news-details

جبال الريح (ج2-الحلقة 9)

وأية كلمات ناشفة صاعقة دلقها الهاتف الجوال في أذني، نبرات ترمي اللقمة من الفم، من تلك التي قلبي رشقِلها ولا يزال:

  • أوعى تجيب سيرتي على لسانَك، بتِحلَم، أسْرط في ريقك أسرط. لحدّ هون وبس!! سامع، إسمع...

كلها أوامر ما شاء الله. ورحتُ أضحك بمرارة وخذلان، وأنا اتذكر الدرس الذي تعلمناه في كتاب الصف الثاني: كان نعمان يحلم بفرَس محذية، فوجد نَعل فرس او حذوة، استبشر خيرا وقال: لا ينقصني الآن غير ثلاث حذوات وفرَس. وهذا انا وجدت المكان الملائم، والباقي يظل حلما، كأن تقول: عيش يا كْديش تينْبِت الحشيش، ولّلي ما يْريدَك لا تريده شيلِه، كل شي لقَوه مع العطّار الا حِبْني غَصب..

ظلت المياه الجارية توشوش في المكان، وسهل كفر عنان يرتمي قبال فرّاضه، فيه البرسيم والقمح والتفاح والرمان في الايدي الغريبة، والزيتون المتروك في وجوم حزين، والمزرعة النموذجية مسيّجة بيد الاغراب، وموقعة فراضة ضد الانجليز هاجعة في القلب، ورِزِق بونا صار علينا صدَقَه...

وتحلّ وتهلّ سنة السبعين، المكتظة الغاصّة بأحداث ثقيلة، كان النصف الاول منها باسما بهيجا، في الاول من ايار في الناصرة، جموع غفيرة، اهازيج ونخوات وإعداد واستعداد، وقوة وأمل، وتوفيق زياد ينشد عن كومونة باريس، وفي الثاني من أيار خِلق هشام في المستشفى الفرنساوي، في قسم الولادة ممرضات نشيطات مرِحات، اصوات الاولاد الذين رأوا نور الحياة بالبكاء الضروري للاعلان عن الوجود وتمرين الصوت، ينعش القلب، والممرضات يحملن الاطفال للامهات على الفراش، وجوه الامهات النفاس يطفحن بالامومة، ذات القيمة الانسانية السامية، واحدة تتوجع وتصرخ قبل الولادة، وواحدة من الممرضات تقول لها: يا فاعلة يا تاركة، ليلتها لما حِبلتِ كنتِ مكيّفة، وإسّه بتدْعي على حالِك!! ويضحك الناس.

ويأتي توفيق زياد مع ضمة ورد ويقدّمها الى زوجتي نايفة، وتقول: مبيرح سمِعتك وانتِ تنشد عن كومونة باريس، والحضور من ممرضات وزوار يبدون مزيدا من الاحترام لأننا نعرف توفيق زياد ويعرفنا، وزوجتي نايفة اول امرأة درزية شيوعية.

رفضت أليس الاسم الذي اقترحتُه أنا - جعفر – على اسم جعفر النميري صديق وحليف جمال عبد الناصر، كانت أليس تشعر انها مِنّا وفينا. ورفضت نايفة، وصرتُ أنا أقليّة منبوذة، لها التحية والأشواق القلبية.

في البيت قال أبي لِحماتي ودموعه على عرض وجهه: 

دونِك ما اشلب الأواعي الزغيرة المعلقة على الحبل، كل ذلك وهو يشهق ويتطلع الى الملابس الصغيرة المنمنمة الملوّنة للحفيد البِكر بعد طول انتظار، وظل يبكي من الفرح ويقول لهشام: العنزِه العطْرا إلك.

النصف الثاني من سنة السبعين كان مثقلا بالويلات والمصائب. كان عام إيلول الأسود بين الفلسطينيين ونظام وجيش الأردن، وفشلت كل المحاولات لتلافي ما حدث، ويحدّثني الكاتب السوري سعيد حورانية سنة 71 ما كنّا نقدّره، كان فهمي السلفيتي وسعيد حورانية ومنير حمارنة، وحنا مينا وفيصل الحوراني، ونبيه ارشيدات، وفائق ورّاد، وعيسى مْدانات من اوائل الذين تنبهوا الى الخطر، وهم يجتمعون ويتواصلون في دمشق وعمّان. وبذلوا الكثير من الجهود، ذهبت كلها أدراج الرياح التي أشبعت بالدم، بعدها قرأت عن ذلك في كتاب فيصل الحوراني "دروب المنفى" الجزء الخامس. ووضع عبد الناصر كل ثِقله لحسم الشر. 

كانت امريكا بالمرصاد، واسرائيل على أهبة الاستعداد الى جانب ملك الأردن، واضطر عبد الناصر الى ارسال جعفر النميري ليعود مع ياسر عرفات بعد ان حُسمت المعركة.

وظل الألم يتراكم على قلب عبد الناصر حتى توقف. مات عبد الناصر. وأية ايام قاسية ظالمة تخزنها الذاكرة من تلك الايام السوداء المعتمة. قامت المسيرات في المدن والقرى العربية، باشتراك الغالبية الساحقة من الناس.

صدرت جريدة الاتحاد بالسواد والحِداد، اما مجلة الغد وعلى غلافها صورة جمال عبد الناصر فاختطفها الناس من ايدي رفيقات ورفاق الشبيبة الشيوعية، فصدرت بطبعة ثانية وبعشرات الوف النسخ.

قمنا بمسيرة حداد في القرية مع علَم اسود كبير، وطافت المسيرة في الشارع المحيط في البلد يتقدمها أبو خير مزيد، وطلعت جريدة هآرتس تقول: 500 انسان في مسيرة حداد في بيت جن. مع العلم ان العدد كان أقل بكثير، مدير البنك الصهيوني في عكا صرخ في وجه أبو فهد أحد ابناء القرية: خمس مية في مسيرة عبد الناصر يا ... وولّعت طوشه في البنك.

بعدها بأيام دعونا الرفيق توفيق طوبي لاجتماع سياسي تأبيني، وعقد الاجتماع في مضافتنا المتواضعة من حيث الاثاث والواسعة من حيث المساحة بحضور واسع من أناس يشاركون لأول مرة، وقف الجميع دقيقة حداد بوجوه طافحة بالحزن والفقدان الثقيل.

وقُتل وصفي التلّ رئيس حكومة الأردن في القاهرة.

 في نيسان سنة 71 سافر وفد من حزبنا لدورة دراسية في موسكو، وضم الوفد الرفاق – نصري المرّ رئيس الوفد، عبدالله زقوت، سخي موسى، حسين أبو اسعد، سميح القاسم، عمر سعدي، محمد ابو اصبع، بنيامين شنيتسِر ومحمد نفاع، في قبرص سلّمنا جوازات السفر في فندق صغير – فندق أونوسيلوس، صاحبه شيوعي من حزب "أكيل"، استقبلنا بدموع الفرح والاعتزاز. عندما حطت الطائرة في مطار موسكو، كانت طبقة رقيقة من الثلج، تضاربنا أنا والرفيق عمر بالثلج. كانت المرة الاولى التي اسافر الى خارج البلاد، وكان عمر هشام اقل من سنة، في الفندق وعند تسجيل جوازات السفر في قبرص تطلع سميح القاسم في جواز سفري وهتف: ولَكْ أنا وياك خَلقانين في نفس اليوم، وفي نفس الشهر ونفس السنة 14/ أيار سنة 39.

بعد الفحص الطبي وتوزيعنا في غرف السكن الراقية جدا في "الاوبشِجيتي" وتزويدنا ببطاقات خاصة، بدأنا الدراسة، كانت معلمة الفلسفة فلَنْتينا اوفانوفا بكروفسكايا، ومدرس الاقتصاد السياسي فولوديا دانتسوف، ومدرس الحركة الشيوعية أحمد اسكندروف، والمترجمات تمارا، ديلارا، لوريسا، وغالا او غالينا، وهناك تعرفنا على الشيوعيين من العراق وسوريا والأردن وفلسطين ولبنان والجزائر، وعلى عبد الفتاح اسماعيل من اليمن الجنوبي، والابشوجيتي تعني – السكَن الداخلي – وفي المدخل الذي يفحص بطاقات الدخول يقف رجل كهل، صدره مليء بالميداليات لأنه خاض الحرب الوطنية العظمى ضد النازية، وبالاضافة الى الشيوعيين العرب كان هنالك طلاب من معظم دول العالم، لأول مرة استمع الى محاضرات من فؤاد نصار وخالد بكداش، وكذلك لقاء مع محمد حسنين هيكل.

تعرفت على الكاتب السوري سعيد حورانية والشاعر نيروز مالِك، في اللقاء مع سعيد حورانية قلت له:

قرأت مجموعتك القصصية "وفي الناس المسَرّة" وننشر لك في مجلة الجديد قصصا منها "الجوزات الثلاث"، باتت الدهشة على وجهه وقال: انا الآن متوقف عن الكتابة، وهو رجل مربوع حِرِك ضحوك.. والتقى سميح القاسم مع ابن قرية الرامة الممثل يوسف حنا، بعدها صرنا نشاهده في مسرحيات مع غوار الطوشه ونهاد قلعي وياسين، وفطوم حيص بيص... خاصة وهو يقول: على مزبلة التاريخ.

في مسرح البولشوي تياتِر، حضرنا الكثير من الباليه، والاوبرا، والامسيات الموسيقية، فاوْسْت، عايده، بحيرة البجع، دون كيشوت، وأية لحظات مهيبة ونحن في الساحة الحمراء، نقف بالدور مع صفوف طويلة من مختلف اقطار العالم ونحن نمرّ على ضريح لينين، ولينين المحنّط، زرنا انا وبنيامين مسرح الدمى، وعند خروجنا من المسرح تفاجأت وأنا ارى بنيامين يصرخ وينهال ضربا على شاب: 

عندما دخلنا كانت ثيابك غير ممزقة، والآن مزّقتها يا صهيوني يا قذر لتقول انك مظلوم في الاتحاد السوفييتي وفقير..

كانت الدعاية الصهيونية على أشدها ضد الاتحاد السوفييتي وضد الشيوعية كدأب الصهيونية على الدوام.

كان المعهد يقع قرب محطة متروسوكول، اما محطة لقاء العشاق فكانت محطة ماياكوفسكي، وكم تجولنا في مترو موسكو، حتى وصلنا الى الحي الجديد كولمانسكايا، انا وبنيامين تعرفنا على الكثير من معالم المدينة، المحاضر الرفيق أحمد اسكندروف فتح أعيننا على نواقص عديدة في الاتحاد السوفييتي. سألنا: لماذا لا يوجد بندورة في موسكو!! أجبنا: بسبب الطقس البارد فأجاب هو: وكيف يوجد في فنلندا!!

  • لماذا جريدة البرافدا اربع صفحات فقط!! قلنا لأن الصحف البرجوازية مليئة بالدعايات و..

  • غير صحيح!! قال. لأنه لا يوجد لدينا الكفاية من الورق، عندها تأكدنا انه ضد الاشتراكية وقدمنا شكوى الى مدير المعهد الذي تنهّد وقال: يا ريت عندنا الملايين مثل الرفيق اسكندروف، وقدمنا شكوى امام الرفيق إميل حبيبي، لا اعرف إن كنا ملومين في موقفنا. في حزبنا كنا نسمع كل شيء ايجابي، حتى في الصف الطويل امام المخابز، والنقص الفظيع في الفواكه والخضار ما عدا الملفوف والبصل الاخضر والخيار المحبّب، عليه حبوب طبيعية تشبه حبات الجدري، أما بقية الخضار والفواكه واشياء اخرى قليلة فهناك سوق الكولخوز. أحمد اسكندروف يتكلم عن النواقص والمترجمة تبكي وراء الحاجز الزجاجي.

وأي ابداع كان في ترجمة المترجمة تمارا: عن العاهرة تقول: فقال لها يا شرموطة، أما ما غمّ وطمّ عندما أرادت ان تترجم: وراء كل رجل عظيم إمرأة، قالت:

في مؤخرة كل رجل عظيم امرأة.. كانت تترجم لنا افلاما في السينما.

وكما ذكرتُ سابقا، حملنا معنا الى موسكو اغنية:

مرحى مرحى غاغارين

   في السفينة الكونية

وحْنا رْجالك يا لينين

   لكسِّر روس الرجعية

فليحيا الجيش الاحمر

   قاهر موسليني وهتلر

جيش العمال المظفّر

   حامي للاشتراكية

كان الرفيق وفيق حسيّان ابن قرية البعنة الحمراء بموهبته وصوته الرائع مؤلف العديد من الاهازيج، او يكمّل اناشيد معروفة:

ببّوري رايح رايح

   ببوري جاي

ببوري محمل سكر وشاي

ويروح يعدد سفرات الببور الى الفيتنام وبرلين وهفانا... وكلها ضد العم سام والولايات المتحدة.

مدرّسة الفلسفة، ومن بين كل الاغاني والاناشيد طربت لأغنية عاللوما اللوما، يغنيها حسين أبو أسعد:

عاللوما اللوما اللوما

   يا حلوة يا مهضوما

دخيل الله ودخيلِك

   شوفي الدنيا مْقابيلِك

غني لي وبغَنيلك

   عاللوما اللوما اللوما

يا بلسم قلب الشاكي...

   للقلب اللي بهواكي

سْهرنا وستنّيناكي

وِنتِ طوّلتِ النّوما..

 

"عند خروجنا من مسرح البولشوي تفاجأت وأنا ارى بنيامين يصرخ وينهال ضربا على شاب..."
أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب