news-details

التوصية والتسمية: ثلاث جدليّات| إبراهيم طه

أجهل تمامًا سرّ الجدل حول التوصية أو تسمية أحد القادة في الأحزاب الصهيونيّة لرئاسة الحكومة. كنت أجهل وما زلت. والمسألة كلّها لا تعنيني في مصداقيّتها أصلًا وأحقيّتها في النقاش ومن أيّ عمق تصعد إلى سطح الجدل بين الأحزاب. لا تعنيني فعلا. يكفيني أنها احتلّت جزءًا من تفكيرنا ومناكفاتنا ومقارعاتنا بحقّ أو بغير وجه حقّ... أين تقع فكرة هذه التوصية أو التسمية، في أيّ مركّب من مركّبات هويّتنا الجمعيّة الثلاثيّة؟ كيف تتفاعل مع المركّبات الأخرى؟ وما هي إسقاطاتها الفكريّة والميدانيّة؟ كلّها أسئلة كبيرة، أو هي تبدو كبيرة، لكنّ إجاباتها أصغر منها وأبسط. وهي في ظنّي وتقديري تتحرّك في ثلاث مناطق فلسفيّة مأنوسة يعرفها العامّة والخاصّة بالتجربة المتوالية بنفس القدر بالضبط. كلّهم سواسية في ذلك، لا فضل في هذا للبيبٍ على غشيم إلا بعمق التجربة. والتجربة أكبر من الفلسفة. أكبر وأصدق. قالت أمثالنا التي لم تترك بابًا في الفلسفة الحياتيّة إلا واقتحمته "إسأل مجرّب ولا تسأل حكيم". هي ثلاث تجارب خبرناها ثمّ رفعناها وجعلناها في ثلاث جدليّات فوقيّة لا تنفصم: (1) جدليّة التوتّر بين الحريّة والمشيئة، (2) جدليّة التوتّر بين الأيديولوجيا والفعل الإجرائيّ الميدانيّ، (3) جدليّة المفاضلة بين السيّئ والأسوأ.

 

التوتّر بين الحريّة والمشيئة

من منّا لا يعرف قصّة "الحكيم والسمكة" لميخائيل نعيمة؟ ومن نسيها فليعد قراءتها. يقول نعيمة على لسان السمكة إنّ الحريّة تقع خارج حواسّ المشيئة ومداركها. "فالناس ما زالوا من لحم ودم، وهم رهناء الناس وغير الناس وعبثًا يتلفّظون باسم الحريّة. فهم صيّادو سمك لا غير".. يبالغ نعيمة في قصّته الذكيّة ويمدّها في بعض المواضع إلى حدود السفسطة. نحن صيادو سمك، صحيح. لا نملك الحريّة أو المشيئة في انتقاء السمكة التي نريد اصطيادها، صحيح أيضًا. لكنّنا ما زلنا نملك الحقّ الواجب في أن نصطاد ومتى نصطاد وأين وكيف. ومن حقّنا الواجب أن يكون فعل الصيد ضمن قناعاتنا وخياراتنا المتاحة مبدئيًا وميدانيًا. ألأنّنا لا نملك المشيئة في اختيار السمكة، التي نريد اصطيادها من البحر، نتنازل عن فكرة الصيد نفسها؟!

بصرف النظر عن الانتماءات الفئويّة تحت مظلّة الأيديولوجيا والدين، الهويّة الجمعيّة التي تجمعنا كلّنا، في حدّها الأدنى، ثلاثيّة بالضرورة لا بالمشيئة. وهي القوميّة العربيّة والوطنيّة الفلسطينيّة والمدنيّة الإسرائيليّة. وكلّها تتقاطع وتتوازى وتتفاعل في ممارساتنا اليوميّة والفكريّة والسياسيّة بصفة أو بأخرى. حين نؤكّد على تفاعلات هذا التركيب الثلاثيّ لا يمكن الحديث عن منسوب كلّ مركّب إلا بصفة قياسيّة نسبيّة ظرفيّة. وكنت قد عاينت الأمر فيما مضى في سلسلة مقالات في الاتحاد.

لا يستطيع أيّ تنظيم سياسيّ أن يغفل أو يتغافل عن أيّ مركّب منها. لا يستطيع حتى لو أراد. ولا أبالغ إذا قلت لا تستطيع أيّ أيديولوجيا أو عقيدة أيضًا أن تذهل ذهولًا مطلقًا عن أيٍّ منها. لا يستطيع منصور عباس وغيره أن يفكّك العلاقة بين المركّبات الثلاثة لأنّ السياسات الإسرائيليّة نفسها تصرّ عليها. وحين تصرّ هذه السياسات على عقابنا الجماعيّ، بمتواليات لا تنتهي من القوانين العنصريّة البغيضة، فإنّها تفعل ذلك بعلّة هويّتنا القوميّة والوطنيّة. أكانت الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة تتنازل إذًا عن هذه العلّة؟! وحين يقول منصور عباس "لا شأن لي ولا دخل في السياسة" فإنه يدخل السياسة من أوسع أبوابها. والحقيقة أنه يتورّط في الفعل السياسيّ مثلما يتورّط في مفارقة كبرى لا يفقهها، أو لا يريد أو هو لا يستطيع. أعني أنه لا يدرك أنّ هناك تناقضًا منطقيًّا بنيويًّا عضويًّا في بنية المطالبة بالتنازل عن السياسة كشرط قبليّ لنيل الحقوق المدنيّة.

التفاعل مع الحيّز المدنيّ وقسريّاته لا يتحصّل إذًا بمعزل عن الاعتبارات القوميّة والوطنيّة. وهذا بالضبط ما ينبغي أن تصرّ عليه الأحزاب العربيّة في البرلمان الإسرائيليّ، على نقيض ما يفعله حزب منصور عباس تمامًا. ومن الجهة الأخرى لا أفهم التنازل المبدئيّ القبليّ غير الظرفيّ عن ورقة من أوراق اللعبة المدنيّة في إطار الدفاع عن حقوقنا المدنيّة. لا أفهم التناقض الجوهريّ بين قبول المشاركة الفعليّة الفاعلة في العمل السياسيّ البرلمانيّ من جهة والتنازل الاستباقيّ عن بعض أوراق اللعبة من جهة أخرى. أدرك تمامًا ما يفعله منصور عبّاس ولذلك يسهل النقاش معه. لكني لا أفهم الإخوة في التجمّع، ولي بينهم أصدقاء أحترمهم وأقرباء أحبّهم. لا أفهم إصرارهم القبليّ الاستباقيّ على مقاطعة فعل سياسيّ سياقيّ مشروط ينبغي أن يكون جزءًا من قناعاتهم التنظيميّة الإجرائيّة وخياراتهم النظريّة. ليس من الحكمة التنازل القبليّ والنظريّ عن ورقة سياسية قد تكون فاعلة في سياقات معيّنة. الإصرار القبليّ على رفض "الحقّ المبدئيّ" في التوصية هو مثل الإصرار القبليّ على قبوله غير المشروط بالضبط. لا هذا من المعقول ولا ذاك لأنّ أحدًا لا يستطيع أصلًا أن يفكّك العلاقة المحكمة بين المركّبات الثلاثة في هويّتنا حتى وإن أراد.

 

التوتّر بين الأيديولوجيا والفعل الإجرائيّ الميدانيّ

كنت فلّاحًا أيام كانت الفلاحة متاحة ومباحة. وكنت أخالط الفلّاحين الذين سبقوني في شغلها. يقول المثل الفلّاحيّ عمّن يفعل فعلًا وهو كارهٌ له: "مثل واحد بسخّم دابّة وبرفع ذيلها بعودة حطب". سمعت المثل بأذني ورأيته بعيني. قال أحد الفلّاحين مرّة في مجلس حضرته: "إن كنت لا تجد إلا دابّة تسخّمها فلا بأسّ أن تسدّ خشمك وترفع ذيلها بعودة حطب". عفوكم على ما في القول من فظاظة وغلظة وخشونة. عفوكم مرّة أخرى. لكنّ حكمة الفلّاحين صائبة مجرّبة. لا تظنّوا بهم الظنون وبأخلاقهم ونزاهتهم وقيمهم. بهذا القول البليغ الخشن يؤمن الفلّاحون، بفضل خشونتهم، بأنّ الانتصار على الواقع أو الظرف لا يكون إلا بمادّة الواقع ومستلزماته. لقد آمنوا بذلك وجرّبوه دون أن يقرأوا ولو حرفًا واحدًا لا عن الواقعيّة ولا عن الوجوديّة. التحتيّ أقوى من الفوقيّ. كتبت مرّة وقلت إنّ الثقافة الطالعة أقوى من النازلة.  

في اللحظة التي تتّكى فيها الأيديولوجيا على تنظيم لا بدّ أن تنضبط به وتحتكم إليه بصفة أو بأخرى. إذا تصادمت الأيديولوجيا مع الظرف، أقول الظرف ولا أقول الواقع، فحقّ الأولويّة للظرف. أذكر حين كنت شابًا غرًّا أتعلّم دروسًا في السياقة اقتحمت الشارع السريع صبيّة جامحة بلا أيّ إنذار أو تحذير سابق أو مبالاة أو اعتبار لقوانين السير، فلم أبطئ من سرعة السيّارة باعتبارها محقوقة وأنا صاحب حقّ. فداس مدرّس السياقة الفرامل وضغط عليها بقوّة وهو يقول مؤنّبًا معاتبًا: "الشارع أولى بالاحترام من الورق الذي كتبت عليه قوانين السير". قلت محتجًّا: "قد تصطدم بي من الخلف سيّارة مسرعة بسبب هذه الفرملة المفاجئة ".  فقال "وقد لا تصطدم.. لكنّ الفرملة منعت دهسًا أكيدًا محقّقًا".. قصّة مبتذلة لكنها استعارة معبّرة.

 

المفاضلة بين السيّئ والأسوأ

في رواية "الاسم والحضيض" (1992) للأديبة التونسيّة فضيلة الشابي وردت جملة معناها أنّ الرجال جميعهم وحوش خرجوا من وعاء واحد، أو كما قالت. جملة كهذه لا يمكنها أن تمثّل الأديبة نفسها بطبيعة الحال. لا أحد ينسب الجملة لا للكاتب الافتراضيّ ولا للكاتب الحقيقيّ. لكنّ التصريح بها يؤكّد حضورها الفاعل عند بعضهنّ أو بعضهم على مستوى التفكير. ولمّا كنتُ أناصر المرأة، بكلّ جوارحي ودمي الذي يتقافز في شراييني من الوريد إلى الوريد، فقد ارتبكتُ للحظات. ارتبكت وغضبت. أما كانت تلك المرأة، التي ترى في جميع الرجال وحوشًا، تفضّل كلبًا مسالمًا إذا ما فاجأها كلبٌ في زقاق معتم مثلًا؟ أما كانت في تلك اللحظات ترجو الله تعالى أن يجعله كلبًا مؤدّبًا ينبح ولا يعضّ؟! أكانت الكلاب كلّها "كلابًا" في هذا الليل المعتم والزقاق الضيّق الخالي من الدومري؟! أما كانت تتضرّع إلى الله تعالى، الذي لا تؤمن به، أن يرسل إليها من السماء رجلا "وحشًا" ينقذها من هذا الكلب؟! ألا يصير ذاك الرجل "الوحش"، في هذا الظرف، ملاكًا مرسلًا من عند ربّ رحيم لا ينسى من رحمته أحدًا؟!

الخلاف حول متلازمة السيّئ والأسوأ هو خلاف أزليّ ويبدو أنه أبديّ أيضًا. يبدو أنه خلاف على مستوى الفكر الفوقيّ يلهو به الفلاسفة. واللهو حلال زلال. لكنّ فكرة المفاضلة بينهما لا تقع أصلًا ضمن الخيارات لأنّها فوق المشيئات. قصدي أنّ المفاضلة بين السيّئ والأسوأ هي متلازمة طبيعيّة عضويّة من فطرة الخلق. علاقة هذه المتلازمة القديمة، قدم الخلق، بالضرورات والمحظورات هي علاقة تناظر وتماثل، يعرفها الناس بالفطرة. وحتى يخفّف الناس من أثر المفاضلة بين السيّئ والأسوأ وظلالها السيّئة ونبرها السلبيّ استعانوا بالاستعارة القديمة "نصف الكأس الفارغ أو الملآن". ما يعني أنّ تفضيل السيّئ على الأسوأ هو في الحقيقة تفضيلٌ للأقل سوءًا ولجمٌ للأسوأ ومنعه من التراكم والتوالي. وهذا في ذاته عمل لا يخلو من نفع. المسألة موصولة إذًا بزاوية النظر.. منطق قويم.

لا تعنيني الحسابات الحزبيّة ومسألة القائمة المشتركة الآن لا على مستوى التركيب ولا على مستوى الترتيب. هذه مسائل متروكة لأهلها. لكنّ المثل الفلّاحيّ يقول "اللي بحضر السوق بشتري وببيع" مع الاحتفاظ بكامل حقّه في المساومة والروغان والشطارة. والقاعدة المألوفة عند الفلّاحين، "بين الشاري والبايع يفتح الله"، ينبغي أن تظلّ حاضرة بقوّة على رأس لسانه وبين شفتيه.  

 

تذييل

مسألة التوصية والتسمية هي في المحصّلة النهائيّة جملة شرطيّة ظرفيّة، بلغة النحو، لا معنى فيها ولا قيمة لها إلا بمقدر تعلّقها بشرط وسياق أو ظرف. ولمّا كانت كذلك، فهي ورقة سياسيّة "مبتذلة" تقع ضمن الخيارات المتاحة. أو بلغة الفقه، لا يحقّ لأحدّ أن يجعلها من الفرائض الموجِبة والملزمة مثلما لا يحقّ لأحد أن يجعلها من الكبائر المجلبة للتكفير والتخوين. لا يحقّ لأحد لا هذا ولا ذاك، لا بصفة نظريّة ولا بصفة إجرائيّة. وكيف تكون فريضة أو كبيرة إن كانت أصلًا جملة شرطيّة ظرفيّة؟! فعلام كلّ هذا الصخب والضجيج؟! والله لا أفهم!

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب