتقلب الطاولة على رأس مشاريع الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية منذ صدرت وحتى يومنا هذا.

ومن اللافت أنه بعد عقود اضطرت فيها الحركة الشيوعية والتقدمية أن تلجأ الى العمل السري وأن تصدر أدبياتها وصحفها وتوزعها في الخفاء استطاعت عصبة التحرر الوطني ان تنتزع من حكومة الانتداب ترخيص الجريدة الاتحاد بهويتها الواضحة وانتمائها الطبقي والفكري والسياسي الثوري المعلن، وذلك اعتماداً على عاملين اثنين:

  1. بروز قوة الاتحاد السوفييتي كقوة عالمية خلعت أنياب الوحش الفاشي في ستالينغراد وعلى ابواب موسكو وليننغراد.. ودور الجيش الأحمر في النصر الحاسم على النازية. وتراجع الانتداب البريطاني عن ملاحقة الشيوعيين وإتاحة بعض الحريات لهم في ظل التحالف مع الاتحاد السوفييتي في الحرب مع المانيا النازية، العدو المشترك.

2- تعاظم وزن الطبقة العاملة ودور عصبة التحرر الوطني في تنظيم الطبقة العاملة وتحولها الى قوة كفاحية ذات وزن لافت، لا يجوز تجاهل صوتها ومصالحها وأمانيها.

التفتت الاتحاد الى هذه الحقيقة وخلقت مفهوما جديدا للالتزام الطبقي والوطني يقوم على الانغماس الكامل مع طلائع الطبقة العاملة المنظمة والجماهير الشعبية المكافحة، في حمل هموم الناس ونشر الوعي الطبقي والوطني الثوري والتقدمي، فلم تكتف بالحديث الى الطبقة العاملة وعنها بل جعلت الطبقة العاملة تتحدث عن نفسها وهمومها وطموحاتها.

وكما يليق بجريدة ثورية كتبت الاتحاد في عددها الاول بشأن ترخيصها :

"إن الاتحاد تعتبر هذا الترخيص انتصاراً أحرزته الحركة العمالية العربية، ولذا فهي تود من جميع المنظمات العمالية العربية أن تشترك في تحرير هذه الجريدة، لتخرج جامعة عاكسة لمشاكل العمال العرب ومدافعة عن مصالحهم الحيوية. والاتحاد ترى أن الطريقة العملية التي تؤّمن هذا الاشتراك تأتي عن طريق إرسال مندوبين عن منظمات العمال العرب، يجتمعون من وقت لآخر لتقرير السياسة العامة التي يجب أن تتمشى بحسبها الاتحاد. هذا عدا عن الأخبار والمقالات التي سترسلها تلك المنظمات للاتحاد لنشرها على صفحاتها مستهدفة تقوية العمال في نضالهم، لذلك نأمل منكم انتداب من ينوب عنكم للاشتراك في هيئة تحرير الجريدة."

إن مثل هذا التفاعل بين الجريدة وبين من جاءت لتحمل همهم، بين التنظيم السياسي وبين القوى التي تطمح الى الدفاع عن مصالحها وتمثيل أمانيها تشكل خارطة الجينات السياسية للممارسة الثورية الحقيقية.. فالاتحاد بقيت في الارض، لأنها تنفع الناس.. وتثق بهم ويثقون بها وتتفاعل معهم ويتفاعلون معها.. ليس هذا حديثا في الماضي وانما حديثا عن المستقبل...

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب