news-details

التراجع النسبي بعدد ضحايا حوادث العمل في 2020 لم يخفّف من كارثيّة الوضع| طارق ياسين

يحتلّ الغضبُ حيزًا واضحًا بين عائلات ضحايا حوادث العمل والمصابين، ويكون عادةً جلد الذات وتحميل العمال المسؤوليّة وطائلة "الحفاظ على النفس" طاغيًا على الجميع، أصواتٌ قليلة صادقة ببساطتها وعدم فلسفتها للأمور تنجح بوضع الإصبع على الجرح: التنافس الجشع لا يترك مجالًا لأخذ الاحتياطات اللازمة، السير حسب تعليمات الوقاية يعني بشكل تلقائي خسارة ورشات كاملة وزبائن من كبرى الشركات، أيام عمل إضافيّة ومصاريف باهظة للسفريات، الطعام وأجر إضافي للعمال.

لقد شهدت ورشات العمل والبناء في العام الجاري سقوط العشرات من الضحايا وازدياد مجزرة حوادث العمل القاتلة التي تجبي حياة العشرات سنويًا، فمنذ مطلع العام الجاري فقد 67 عاملًا على الأقل حياتهم نتيجة لحوادث عمل منهم 33 عاملًا في فرع البناء، وذلك بالإضافة إلى عشرات الاف حوادث العمل المسجّلة سنويًا منها مئات الإصابات الخطيرة.

على الرغم من الرقم المرتفع والكارثي لعدد الضحايا هذا العام، إلا انه تم فعليًا تسجيل تراجع معيّن في عدد الإصابات والقتلى نسبة لعام 2019 الذي شهد ذروة في عدد الحوادث والضحايا خلال العقدين الأخيرين، حيث فقد 91 عاملًا حياتهم في حوادث عمل بينهم 44 عاملًا في ورشات البناء معظمهم من العمّال الفلسطينيين والأجانب.

لقد سجّل العام الجاري انخفاضًا في الإصابات دون علاقة بجائحة كورونا، حيث سجّل فرع البناء تراجعًا بعدد القتلى من 46 قتيلًا في العام الماضي إلى 33 قتيلًا هذا العام، الفرع الذي تمّ استثناؤه من تقييدات منع انتشار الوباء واستمر بعمله كالمعتاد، ليس بسبب تجاوز الفيروس لهذا الفرع أو عدم عدوى العاملين فيه، بل لأن هذا الفرع هو الحلقة الأضعف في سوق العمل، فمعظم العاملين فيه هم من الأقلية العربية في البلاد أو من أخوتهم الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، طبعًا بالإضافة إلى التأثير "الكارثي" على أرباح الشركات الرأسماليّة في حال إيقاف العمل في هذا الفرع.

ويشهد تقرير خاص لوزارة العمل والرفاه ملخصًا النصف الأول من العام الجاري تراجعًا في حوادث العمل حيث لقي 13 عاملًا في فرع البناء مصرعهم مقارنة بمصرع 23 عاملًا في الفترة ذاتها من العام 2019 (تراجع بنسبة 44%).

 

عام 2020- إخفاقات وتطورات

افتتح العام الجاري بتقاعس مخيف للحكومة وسلطاتها بكل ما يتعلّق في محاربة حوادث العمل حيث كشفت صحيفة "هآرتس" في تقرير موسع لها عن تراجع الحكومة عن مشروع محاربة "الإهمال في ورشات البناء" وإيقافه بشكل سرّي بعد أربعة اشهرٍ من إطلاقه، المشروع الذي تفاخرت به وزارة العمل والرفاه ووزيرها المتهم بالفساد حاييم كاتس، حيث فشلت معظم الخطوات التي تمّ الإعلان عنها مثل إطالة غرامات مالية "باهظة" على المقاولين، زيادة الرقابة وتغيير السقالات.

ولكن في نهاية العام الجاري أقر الكنيست، قرارًا  بالعمل على إقامة "سلطة وطنيّة لمحاربة حوادث العمل" وذلك بعد 6 سنوات من تقديم لجنة جماهيريّة لتقريرها بضرورة إنشاء هذه السلطة التي ستعمل على توحيد كافة الجهود تحتها من أجل مواجهة الظاهرة المقلقة، وذلك بعد انتقاد مراقب الدولة في تقريريّ 2016 و 2018 التأخير في تنفيذ التوصيات، وبعد عرض النائب عوفر كسيف (الجبهة –القائمة المشتركة) اقتراح قانون بالموضوع، توعّدت وزارة الاقتصاد بالعمل على إقامة السلطة وتقديم التوصيات خلال فترة 60-90 يومًا، الوعود التي تحمل العديد من علامات الاستفهام في ظل حل الكنيست والتوجه نحو انتخابات برلمانيّة جديدة في آذار المقبل.

على الرغم من الصورة العامة القاتمة والمقلقة إلا أن العام الجاري شهد تطورًا إضافيًّا في مجال تقديم لوائح اتهام جنائيّة ضد مقاولين بسبب حوادث عمل قاتلة تسببها الإهمال في ورشاتهم. حيث قدّمت النيابة العامة مطلع الشهر الجاري لائحة اتهام ضد مقاول في الـ 38 من عمره يعمل في تصليح الأسطح بعد حادثة عمل أدت إلى وفاة العامل وسيم أبو كف (22 عامًا) من قرية إم بطين أثناء عمله في مصنع "كال" في عسقلان في يومه الأول من العمل، كما تم تقديم لائحة اتحام ضد مقاول آخر في الـ 34 من عمره بعد وفاة العامل الفلسطيني خلف طلال الهوارين (29 عامًا) من جنوب الخليل أثناء بناء قاعة رياضيّة في إحدى التجمعات السكنيّة.

على الرغم من الجانب الإيجابي في الخطوة، الّا أن التوجهات المتساهلة مع كبار المسؤولين واضحة في سياسة الشرطة والنيابة التي اختارت "التضحية" بصغار الشركات والمقاولين وتبرئة كبار المسؤولين على الرغم من مسؤوليتهم المباشرة، خاصة في إدارة مصنع "كال" في الجنوب.

إن أبرز مثال على ذلك، التوجهات القضائيّة في ملفّ انهيار موقف السيارات في شمال تل-أبيب عام 2016 والذي أدى لوفاة 6 عمّال وإصابة 23 آخرين. حيث تراجعت النيابة عن التهم التي وجهتها لشركة "دانيا سيبوس"، ومديرها العام ومدير المشروع والمصمم المعماري وذلك بعد أشهر من إعلانها عن نوايا تقديمهم للعدالة بتهمة التسبب بالموت للعمال الستة. لتكتفي بدلًا من ذلك باتهام مهندسين فقط بالحادثة، على الرغم من أن الشركة ورؤسائها شجعوا المهندسين بخفض الاستثمار في هندسة الموقف مقابل منحهم منحًا إضافية.

 

 

قضايا منسيّة وإهمال مضاعف

إن التعاطف الشعبي مع ضحايا حوادث العمل والتغطية الإعلامية المكثفة تركّز بالأساس على القتلى في الحوادث، متجاهلةً النسبة الأكبر من ضحايا هذه الحوادث، وهم المصابين فيها وعائلاتهم التي تعاني الأمرين نتيجة هذا الوباء.

فمثلًا خلال الأسبوع الماضي، أصيب سبعة عمّالٍ بجراح خطيرة، وتسعة بجراح وصفت بالمتوسطة والعديد العديد من الحالات التي وصفت بالطفيفة. حيث تتراوح هذه الحوادث بين حادثة سقوط جسم ثقيل على رأس عامل في طبريا ونقله بطائرة عاموديّة إلى مستشفى "رمبام" لتلقّي العلاج، انهيار سقف في مدرسة وإصابة 8 عمالٍ، ثلاثة منهم في حالة خطرة، قطع يد عامل بعد ان علقت داخل ماكنة طين في احدى الورشات وإصابة خطرة في الرأس لعامل بعد سقوطه عن سلّم في مدينة ريشون لتسيون.

جميع هذه الأحداث والإصابات تعني بشكل واضح، تغيّر حياة عامل وعائلة كاملة في لحظات، لحظات بين وداعه الأهل صباحًا وبين زيارتهم له مساءً في المشفى راقدًا بفراشه بين الحياة والموت. لتبدأ بعدها رحلة طويلة من العلاج، انعدام الاستقرار الاقتصادي، ومسار قضائي طويل لنيل حقوقهم وتعويضات، إن وجدت، عن الإعاقة التي لحقت بهم.

إن هذه القضايا وهذا الإهمال يتضاعف عند الحديث عن المواطنين العرب، فبالإضافة إلى النسبة العالية جدًا للضحايا العرب من مجمل الضحايا، أعادت وفاة العامل فؤاد عبد القادر (60 عامًا) في ورشة بناء في مدينة الطيبة للأذهان قضيّة الإهمال المضاعف في ورشات القرى والمدن العربيّة. حيث أشارت معطيات نشرتها لجنة العمل والرفاه في الأسبوع الماضي إلى أن 70% من ورشات البناء في المجتمع العربي لا يتمّ التبليغ عنها للوزارة، فإذا كان حال الأمان في الورشات المبلّغ عنها بهذا السوء، لنا أن نتخيّل وضع الورشات البعيدة عن أعين الرقابة كليًا!

وكشف النقاش أن أرقام زيارات المراقبين لورشات البلدات العربيّة لا تتجاوز 10% من تلك في ورشات البلدات اليهوديّة. نضيف إلى هذا كلّه ظاهرة "العمل الأسود" المنتشرة بشكل كبير في بلداتنا العربيّة والتي من الصعب حصر انتشارها، لكن ضررها كبير جدًا خاصّة بانعدام أي شبكة أمان اجتماعي أو تأمين إصابات للعاملين بهذا الشكل.

 

سوق العمل في ظل الوباء – أرضية خصبة للحوادث

لقد شهد سوق العمل في البلاد في الأشهر الأخيرة تراجعًا كبيرًا في فرص العمل في ظل الإغلاقات المستمرة التي فرضتها الحكومة وفي ظل إغلاق العديد من المصالح والقطاعات التجاريّة أبوابها ليتجاوز عدد العاطلين عن العمل المليون معطّل. هذا النقص في فرص العمل مع التعويضات المتواضعة وغير الكافية التي تعرضها الحكومة دفعت بالعديد من العاملين في القطاعات المتضررة إلى التوجه إلى قطاعات ومجالات عمل غير تلك المتواجدة في مجال اختصاصهم ومجال معرفتهم، خاصة فرع البناء الذي استمر عمله كالمعتاد.

هذه التوجهات افتقرت للتدريبات المهنية، التوجيهات والتحضيرات اللازمة، والنتيجة كانت تسجيل العديد من الإصابات الخطيرة وحتّى المميتة في الأيام الأولى للعمل، أبرزها قصّة العامل مازن أبو خيط (60 عامًا) والتي نشرها طاقم "مواجهة حوادث البناء والصناعة"، والتي تؤكد وفاة مازن في يوم عمله الأول في مجال "تزفيت وعزل" الأسطح، المجال الذي لجأ له بعد أشهر من البطالة.

في انتظار عام آخر، تبدو التحديات كبيرة أكثر من ذي قبل، خاصة مع الخطوات الحكوميّة التي تمتاز برمزيتها وتهدف، مراهنة على الوعي العام، إلى إعطاء مسكنات للغضب الشعبي المتصاعد، وإسكات أصوات الاحتجاج التي افتقر لها العام الماضي بفعل الوباء وبفعل إهمالنا لهذه القضيّة الحارقة، لتضاف هذه التحديات إلى التحدي الأساس، تأطير هذه الفئات العمالية في نقابات حقيقيّة بعيدة عن مصالح وحسابات سلطويّة وانتخابيّة بالإضافة إلى تصويب النيران نحو الهدف الأساس: الجشع الرأسمالي والتنافس الذي يفرضه، تنافس في مدى التضحية بحياة وسلامة العمال.

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب