news-details

 البرتقالة المشطورة: يافا فوّاحة الشعر وأندروميدا الشّعراء

 للمكان أهمية خاصّة في الإبداع الشعري والتشييد التخييليّ،فقد عرّفه الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار في كتابه الموسوم بالإنكليزية The Poetics of Space والذي ترجمه إلى العربية الكاتب غالب هلسا تحت عنوان "جماليات المكان" بأنّه "المكان الأليف. وذالك هو البيت الذي ولدنا فيه، أي بيت الطفولة.إنّه المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكّل فيه خيالنا". 

وللشعراء العرب وبشكل خاصّ أحمد عبد المعطي حجازيّ والسيّاب وعبد الوهاب البياتي وأدونيس ونزار قبانيّ، موقف صداميّ ورفضيّ من المدينة، وذاك بتأثير شعراء وأدباء الغرب أمثال ت.س. إليوت الذي نعت مدينة لندن بعد الحرب العالمية الأولى بالانحلال، وشبّهها بـ "مستودع تعلّب فيه عظام الموتى". ويعتبر الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي من أكثر الشعراء العرب صداما مع مدينته القاهرة، فقد أفرد لها ديوانا خاصا "مدينة بلا قلب" -1959، ووصفها بتمازج الأضواء والجدران قائلا: 

 يا ويله من لم يصادف غير شمسها /غير البناء والسّياج، والبناء والسياج غير المربّعات، والمثلثات، والزجاج.

وحين طرد من غرفته لأنه ذاك القروي الذي لا يملك النقود، قال:

 لا لن أعود / لا لن أعود ثانيا بلا نقود /يا قاهرة ! / أيا قبابا متخمات قاعده / يا مئذنات ملحده / يا كافره / أنا هنا لا شيء، كالموتى، كرؤيا عابره.

 

يافا أندروميدا الشعراء 

وفق الميثولوجيا اليونانية أندروميدا هي ابنة كيفاوس، وقد تباهت أمّها كاسيوبيا أنّ ابنتها اجمل من حوريات البحر بنات نيريوس، فغضب وشكاها إلى إله البحر بوسيدون فأرسل هذا طوفانا وأفعوانا بحريا لتدمير أثيوبيا. وقد ربطت أندروميدا الجميلة إلى صخرة في شاطئ يافا قربانا لترويض الأفعوان البحريّ وإنقاذ أثيوبيا، وقبل أن يخطفها الأفعوان البحريّ، حدث أنّ برسيوس ابن زيوس كان طائرا فوق شاطئ يافا، بعد عودته من قطع رأس ميدوزا التي بنظرتها تحوّل الناس إلى حجارة، فهبط إليها وفكّها من السلاسل وتزوّجها.

إنّ يافا هي مدينة شعرية وهمية وتخييلية، منثورة بالنّجوم وبيّارات البرتقال وهي من أكثر المدن حضورا في المتخيّل الشعريّ العربيّ عامة والفلسطينيّ خاصّة، لأنّها كانت أهمّ المدن الفلسطينية، ومركز إشعاع ثقافيّ وسياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ، وميدانا للحداثة، ولأنّها ترمز في الذاكرة الجماعية إلى ضياع وطن وتهجير شعب. وقد لقبّها الشّعراء قبل النكبة بـ "عروس فلسطين" و "عروس البحر" و "عروس الشاطئ" و "مدينة الزهور" و "يافا الجميلة" و "الأرض الطيّبة" و "واحة أفلتت من الجنّة" و "فوّاحة الشّذى". لكنّها أصبحت بعد العام 1948 تلقّب بـ "الفردوس المفقود" و "أرض البرتقال الحزين". كانت البرتقالة رمزها، حيث كانت تصدّر سنويا في ثلاثينيات القرن العشرين، عشرات الملايين من صناديق البرتقال.

وليافا في التشكيل الشّعريّ صورتان نقيضتان، واحدة قبل النكبة تتمثّل بفسيفساء جميلة مركّبة من "برج السّاعة" و "الميناء" وأحياء "المنشية" و"النزهة" و "البصّة" وشوارع "العجميّ" و إسكندر عوض وجمال باشا والملك جورج و"الفنار" و قناطر بيوت حجر، وقرميد، و بيّارات برتقال وفلّاحين، وشاطئ جميل وميناء وأمواج ونوارس، وقوارب وسفن وبحّارة وصيّادين وأصداف ورمال، وأعراس وسهرات وكواعب، وأزهار فوّاحة الشّذى. ومن النماذج الشعرية التي 

 تدعم هذه الصورة "زهرة البرتقال" للشّاعر الفلسطينيّ حسن البحيريّ (1919-1998 )،التي يقول فيها:

 أتسأل عن زهرة البرتقال / عن السرّ في سحر إزهارها / عن الفجر يوقف ركب الصباح / ليقبس فتنة أنوارها / عن العطر تسكب منه النجوم / سلاف الدّنان لسمّارها 

 وقصيدة " يافا الجميلة" للشاعر العراقيّ محمّد مهديّ الجواهريّ (1997-1900 ) الذي زار

يافا في النّصف الأوّل من أربعينيات القرن الماضي، بتكلفة من هيئة الإذاعة البريطانية وألقاها في (النادي العربي)، ومما قال فيها:

و"بيّاراتها" ضربت نطاقا يخطّطها كما رسم الكتاب / فقلت وقد أخذت بسحر "يافا" وأتراب ليافا تستطاب / "فلسطين" ونعم الأم، هذي بناتك كلّها خود كعاب.

وكان الجواهري قد كتب في كتابه "ذكرياتي" –الجزء الأوّل حول زيارته ليافا "لقد كانت رحلة من رحلات العمر التي لا تنسى، مع هذا - وسامحوني- أن أقول يا ليتني لم أر (فلسطين الجنة)، ولو أنّ وشيجتي بها كانت وشيجة (بشار بن برد) بالأشياء والعوالم، بالأذن لا بالعين فلكان ذلك أفضل ولكان وقع الفاجعة علي أقلّ". وعند محمود درويش، في أشعاره المكتوبة قيل الخروج، في الستينيات، في قصيدة "خلف الأسلاك" ترسم يافا بلون رومنسي ومناخ نوستلجي، مزارا مقدّسا مطرّزا بالبيارات وعابقا بمواسم الأعراس:

أحجّ إليك يا يافا / معي أعراس بيّاره / فناديها عن الميناء/ عن الميناء.. ناديها

وشدّيني وشدّيها / إلى أوتار قيثاره / لنحيي سهرة الحاره/ وشوق الحبّ للحناء !

وصورة ثانية بعد النكبة، تصوّر فيها يافا، مكانا مفقودا ومسلوبا من أهله، مسكونا بالهدم والخراب ومسفوعا بالفجيعة وأسراب السنونو، من خلال مزامير مترعة بالحسرة والمرارة الكاوية ومحبّرة بالدموع وعصير الشّوق، فتصبح مدينة مشتهاة، ترحل إليها العيون والقلوب، من الشّتات والمنفى القسريّ، بينما تبقى الأجساد تنوب حولها عبثا. كما في "المهزلة العربية" لمحمود الحوت حيث يقول: 

يافا،لقد جفّ دمعي فانتحبت دما /متى أراك ؟ وهل في العمر من أمد ؟ /أمسي،وأصبح،والذكرى مجدّدة / محمولة في طوايا النفس للأبد.

في قصيدة "الحب...والجيتو" لراشد حسين (1936-1977)، فقد تحوّلت من مدينة تصدّر البرتقال، إلى مدينة تصدّر اللاجئين: يافا - لمن يجهلها- كانت مدينة / مهنتها تصدير برتقال / وذات يوم هدمت..وحوّلوا / مهنتها. تصدير لاجئين.

وفي قصيدة "العرب اللاجئون" للشاعر العراقيّ، عبد الوهاب البياتي (1926-1999) تحوّلت يافا من بيّارة برتقال مميّز وأثير، إلى إعلان تجاريّ صغير، كتب باللغة الإنكليزية بكلمة Jaffa، يلصق على حبّات البرتقال، التي تصدّر إلى أوروبا، لكن بهويّة وماركة مختلفتين، عمّا كان قبل النكبة:

يا من رأى "يافا" بإعلان صغير في بلاد الآخرين / يافا على صندوق ليمون معفّرة الجبين

يا من يدقّ الباب / نحن اللاجئين / متنا / وما " يافا" سوى إعلان ليمون / فلا تقلق عظام الميتين.

وفي ديوان "المبحرون الى يافا" للشاعر هارون هاشم رشيد، ثلاث عشرة قصيدة حب يافية. وخاتمة الديوان قصيدة كتبها العام 1996 حين أتى مدينة يافا ووقف في حي العجمي أمام بيت زوجته الكاتبة مروة أديب جبر، وقال:

يمد البيت أذرعه/ بشوق دافق عرم / يقول حبيبتي ولدت/ هنا، كالضوء كالنسم / هنا "يافا" عروس البحر/ درته من القدم / هنا "يافا" التي ما مثلها / في الكون،.. في الأمم / هنا "يافا" التي كم / ألهمتني، ألهمت قلمي / هنا "يافا" ويعلو الموج / يعلو، رائع النغم.

 كما تعتبر قصيدته "مع الغرباء" التي تغنيها المطربة فيروز، المكتوبة عام 1951 من أجمل ما كتب في يافا، لحرارتها المترعة بالدموع السخينة وجمال صورها وصدق مشاعرها الطفولية، حيث يقول فيها على لسان "ليلى اليافية"، التي طوحت بها رياح النكبة، إلى مخيم "البريج":

أبي... / قل لي بحق الله / هل نأتي الى يافا؟ / فأن خيالها المحبوب/ في عيني قد طافا

ويافا عند الشاعر الذي لم يعش فيها فيزيقيا تتراءى مكانا افتراضيا مشتهى، يتكئ عليه للبوح 

 عن الفقدان والتيه والمرارة، فهي عند نزار قباني "بقعة غالية الحجار" وهي عند عبد الوهاب البياتي أربعة حروف لاتينية (جافا) مطبوعة على حبّة برتقال بماركة غريبة،وهي فداء وصلب، أي أنّها حيّز مكانيّ صغير وضيّق. يقول نزار في قصيدة "راشيل شوارزنبرغ":

أكتب للصغار/ أكتب عن يافا وعن مرفئها القديم / عن بقعة غالية الحجار.

ويقول عبد الوهاب البياتي:

(يافا) يسوعك في القيود/ عار، تمزّقه الخناجر، عبر صلبان الحدود / وعلى قبابك غيمة تبكي / وخفّاش يطير.

بينما عند أدونيس في قصيدة "مقدّمة لتاريخ ملوك الطوائف" تشكّل يافا ثنائية من اليوتوبيا - اللامكان ونقيضه المكان. كما تأخذ معنى كونيا ورمزا ومدلولا شموليا، فهي رمز للدمّ النازف من خاصرة العالم، وهي رمز لكلّ إنسان منفيّ ومشرّد عن بيته وبيّارته، وهي رمز للرفض:

غير أنّ النّهر المذبوح يجري / كلّ ماء وجه يافا / كلّ جرح وجه يافا /والملايين التي تصرخ: كلا، وجه يافا.

ويافا عند الشّعراء أبنائها، الذين عاشوا فيها فيزيقيا تشكّل أيقونة حب وصومعة قداسة ومكانا مسنودا بمداميك جميع الحواس، وبسبب فقدانه بقي مستعادا في تلافيف الذاكرة، مجسّدا مقولة إدوارد سعيد في سيرته " خارج المكان" المكان هو الحقيقة الثابتة في مخيّلة الفرد ويافا البرتقالة المشطورة أصبحت في قاموس الشعراء هوية وأغنية وقصيدة.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب