news-details

الجزء 2 الحلقة 18: جبال الريح

رضي والدي عني وعن عملي في الحزب الشيوعي مع انه كان يفضل ان اكون معلما في المدرسة القريبة من بيتنا.. كان يستقبل رفاق الحزب بترحاب، توفيق طوبي، إميل حبيبي، توفيق زياد، جمال موسى، رمزي الخوري، نمر مرقس، ونايف سليم. واُعجب بشكل خاص بشخصية زاهي كركبي: يا بارك الله يا هالشبوبية!! أما كمال غطاس ويعقوب السمعان – الصيني – ونايف سليم فكانت زياراتهم المتكررة مألوفة له وبلا تكلف

وتقيم اسرائيل "السياج الطيّب" بينها وبين لبنان، من النادر ان تجد عُهرا اكثر من عهر الصهيونية، السياج الطيب!!

كان المهربون ايام زمان، ولسنوات بعد النكبة يجلبون البضائع من رميش، من هناك السكّر والقهوة والقماش، لأن مشايخ الدين في بلدنا حَرّموا سكر الإعاشة من الدولة، ومال الدولة هو مال الظّلَمَة، ويصوتون لحزب المباي، حزب الظلَمة. في طفولتي اجتمع عندنا عدد من المشايخ، وحضّر أبي إبريق شاي كبير من عشبة الزّوفا، وفي كل فنجان ثلاث زلَفات سكر، يومها لم يكن معروفا مرض السكري، سأل احد المشايخ:

  • سكّر أعاشه خيّه!!
  • آه علم الله. سكر اَعاشه، قال أبي.
  • اسمح لنا!! وأرجع أبي الفناجين الى الابريق.

أما العملاء من قرانا فكانوا يصلون الى لبنان عن طريق عين قدَس، والمْطلة المُطلة على قرية كفر كِلا – او كفر كِلى اللبنانية، العملاء من الجيل الاكبر كانوا يُرسَلون الى سوريا لترحيل دروز فلسطين الى جبل الدروز، او لمباركة اسرائيل!! طردهم سلطان الأطرش وقال لمن عنده: نيموهُنْ في الخان، لايُدنّسوا بيوتنا.

أحيانا يعاتبني البعض بلطف: لئيش هاي الفضايح!!

  • لأنها فضايح كما تقولون.

بعد اول اجتياح وثاني اجتياح اسرائيلي للبنان أقاموا السياج الطيب – הגדר הטובה – اسرائيل تحبّ اقامة الجدران، بعدها أقامت جدار الفصل العنصري، وتفكر بإقامة جدار مع غزة.

صار العميل من بلدنا يدخل الى لبنان من السياج الطيب، ويقوم بدور ماسح أحذية، مع ان والده آدمي من روس الأوادم، وكم من وردة خلّفت عليقة!! يجب إجراء تعديل على هذا المثَل، فزهر العُليق جميل جدا وعطِر، وكبوش العليق الناضج الأسود لذيذة جدا:

ياما العليق غْمرْنا

  تنّقي كْبوش

عَشْجارِك تْعربشنا

  تَنطول عْشوش

عَسطوحِك ياما فْرشنا

  ونِلتَم دْغوش

طير الليل يوشْوِشنا

  ويُنقل خْبار

وصل هذا العميل الى حاصبيا وخلوات البيّاضة، ويقولون انه استغل اسم والده الآدمي من روس الأوادم واجتمع معه "بهجت بك شمس"!! وبعد ان عرفه وعرف غرضه من الزيارة "قام صينية النُّقُل من قُدامه" وقال: إنقلع من هون يا واطي يا نجس، خمّناك طالع آدمي مثل والدك!!

وأنا الشاب الشيوعي، نشرت يومها اسمه الكامل في جريدة الاتحاد، وكانت الاتحاد تصل الى بعض القراء من الدول العربية عن طريق الاقطار الاشتراكية، ومن الاتحاد السوفييتي بشكل خاص، وجرى معي تحقيق من قبل شرطي المهمات الخاصة اليهودي حول هذا الموضوع الخطير ومواضيع أخرى. أما الشرطي جهجاه العربي فضحك بعدها من صماصيم قلبه وشد على يدي. ثم كتبت اعتراف وشهادة ذلك العميل بعظمة لسانه بعد ان مرّضوه بطريقتهم الخاصة، كتبت قصته بعنوان: "المخبر: ن".

وعبر السياج الطيب صاروا ينقلون المخدرات الى قرانا، واحدهم اشترى مسجّلا ووضعه في بحر شرواله تحت القنباز، ويبدو ان حركة معينة فتَحت المسجِّل، وغنى فريد الاطرش من شروال الزّلمة:

يا ريتني طير

  لَطير حواليك

مطرح ما تْروح

  عيوني عليك

وما خلّي غيري

  يقرّب ليك

لكن يا ريت يا ريت وكلمة يا ريت

عُمرا ما كانت تعمّر بيت

الناس يضحكون على السياج الطيب، والرجل يتَحلْفص ولا يعرف كيف يوقف المسجل، وأحدهم يقول: خلّي فريد الأطرش يكمّل الغنّاية!! والبعض راح يكملها في حفلة فنية من بحر الشروال:

يا ريت كل الدنيا ملكي

  أنا وحبيبي بالشّركِه

ما كنت بفوتك ولا تكّه..

في اواسط السبعينيات من القرن الماضي، بعد حرب اكتوبر ويوم الارض وانتصار جبهة الناصرة، وتأسيس الجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة، وإقامة لجنة المبادرة الدرزية، جرت معركة الانتخابات للكنيست، ولأول مرة اخذنا في البلد 150 صوتا، وفي عين الأسد 12 صوتا، والشرطي "آشِر" الذي حضر فرز الاصوات صار وجهه يطلع طْوار طْوار، وقال موجها الكلام لي: الفَتاخ، "الفتح" يقصد منظمة فتح، وانا مبسوط مْزَهْزِه، قلت له: سَكتِر من هون!! أما رئيس الصندوق وهو رجل في منتهى الطيبة والبساطة والسذاجة، آدمي ابن اوادم فقال لي:

  • عيب عمّي، هذا ضيف!!

أحد الشباب من المراقبين راح يضبّ علَم الدولة المعلق فوق لجنة الانتخابات، وبدأ يعجن العلَم ويخبزه ويطبطب عليه، فزعق عليه الشرطي آشر زعقة منكرة.

في القرى الدرزية ولأول مرة نأخذ هذا العدد من الاصوات، طلعت وسائل الإعلام الاسرائيلية وقالت جملة يوليوس قيصر: حتى أنتَ يا بروتُس!!

لكن عندما نزلتُ من الباص في المحطة قرب مركز شرطة كرمئيل صرخ أحد الشباب، يبدو انه من نحف:

  • إنزَل يا مرتزَقة!!

قال عندما تحرك الباص. يا ريتني أعرف هذا الشاب، لأشكره وأعاتبه.

والآن عذرا إذا تطرقت الى مواضيع قد تبدو فيها جوانب شخصية، فهي ذكريات فيها العام الرحب، وفيها الخاص الضيق.

توفي والدي في آذار سنة 1977، عن عمر بين 87 و 89 سنة، فبحسب تاريخ الولادة الرسمي كان عمره 87 عاما، لكن موظف تسجيل السكان التابع لوزارة الداخلية قال:

  • سأكبّرك سنتين، وهو يهودي يتكلم العربية،
  • ليش، لأي سبب!!
  • حتى تُعفى في المستقبل من الخدمة في الجيش، وايضا من اجل ان تربح سنتين من مخصصات التأمين الوطني!!

فهل كان هناك مخطط للتجنيد العسكري الاجباري، والتأمين الوطني في تلك السنوات المبكرة؟!

مرض والدي وانضام مدة اسبوعين فقط، فقد اكتشف الدكتور سليم جبران الرفيق ابن قرية البقيعة، ورما خبيثا، وأصر على ارساله الى المستشفى، وهو الذي لم ينكشف على طبيب، ذهبنا به الى مستشفى صفد، وأصر على العودة في نفس اليوم.

توفي وهو شبعان من عمره وقد تحقق حلمه برؤية أربعة احفاد. كان عمر الحفيد الرابع وليد شهرين فقال لوالدته:

  • هاتي لي إياه، أشمُّه. وهكذا كان، شمّة غميقة كلها محبة وحنان، وارتاح لأنه ترك لنا بيتا وأرضا، كروم عنب وزيتون في عدة مواقع، ورضي عني وعن عملي في الحزب الشيوعي مع انه كان يفضل ان اكون معلما في المدرسة القريبة من بيتنا.
  • من مدرستك لبيتك، مشي دقيقة.

كان يستقبل رفاق الحزب بترحاب، توفيق طوبي، إميل حبيبي، توفيق زياد، جمال موسى، رمزي الخوري، نمر مرقس، ونايف سليم. واُعجب بشكل خاص بشخصية زاهي كركبي:

  • يا بارك الله يا هالشبوبية!!

أما كمال غطاس ويعقوب السمعان – الصيني – ونايف سليم فكانت زياراتهم المتكررة مألوفة له، وبلا تكلف.

كانت الجنازة في آذار، وبقايا الثلج في المظاليل وعِرق السناسل، والنسمة باردة رغم اليوم المشمس، حلقت دقني ورفضت ان اضع حطة على رأسي او على رقبتي كما هو متبع، سلّم عليّ معلمي منيب مخول بتأثر، بعدها قال: كأنك لم تتأثر بموت الوالد!! قلت: حزنت جدا وتأثرت وهو يتعذب لمدة اسبوعين، اما وقد توفي فقد ارتاح. هزّ رأسه مع الحطّة والعقال: كل الاحترام.

لم يكن يومها بيت شعب، فكنا نحن أصحاب الأجر في بيت عمي محمود الواسع، أخذ كل فرشات وحُصر وقياسات ومخدّات من عند أبنائه محمد وسلمان وسعيد وفرش الغرفة الواسعة جدا من عمار مصطفى فرهود وأخيه وليد من صفد.

عزم الجيران المرحوم الشيخ أبو يوسف أمين طريف الى بيوتهم فقال: أنا أقعد وين قاعد الشيخ أبو قاسم محمد نفاع، وبقي معنا، والشيخ أبو قاسم شيخ ورع وعالم، ومطالِع درس القرآن الكريم والإنجيل والتوراة ودين التوحيد، ومعروف في لبنان وسوريا وفلسطين.

لم يكن أبي متزمتا متشددا، كان يشرب الشاي مع سكر الأعاشِه، ولم يعارض أخذ مخصصات التأمين الوطني، الأمر الذي ساعدني في أقساط الجامعة.

حضر الجنازة الكثير من رفاق الحزب وأهل القرى المجاورة، وأذكر ان عمي صالح الظاهر من ساجور قال لابنه نبيه صديقي:

  • وَإف وَإف مع محمد صاحبك: يعني وقّف الى جانبه.

عندما يأتي إلينا المعلمات: وداد، سلمى، أدما، إخلاص، لميا، بديعة، شفيقة وكلهن من الرامة، كان أبي يغادر المضافة، والمعلمة إخلاص تقول، عمي حسين عمّنشوفك اكثر ما منشوف أهلنا، خليك قاعد.

  • خذوا حريّتكو عمّي.

كانت هنالك سِمعة: السلطات تحاول اجراء تغيير في الصلاة على الجنازة، بعد ان صادرت عيد الفطر، خاصة بعض الجُمل في الصلاة، مثل: مستقبل الكعبة الشريفة، والتي تذكر نبينا محمد سيد العُرب والعجَم..

فقلت لعمي عَلي الذي تأثر كثيرا بموت والدي، وراح يبكي بصوت عال:

  • قُل للمشايخ، نريد الصلاة الحقيقية بلا أي تغيير، وإلا سأتدخل وأقاطع الإمام على مسمع من الناس، لكن الإمام صلّى الصلاة الحقيقية وبصوت جهوري، ولليوم أحفظ في – رُبع القش – الملون الموضوع في السبت الأسود، عمامة والدي اللفة والطربوش والعباية السودا العتيقة، وكتب: جواهر الأدب من خزاين العرب، وكليلة ودمنة، والطِب البيتي للدكتور يوسف أسعد محمود من سوريا، والدفتر الأسود، وكلها أحضرها معه من الأرجنتين، سوية مع إبريق نيكل، وعلبة خشب مفتاحها في قلبها، وطبعا صورته التي كبّرناها.

 

 
 

 

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب