news-details

الجفراويّة، وجهة الشعر عند مفلح الطبعوني | إبراهيم طه

أمّا قبل، الجفراويّة نسق شعريّ فلسطينيّ قُحّ. قصدي أنّها ظاهرة شعريّة فلسطينيّة خاصّة تنضبط بضوابط التجنيس أو التنميط الأدبيّ بالضرورة. مثلما صارت الفرعاويّة والدّحيّة من أبرز أنماط الحداء، والدلعونيّة والكرّاديّة أنساقًا نظاميّة في الدبكة الفلسطينيّة، هكذا صارت الجفراويّة من الأنساق الشعريّة الفلسطينيّة الراقية الأصيلة. في هذه الدفيئة التراثيّة خلقت الجفراويّة، وكبرت وصلب عودها، حتى صار لها قواعد وأصول قعّدها عزّ الدين المناصرة، ومكّنها مفلح الطبعوني ومتّنها في مجموعته الأخيرة، "عودة جفرا" (2022)، التي قدّم لها الدكتور رياض كامل تقديمًا دقيقًا. أمّا بعد، لا تنهض الجفراويّة على شخصيّة جفرا بصفة حصريّة وإن كانت تتسمّى بها. الجفراويّة نهج فكريّ وأسلوبيّ وليست جفرا فيه غير مثال أيقونيّ، قد تُستبدل بأيّ أيقونة فلسطينيّة أخرى، وإن كانت أول من حملت على كتفيها الناعمتين هذا المشروع الضخم.  
النقد في أصله فعل ترويض بالتراضي والتوافق. والترويض هو تخريب بنّاء. والتخريب البنّاء الذي أعنيه هو تفكيك النصّ وبعثرته لتعريفه وتعميره من جديد على أسس فكريّة ومعايير جماليّة توصيفيّة. كلّ ناقد ينبش النصّ بطريقته وأدواته التي يعرفها ويرتضيها. تختلف طريقة النبش من ناقد لآخر، مثلما تختلف الأدوات التي ينبشون بها. لكن، في المحصّلة الأخيرة، كلّ ناقد يحاول أن يشكم النصّ الجامح والمنفلت أو يلجمه بمقاييس نسقيّة نظاميّة نمطيّة. وكأنّ هناك توتّرًا غزليًا مفتعلا بين قارئ يسعى إلى ترويض النصّ وبين نصّ رفضيّ مشاكس نافر. والضوابط النسقيّة تقوم على قائمتين اثنتين لا تنفصلان ولا ينبغي لهما: (1) تعيين الأفكار والأساليب المتكرّرة في الظاهرة الأدبيّة بصفة تتابعيّة تراكميّة، (2) بيان التفاعلات السيميائيّة بينهما، بين الأفكار العامّة من جهة أولى وبين الأساليب والأدوات التشكيليّه البنائيّة من جهة أخرى. 
الهويّة النوعيّة للجفراويّة رباعيّة ائتلافيّة مضاعفة. تتفاعل فيها أربع أفكار عظمى مع أربع تقنيّات توافقها. والنقاش السيميائيّ في الهويّة النوعيّة للجفراويّة يقتضي الجمع بين تينك القائمتين في وحدة واحدة. جفرا هي هذا الجامع بين الفكر والأسلوب. هي السيميوزا الكبرى التي تنعقد فيها كلّ المنظومات العلاماتيّة وتشتغل في فضائها. جفرا تضطلع بكلّ وظائف التشكيل البنيويّ في النسق الجفراويّ. هي المسؤولة عن تفعيل المجاز، في حضورها وحركتها وشحنتها الانفعاليّة، وهي التي تقوم بمهمّة التخريط في تنقّلها بين تضاريس الوطن، وهي التي تؤكّد بالتناصّات الذكيّة على فلسطينيّتها وغربتها عن عربٍ ألقوها في الجبّ وتركوها في الصحارى، وهي بالتالي التي ترتقي إلى مستوى الأسطورة حتى تعمّ فائدتها لتشمل الإنسانيّة بأسرها.. من هذا الباب أدلف إلى فعل التجنيس الأدبيّ للحديث عن نسقيّة القصيدة الجفراويّة في شعر مفلح الطبعوني.

 (1) الألم والأمل بين الحقيقة والمجاز
توتّرات الشعور والفكر في القصيدة هي متلازمة قديمة. لأنّ الشعر شعور في الأصل فالفكر فيه ينسل من الشعور ولا ينعكس. لا ينعكس لأنه لا يصحّ. وهذا هو طبع الجفراويّة. مُفاعل القصيدة الجفراويّة هو هذا التوتّر الجميل بين الألم والأمل والقفز المكّوكيّ بينهما. والشعور توافقه روح المجاز اللطيف المباح المتاح. أمّا الشعر الفكريّ فتليق به صرامة الرمز. والمجاز في القصيدة الجفراويّة يتمظهر في شخصيّة جفرا بكلّ حمولتها الوجدانيّة. 
"عادت جفرا/من قلب الجبّ/عادت تحمل أوجاع الحبّ"(ص 18).. "جفرا عادت من عمق الصحراء/عادت تحمل رائحة النزف"(ص 27). والنزف، مثل أوجاع الحبّ الذي عادت جفرا تحمله، هو حافز السعي إلى الحياة وباعث الأمل. قال حنا أبو حنا: "ونفتح الجرح للنزيف الجديد" (قصائد من حديقة الصبر: 1988). العودة لفظة مفتاحيّة حاشدة تصدّرت المجموعة كلّها لثقلها النوعيّ. ثلاثة أسباب قاطعة تجعلها ضمن الأدوات الإجرائيّة الفاعلة لبيان شعريّة النسق الجفراويّ عند الطبعوني: (1) القصديّة. وهي تعني أنّ العنونة، كأداة تنصيص، تُضمر قصد الشاعر وتفكيره. ولمّا كانت العنونة نقدًا ذاتيًّا، يُظهر فيها الشاعر حكمه على نصّه بنفسه، فهي إذًا حالة إحالة محسوبة وليست عفويّة أو تلقائيّة. حتى الصدفة ليست صدفة في الأدب. وحين يعنون الشاعر مجموعته فإنّه يجعل الجزء دليلا على الكلّ. (2) التكثيف. العنونة اختزال لكلّ ما يراه الشاعر مركزيًّا حاسمًا. العنوان من جوامع الكلم. وجوامع الكلم تعني حشدَ المعنى الكثير في اللفظ اليسير. وهذه تجربة كنت قد أجريتها على مجموعة محمود درويش "لماذا تركتَ الحصان وحيدًا"، نشرتها في بحث أكاديميّ مفصّل باللغة الإنجليزيّة قبل أكثر من عشرين عامًا. (3) التصدير. العنونة مسألة تقديم وتأخير. حين يقدّم الشاعر معطًى على معطى ويمنحه حقّ الصدارة فإنه يتّخذ موقفًا واضحًا ممّا قدّم وأخّر.
عودة جفرا انتقالٌ من حالة ألم إلى حالة أمل. العودة مدعاة التفاؤل في كلّ مستوياتها اللغويّة والسيميائيّة. في المجموعة نموذجان بارزان للنسق الجفراويّ الصريح: "عودة جفرا" (17-28)، وقد تسمّت بها المجموعة كلّها، و"جفرا" (103-109). القصيدتان حالةٌ إجرائيّة تمثيليّة دقيقة للنسق الجفراويّ في الشعر الفلسطينيّ، على نحو ما سيلحق بيانه ونقاشه. والحديث عن الأولى يشمل الثانية وينعكس. عنوان المجموعة بلفظتيه الاثنتين، العودة وجفرا، يجمع القصيدتين جمعًا لا ينفصم. تتبدّى العودة على ثلاثة مستويات لغويّة لا تكون على انفصال: المعجميّ، الصرفيّ والتداوليّ (الكلاميّ). أمّا على المستوى المعجميّ فالعودة حضور بعد غياب أو قطيعة أو تغييب وتقطيع. وعلى المستوى الصرفيّ هي مصدر فعل. والمصادر أصول. والأصول تخليص وتلخيص. حين تتخلّص المصادر من مستلزمات الفعل، الزمان والفاعل، فإنّها تصير تلخيصًا للفعل وتكثيفًا وتأكيدًا على نقاء الفعل في ذاته. تخليص الفعل من الحاضنة الزمانيّة والفاعليّة هو محاولة لحصر النبر والثقل في الفعل نفسه. المصدر ديمومة والفعل وقتيّ ظرفيّ. التفريق بين "عودة جفرا" و"عادت جفرا" يخضع بالضرورة للعبة الفصل بين المركز والهامش. وهكذا يبدو لي أنّ "العودة" في العنونة المضاعفة هي تلخيص للمرّات الأربع التي ظهر فيها الفعل "عادت" في قصيدة "عودة جفرا". والعدد أربعة هو حالة شمول وإغلاق وإتمام وانتهاء وكمال مثلما تغلق الجهات الأربع وتطبق على المساحة الجغرافيّة. "عادت" فعلٌ لا يرتقي إلى مستوى "العودة" إلا إذا تردّد في متن القصيدة وتوالى مرّات عديدات. ولمّا ظهر أربع مرّات، بكلّ إيحاءات العدد أربعة وإحالاته، استحقّ أن يصير مصدرًا، واستحقّ أن يصير عنوانًا، وأن يصير مشبعًا بالمعاني النقيّة غير المخلوطة، أن يصير أيقونة فلسطينيّة، أن تصير العودة حقًّا نقيًّا ثابتًا مستمرًّا لكلّ فلسطينيّ. وفي مستواها التداوليّ (الكلاميّ)، العودة مفهوم أيقونيّ سياسيّ وطنيّ خاصّ بفلسطين وأهليها يعرفه القاصي قبل الداني. 
وكلّ هذه المستويات اللغويّة الثلاثة تتفاعل في تناغم تامّ كي تؤدّي معنًى جامعًا يؤسّس لمنظومة دلاليّة. ولأنّ للعودة عمقًا ثلاثيّ الأبعاد، على المستوى المعجميّ والصرفيّ والتداوليّ، فقد أفادت من أربع منظومات سيميائيّة: (1) السوابق (2) اللواصق (3) العوائق (4) واللواحق.. أما السوابق فتعني ما تحمله الألفاظ من معانٍ بصفة استباقية. هي التصوّرات والقناعات التي تستقرّ في الذهن والتي تجعل اللفظة بمعانيها الاستباقيّة نوعًا من المعاني النمطيّة الجاهزة. ولمّا كانت العودة حضورًا بعد غياب وتغييب أو ضياع أو ضلالة، كان لا بدّ أن تُشحن إذًا بمعانٍ إيجابيّة، منها البعث والتجدّد والرشد والهداية والإنابة بالمفهوم الفقهيّ. وكأنّ اللفظة لا تُعرّف إلا قياسًا بأضدادها المضمرة فيها مثلما يدّعي البنيويّون بحقّ. فنحن نثمّن "العودة" عاليًا لأنها تذكير لفظيّ بمعاني الغياب والضياع والانقطاع والضلالة. ومن هنا بالضبط، شُحنت "العودة" بمعناها الفلسطينيّ، أعني عودة المهجّرين الفلسطينيّين إلى وطنهم بعد تهجير وتغييب.. أما اللواصق فتعني المعاني المعجميّة المعياريّة الملزمة اللاصقة بالألفاظ نفسها. وهي لذلك أيقونات دالّة مباشرة على مدلولات بعينها. وهي، كما ورد على لسان الخليل في "مقاييس اللغة" لابن فارس، "تثنية الأمر عودًا بعد بدء". بهذا المعنى المعجميّ اللاصق و"المحايد" يصير السابق أفضل من اللاحق، يصير الماضي، قبل التهجير والتغييب والألم المصاحب لهما، أفضل وأجمل من الحاضر، وإلا ما الدافع إلى تثنية الأمر والعودة الإراديّة المحسوبة إلى نقطة البدء؟.. أما العوائق (المقحمات) فتعني المعاني التي تقتحم اللفظة/التركيب/النصّ بجهد فرديّ أو جماعيّ عابر أو مؤقّت. وهي من ضرورات تعمير النصّ وترسيمه على نحوٍ يصير فيه "مشبعًا" بالتفاصيل. وإشباع النصّ بالتفاصيل يعني شحنه بمعانٍ اجتهاديّة تقتحم اللفظة وترافقها. ولذلك هي أقرب تعبير عن مفهوم المعنى الظلاليّ. مثلما أنّ الظلّ ليس جزءًا عضويًا من الذات نفسها هكذا ليست العوائق من المعاني المعجميّة اللاصقة وإن كانت ترافقها كظلّها. فحين نسمع لفظة "عودة" يذهب تفكيرنا إلى المكان الذي كانت به جفرا قبل التهجير وبعده. ونتصوّر مسار عودتها ونتمثّله: أين كانت وأين ذهبت، متى وكيف ولماذا. وحين يتحصّل هذا التصوّر والتمثّل تبدأ التفاعلات الشعوريّة والفكريّة مع لفظة "العودة" بالتأثير على مسار القراءة والتواصل وتوجيهه نحو الأمل والتفاؤل. العودة في العوائق يتوسّطها الامتداد الزمنيّ والعمق الجغرافيّ والتاريخ الفرديّ والأسريّ والبلديّ والقطريّ. وهكذا تتّسع لفظة "عودة" وتتمدّد لتشمل بعضًا من مفاهيم الجماعة. والجماعة هي الشعب. والشعب يحلم بالعودة ويسعى إليها مثلما يحلم.. أمّا اللواحق فهي ما يُلحقه المتلقّي من دلالات اجتهادية غير ملزمة لا للمرسل ولا للجماعة. والعودة بهذا المفهوم قد تعني إسقاط التجربة الفرديّة على حالات حياتيّة، راهنة أو مستقبليّة، ونقلها من وحدانيّتها إلى حالة إنسانيّة شاملة. العودة بهذه الملحقات تتحلّل من سوابقها ولواصقها وعوائقها كي تصير مثالا جامعًا أو قيمة إنسانيّة عليا تعني الأمل والإصرار والتفاؤل، ليس للفلسطينيّين وحدهم بل للناس، كلّ الناس الذين يحلمون بعودةٍ من أيّ نوع كانت. العودة بكلّ منظوماتها السيميائيّة الأربع، من السوابق حتى اللواحق، هي مصدر لفعل مبارك يعني تصحيح الغبن مثلما يعني الانبعاث من موت محقّق في قلب الجبّ والنجاة من تيه الصحارى. 
كل توتّرات الألم والأمل، اليأس والتفاؤل، اختُزلت في شخصيّة جفرا. فجاءت جفرا رديفة لهذه التوتّرات وسيطرت على القصيدة وأدوات تعبيرها. وما يلفت النظر في جفراويّة الطبعوني قدرة الشاعر على ضبط الأعصاب والنفس الهادئ الطويل. ولعلّ انشغاله بالمظلوم، جفرا، و"إغفاله" للظالم، إن كان من "الأعدقاء" أو من غيرهم، هو هو ما حماه من الوقوع في إغواءات التعنيف والانزلاق الحادّ إلى الشتيمة الصاخبة. أعني أنّ الطبعوني بتركيزه على الأمل في فعل جفرا، وتغافله عن أسباب الألم، استطاع أن ينجو من إغراءات الكتابة الهجوميّة. وهذه من أسباب قوّة القصيدة الجفراويّة عند الطبعوني. 
يقول الدكتور رياض كامل في تقديمه للمجموعة: "الشاعر مولع بالترميز لدرجة قد ترهق القارئ فتحول دون إدراك بعض التراكيب، فيلجأ إلى فتح كوّة بديلة يلج المتلقّي من خلالها حتّى يتفاعل مع النصّ، باحثًا عن متلقّ يدرك معنى النور ويؤمن أنّ النار قد تحرق اليابس من الفكر فقط". بهذه الكلمات الشاعريّة المضغوطة، التي لا تجانب الحقيقة، يُجمل الدكتور رياض كامل شعريّة مفلح الطبعوني. وإن كانت في بعض تفاصيلها تحتاج إلى مزيد من الضبط في تقديري. اعتدنا أن نقسّم التعبير بصفة عامّة، والأدب بصفة خاصّة، إلى ثلاثة أنماط مركزية مثّلتُ لها بالتفصيل في كتابي "الإيجاز في الموروث البلاغيّ والقرآن الكريم" (2012)، أو أربعة أنماط تفصيليّة، فصّلتها بالتمثيل في كتابي "من التماس إلى الانزياح" (1993). تظهر هذه التقسيمات بأسماء مختلفة، وهي تحاول أن تضبط العلاقات المتوتّرة بين اللفظ والمعنى بين حدّي المباشرة والإبهام، بين المباح المتاح وبين المستغلق المطلسم. شعريّة الطبعوني تجاورٌ غير متكافئ بين ذينك الحدّين. وهذا التجاور مستفزّ. ما تكاد تشعر بالقبض على معنى النصّ كلّه حتّى تسحبك بعض التعابير العابرة إلى مناطق ظلاليّة في وعي الشاعر. أقول ظلاليّة ولا أقول معتمة. القراءة في شعر الطبعوني كالسفر في قطار يتهادى وهو يقطع سهلا جميلا ممتدًّا ثم يدخل فجأة إلى نفق قصير. ويظلّ على هذي الحالة من سهل مشمس جميل ممتدّ إلى نفق ظلاليّ قصير، ومن نفق إلى سهل حتى نهاية المشوار. لكنها تبادليّة تُقصي الملل وتوقظ العقل عند القارئ في كلّ مرّة قد يركن فيها إلى السكينة الرتيبة.   
في الأدب لا تجوز التأتأة إلا في التعبير. وجوازها واجب. مبدأ الشعر ومنتهاه هو الاحتيال على الحقيقة. وهو احتيال زئبقيّ لا يتحصّل إلا بالمجاز. السؤال: لماذا يصرّ الطبعوني، كغيره من الشعراء، على الالتفاف على الحقيقة بأدوات إجرائيّة يوفّرها المجاز؟ كلّ تناصّ مجاز ولا ينعكس. من أبرز آليّات المجاز في جفراويّة الطبعوني هي التفاعلات التناصّيّة في بنية القصيدة الواحدة والتشابكات العنكبوتيّة بين جفراويّاته وجفراويّات المناصرة. وهذه، بأنماطها وأشكالها الكثيرة، هي روح الشعر الحداثي وما بعد الحداثيّ كلّه. وهي تفاعلات وتشابكات ترتفع كلّها على كتفي جفرا العريضتين. وهكذا، ثلاثة أسباب متعالقة دفعت الطبعوني للحديث عن وطنه وشعبه بلغة جفرا: (1) لأنّ الحقيقة أكبر من أن تستنفذ باللغة المعجميّة المعياريّة. فيعود الشاعر إلى حاضنة زمكانيّة قد مضت وانقضت ليستعير منها بعض مادّتها. ولماذا هي أكبر؟ لأنّ الشاعر يراها كذلك بصرف النظر عن حجمها "الطبيعيّ الموضوعيّ". أعني أنّ الطبعوني يظلّ يكبّر الحقيقة حتى تعجز اللغة والزمان والجغرافيا عن احتوائها. ما يعني أنّ التفاعلات التناصّيّة في جفراويّة الطبعوني هي اعتراف فعليّ بتضخّم الوعي عند الشاعر إلى حدّ تعجز اللغة المعياريّة عنده عن أداء مهمّتها التوصيليّة والتواصليّة. فتصير هذه التفاعلات عدسة تكبير. (2) ولأنّ هناك رغبة تلحّ على الطبعوني في ضخّ المزيد من أدوات التعبير والكشف والإبانة. التفاعلات التناصّيّة هي تمثيل حالة بحالة. ولماذا التمثيل ما دامت الحقيقة واضحة ومعروفة؟ التناصّات هي من آليّات الغلوّ في التعبير. والمغالاة في التعبير هي من إفرازات الكشف. لماذا مثلا نلجأ إلى تشبيه العروسة الجميلة بالقمر ولا نكتفي بالقول إنها جميلة، علمًا بأنها قد تكون أجمل بكثير من القمر نفسه؟! لأنّ جمال العروسة قد كبر وعظم، في عيني المتكلّم، إلى حدّ لم تعد اللغة المعجميّة قادرة على احتوائه بكامل هيئته. فيسعى إلى لغة أخرى، لغة المجاز، رغبة في التعبير ومزيد من الكشف والبيان. (3) ولأنّ هناك ضرورة لتعميق فعل التواصل مع القارئ وتنشيطه. ما دامت التناصّات هي من أدوات الكشف والبيان وعين الشاعر على قارئ يعرفه ويعرف قدراته فيخاطبه بمزيد من الأدوات التعبيريّة رغبة منه في "الإقناع والتأثير". فقولك مثلا العروسة جميلة كالقمر، رغم أنه قول مهلهل ومهترئ، هو قول من شقّين الأول حقيقة والثاني مجاز. والغاية من الجمع بين الحقيقة والمجاز، مثلما يفعل الطبعوني في شعره، هي تفعيل آليّات التواصل مع القارئ وتنشيطها. وحين يشعر الشاعر بثقل الحقيقة يسعى إلى تقاسمها مع القارئ المرتقب. والتقاسم نوع من أنواع الكثارزيس أو التطهير.      

(2) الوطنيّة والتخريط
في الجفراويّتين يعتمد الطبعوني ما نسمّيه في الأدب بالتخريط. والتخريط هو ترسيم حدود. وترسيم الحدود هو صون الجغرافيا وتحويلها إلى وطن. مثلما يحوّط الفلّاح أرضه بالسلاسل الحجريّة كي يحميها يحوّط الطبعوني وطنه بالخريطة، يعيّن أجزاءه ويوصّف تضاريسه ويذكر أسماءه. والتخريط في الجفراويّتين على نوعين، مثلما هي على نوعين في جفراويّات المناصرة أيضًا، تعيين وتعميم، تخريط تسمية وتخريط إهمال وإطلاق. وهكذا تظهر حيفا ويافا وعكا والناصرة بأسمائها الأيقونيّة الحقيقيّة، وقد تظهر تضاريس الوطن بأدوات الإشارة أو التعريض أو التلويح. قد يكون السور في القصيدة إشارة إلى سور القدس أو عكا، وهكذا. وقد تكون الإشارات أبعد من ذلك، نحو أحجار الدار والصوّان والصبّار والأعناب والتين والقمح والمزمار.. وهذه كلّها من أشياء الوطن ومادّته ومستلزماته تُحيل إليه بإشارة يفهمها اللبيب والغشيم. بالتخريط تصير جفراويّة الطبعوني وطنيّة. أعني أنها تركّز على الوطن نفسه وأهله بكلّ تضاريسه وشعابه وهضابه وسهوله وسمائه ووديانه. ولو عدنا إلى المفردات الجغرافيّة، المسمّاة والمهملة، لوجدناها تحتلّ فضاء النصّ كلّه.
الخلط بين المرأة والجغرافيا هو ثيمة شعريّة قديمة مأنوسة في الشعر العالميّ كلّه. وحين تصير المرأة معادلا أو نظيرًا للجغرافيا تتبدّل الجغرافيا إلى وطن. وكأنّ قيمة الوطن وملحقاته الشعوريّة لا تتحصّل إلا بجمعه مع امرأة أو تحويله إلى امرأة. وحتى تؤدّي وظيفتها الشعوريّة، على هذه المرأة أن تكون جميلة عاشقة معشوقة باكية متألّمة طافحة بالمشاعر إلى حدّ الوجع. فالوطن سكنٌ مثلما أنّ المرأة سكنٌ يسكن إليها الرجل والأسرة. كلاهما يمنح السكنى والسكينة. في جفراويّة الطبعوني صارت جفرا إنسانًا، بعيدًا عن ضيق التعريفات الجندريّة العتيقة، ولم تعد محصورة في هويّتها الجنوسيّة، كي يقول إنّ الفصل بين فلسطين والفلسطينيّ أمر متعذّر. ما يحيلنا مباشرة إلى فكرة تورّط الإنسان بوجوده في التفكير الوجوديّ إلى حدّ فقدان المشيئة... بهذا المفهوم تصير العلاقة بين المرأة وخريطة الوطن، بين الفلسطينيّ وفلسطين، علاقة تقنّع أو تقمّص وليست توازيًا بين منفصلين مستقلّين.      

(3) القوميّة والتناصّ
التناصّ من مضادّات التفكير القوميّ الساذج في النسق الجفراويّ. جفرا هي حساب التفافيّ ذكيّ مع العرب، مع أنظمة العرب، مع دول العرب. حتى أنها بعمقها الفلسطينيّ الخاصّ والشعبيّ تعلن وطنيّتها الفلسطينيّة وانسحابها من الامتداد العربيّ بصورة تظاهريّة استفزازيّة. وكأنها تقول، كأنها تقول، رموزنا من فلسطين غير مستوردة من تراث أحد ولا حتى العرب. لو بحثت عن القوم الممتدّ من بلاد النفط شرقًا إلى جبل طارق غربًا لوجدته مستبعدًا مغيّبًا. الأدب الفلسطينيّ على العموم أدب وطنيّ وليس قوميًا. أعني أنه مسكون بهموم فلسطين وليس بالعروبة، وخصوصًا بعد نكسة 1967. والمقولة الشعبيّة الرائجة على ألسنة الفلسطينيّين "العرب جرب" معروفة. وهي مشحونة بكثير من المرارة وخيبة الظنّ.
"عادت جفرا/من قلب الجبّ/عادت تحمل أوجاع الحبّ"(ص 18). والعودة من قلب الجبّ إحالة تناصّيّة أيقونيّة إلى قصّة نبيّ الله يوسف الذي خذله إخوته. والقصّة تحمل معاني الخذلان وظلم ذوي القربى. وجفرا أبقاها الأعداء الأصدقاء، "الأعدقاء" العرب حسب تعبير المناصرة، في الجبّ تصارع وحدها مثل الأيتام على موائد اللئام. ألقوها في الجبّ وتركوها وظنّوا أنهم تحرّروا منها وتحلّلوا من الحساب. لكنّ جفرا أثبتت لنفسها ولهم وللعالم تشبّثها بالحياة فعادت. وعودتها لا تخلو من حزن ووجع في القلب. صحيح، لكنها صرفت نفسها عن الانتقام، والانتقام خراب، وأشغلت بالها بأسباب العطاء والتعمير والسعي إلى غيم صيّب يعقبه خصب. "جفرا عادت من عمق الصحراء/عادت تحمل رائحة النزف"(ص 27). والعودة من عمق الصحراء إحالة تناصّيّة توافقيّة. أعني أنّ الصحراء هنا هي إشارة مأنوسة إلى العالم العربيّ بالتوافق والتراكم. سميح القاسم في سربيّته "خذلتني الصحارى" (1998) أفضل مثال على ذلك وأعمق. عمق الصحراء، مثل قلب الجبّ، هو "الظهر" العربيّ الرخو المائع المتخنّث المتهالك. 
الجفراويّتان في مجموعة الطبعوني هما حواريّة تناصّيّة تناغميّة واحدة مع جفراويّات المناصرة. أعني بالحواريّة التناغميّة المناجاة والغزل. لا يناقش الطبعوني المناصرة في منحاه الفلسطينيّ وفي تأكيده لهويّة القصيدة الفلسطينيّة بل يكمله ويؤكّده ويبيّنه ويجيب عن أسئلته ويتفاعل مع تحذيراته وشكوكه وخيباته. حين يقول المناصرة في قصيدته "جفرا": "منْ لم يعرفْ جفرا فليدفن رأْسَهْ/من لم يعشق جفرا فليشنق نَفْسَهْ/ فليشرب كأس السُمِّ الهاري يذوي، يهوي ويموتْ" يجيبه الطبعوني بالأسلوب الشَّرطيّ نفسه: من لم يعرف جفرا/فليسبح فوق الرمل/تحت الرمل/وليبك من شهق الرعب..".  لكن ما يعنيني الآن أنّ الطبعوني يؤكّد للمناصرة بأنه يعرفها جيّدًا. وحتى ينأى بنفسه عمّن لا يعرفها من الأعداء الأصدقاء (الأعدقاء) يكرّر الطبعوني معرفته بها خمس مرّات: ثلاث مرّات بالإفراد (أعرف ص 21) ومرّتين بالجمع (نعرف ص 23). وكيف لا يعرفها وهي فلسطينيّة من لحمه ودمه؟! وحين تكون القصيدة دفعًا للتهمة المحتملة ودفاعًا عن النفس من تهمة الجهل بجفرا، أو إنكارها أو التنكّر لها، يلجأ الطبعوني إلى الأسلوب الدراميّ الذي يُفيد كثيرًا من التكرار اللاهث وحركة الأفعال والإيقاع السريع والجمل القصيرة. قصيدة المناصرة "جفرا"، الذي يقتبس الطبعوني منها، هجوميّة في نزعتها (دفن، وشنق، وسمّ هارٍ، وموت..). قصيدة الطبعوني دفاعيّة (فليسبح، وليبك، وليسكن). وهي أفعال أقلّ عنفًا ودمويّة من أفعال المناصرة. هي أفعال في محصّلتها النهائيّة سعيٌ إلى الحياة رغم إرادة الأعدقاء. تحلم بالغيم/تنهل من نبع الخصب/تفتح صدر النوّار/تزرع حبوب العشق/تحصد أعشاب السمّ/ تتلاقح مع حبّات التين/تعجن طين التنّور/تتمازج مع زيت الزهر.. قصيدة الطبعوني أهدأ وأكثر تفاؤلا وأملا. وكلّ شيء يُقاس بالمقارنة والمفاضلة. قصيدة المناصرة توصيفيّة مشغولة بتوصيف جفرا، بجفرا نفسها وتعريفها. قصيدة الطبعوني مشغولة بفعل جفرا. وهل ينفصل الفعل عن فاعله؟! يبدأ الطبعوني من النقطة التي توقّف عندها المناصرة بالضبط كي يتمّم واجبات الجفراويّة ومستلزماتها. 
جفرا الفلسطينيّة هي عماد التناصّ في النسق الجفراويّ. فصارت بسرديّتها الإنسانيّة وشحنتها المأساويّة وحمولتها الشعوريّة معادلا لفلسطين الوطن الضائع. ما يعني أنّ الطبعوني ضرب عصفورين بحجر واحد: أنسن الوطن حين جعله جفرا وشيّأ جفرا حين سوّاها وطنًا. ما "يغفر" للطبعوني هذا التشييء الجميل هو وحدة الحال بين شقّي الاستعارة. في كلّ استعارة وتشبيه شقّان متعاكسان: حين تقول "العروسة قمر" فقد جعلت الأولى شيئًا والثاني إنسانًا. والسؤال: من خرج رابحًا من هذه الصفقة التبادليّة، أهي العروسة أم القمر؟ ومن خرج خاسرًا في تبادل المواقع والأدوار؟ كلّ استعارة تشبيه جزئيّ، ظهر أحد بعضيه (المشبّه أو المشبّه به) وأُخفي الآخر. الأصل أن يفيد المشبّه من المشبّه به. ما يعني أنّ العروسة هي الرابحة من تشبيهها بالقمر مثال الجمال. لكن، لماذا لا يكون القمر رابحًا من تشبيه العروسة به وهو مجرّد مثال للجمال بالتوافق وليس في الحقيقة؟ من قال إنّ القمر أجمل من العروسة وهو كوم تراب لا زرع فيه ولا ضرع، لا يضيء إلا بفضل الشمس؟ لقد أتيت بهذا التشبيه المبتذل والمهترئ لقوّة الشبه بينه وبين جفرا والوطن. وفي 

الأخير، قصدت القول إنّ الوطن لا يمكنه أن يعلو بقيمته ومنزلته على الإنسان الفلسطينيّ. ولولا هذا الفلسطينيّ لظلّت فلسطين جغرافيا.. مثل "القمر" في التشبيه. 
لكن من هي جفرا هذه؟ جفرا فلسطينيّة بصرف النظر عمّا إذا كانت هي رفيقة نايف حمادة الحسن، التي عشقها قريبها الشاعر الشعبيّ أحمد عبد العزيز علي الحسن، أو أحمد عزيز كما يناديه أهل قريته كويكات قضاء عكا، أو جفرا اسماعيل النابلسي، تلك التي عشقها عزّ الدين المناصرة، والتي استشهدت بغارةٍ إسرائيليّة على بيروت. يبدو لي أنّ قصّة المناصرة مع جفرا النابلسيّة هي التي دفعته وحضّته على البحث عن قصّة جفرا الكويكانيّة لأنها الأصل.. لكن، هذه تفاصيل لا تعنينا في هذا المقام لأنها انتقلت من الواقع إلى اللغة/الشعر. فصارت تعنينا كحالة لغويّة شعريّة تمامًا كما تعني الطبعوني. والطبعوني مثلنا ليس له علاقة واقعيّة مباشرة لا مع جفرا الأولى ولا الثانية. ما يجمع جفرا أحمد عزيز مع جفرا المناصرة هو الواقع الحقيقيّ، هو الانتماء الفلسطينيّ، هو الحبّ، هو وجع الفراق والتفريق وهو المهجر والمنفى.. وكيف لا تلتئم الجفراوان في واحدة وكيف لا ترتقيان، بعد هذا كلّه، من الواقع إلى اللغة ومنها إلى الشعر؟! في جفراويّة الطبعوني تأميم مضاعف. صادر الطبعوني جفرا من ملكيّة أحمد عزيز وعزّ الدين المناصرة ليجعلها فلسطينيّة لكلّ فلسطينيّ أينما حلّ وارتحل. ومن هناك أنسنها فصادرها من حاضنتها الفلسطينيّة أيضًا ليجعل منها رمزًا إنسانيًّا حضاريًّا عالميًّا.. وفي الحالين قفزٌ عريض عن العرب.  
في مجموعة الطبعوني جفراويّتان نموذجيّتان، الأولى "عودة جفرا" والثانية "جفرا". الأولى تؤكّد العودة والثانية تؤكّد فاعلها. الفعل ثمّ الفاعل. تقسيم بليغ وجميل في توزيع الثقل والنبر. الأولى تأكيد المعادلة التفاؤليّة "القهر يتبعه انتفاض". الثانية تأكيد المعادلة "لا يحرث الأرض إلا عجولها". العجول الغريبة تدكّ "مثل حراث الجِمال اللي بتحرثه بتعكّه وبتدكّه". حتى أنّ المباعدة بين الجفراويّتين في مجموعة الطبعوني تدلّل على هذا التعالق العضويّ بين الفعل والفاعل. قصيدتان تتعانقان في تفاعل توالديّ جميل.. "جفرا" الطبعوني هي حواريّة فكريّة ولفظيّة مع قصيدة "جفرا" المناصرة التي يخاطب فيها أعداء الثورة الفلسطينيّة من الداخل والخارج. وهكذا كان لا بدّ أن تنشغل القصيدتان بجفرا الفلسطينيّة وتوصيفها وإثبات وجودها المصيريّ الحاسم. 

(4) الإنسانيّة والأنسنة
في جفراويّة الطبعوني تناصّ مثلّث الأضلاع: جفرا تعود من الضياع والشتات، يوسف ينجو من الجبّ مثل العنقاء تنبعث من قلب الرماد.. وكأنّ الطبعوني في هذا التثليث يجمع الأسطورة إلى الأسطورة والقصّة إلى الحكاية ليجعل منها كيانًا واحدًا. وكأنّه يحاول بهذا الجمع أن يرفع جفرا مقامًا عاليًا، أن ينقلها من حاضنتها الفلسطينيّة لتصير حضاريّة عامّة إنسانيّة جامعة. جفرا، في كلّ صيغها، أيقونة فلسطينيّة ارتقت بقوّة الحقيقة إلى قداسة الحالة ومن الحالة إلى مستوى الأسطورة. أسطرة جفرا جعلتها نسقًا شعريًّا منتظمًا. لم يطق الفلسطينيّ أن تظلّ جفرا في حدود الحقيقة التاريخيّة فرفعها مقامًا عامًّا. ولم يطق الشعراء، وعلى رأسهم المناصرة والطبعوني، أن تظلّ حالة فرديّة فكثّروها وجعلوها جماعة، جعلوها شعبًا. ولم يطيقوا أن تظلّ صغيرة محدودة فكبّروها وجعلوها وطنًا بطوله وعرضه وعمقه. لعبة الترقية والتكثير والتكبير هي محاولة للتدليل على الكبير بالصغير. وقد مثّل الله تعالى لنوره بنور مصباح من زجاج في مشكاة. وهل يستويان؟! إذًا قرار الترقية والتكثير والتكبير هو ضرورة شعريّة حتى لو كانت هذه الضرورة مبنيّة في الحقيقة على حالة مأنوسة و"مبتذلة". على حدّ علمي ليس للطبعوني جفرا، يعرفها ولا نعرفها، مثلما كانت لأحمد عزيز ولعزّ الدين المناصرة. والله تعالى أعلم. إذا كان الأمر كذلك، فما له يتغنّى بجفرا ليست له بصفة شخصيّة؟ ما فعله الطبعوني إذًا هو فعل مصادرة.  قرار الترقية والتكثير والتكبير هو تخليص جفرا من زمكانيّتها وملكيّتها الأصليّة وجعلها ملكًا للطبعوني مثلما هي ملك لأحمد عزيز والمناصرة.. للشعر ضرورات وشروط وأشراط. حتى يستوعب الشعر شريحة من الواقع لا بدّ أن يعدّلها، يجمّلها، يرقّيها، يكثّرها، يكبّرها.. باختصار، لا بدّ من تشويه الحقيقة وتزويرها الى حدّ الكذب. وهل هناك ما هو أجمل من الكذب في الشعر؟! لولا هذا "الكذب" لصارت القصيدة قصيدة مناسبة أو مقام احتفاء بذكرى "امرأة عاديّة" خاصّة. 
لم تعد قيمة الأدب الفلسطينيّ في فلسطينيّته المتجرّدة. أعني لم تعد قيمته في تعرّضه لقضيّة فلسطين، بسوابقها وعوائقها المعنويّة، كحالة تاريخيّة سياسيّة خاصّة. صارت قيمته في قدرته الجماليّة على تجاوز المقام إلى حالة إنسانيّة عامّة. لوتساءلت مثلًا كيف تظهر مصريّة يوسف إدريس في قصصه؟ وعند هذا السؤال ينبغي التفريق بين أمرين: مادّة الواقع والقيمة التي قد تنسل منها. مادّة الواقع مصريّة في حالة إدريس وفي حالة الطبعوني هي فلسطينيّة. لكنّ إدريس استطاع أن يصوغ منها، بأدواته الأدبيّة الجماليّة المميّزة، أفكارًا وقيمًا عامّة. مثلما استطاع الطبعوني أن "يستغلّ" فلسطين ليخاطب العالم بأفكار وقيم، كالتشبّث بالحياة والتوق إلى الكرامة والحريّة وإحقاق الحقّ. عندما يستطيع القارئ أن يترجم التفاصيل الفلسطينيّة في بنية القصيدة إلى منظومة قيم إنسانيّة تتحقّق "عالميّة" الأدب. لو ظلّ محمود درويش يلهث وراء المادّة الفلسطينيّة المباشرة ولم يجرؤ على "التلاعب" بها ولم يتمادَ في تصنيعها وأنسنتها لظلّ أسيرًا في شعريّة "إلى أمّي" و"سجّل أنا عربيّ". على العموم، حين يكون الشعر لاصقًا بالحقيقة يكون شعر مقام، أو مناسبة، وحين يكون منظومة وعظيّة يكون الشعر شعارًا. أدرك الشعراء الفلسطينيّون هذه المعادلة منذ عقود قليلة فجعلوا فلسطين الحقيقة منصّة يقفزون منها إلى نظام قيميّ يفيد منه الإنسان أينما حلّ وارتحلّ. 
أن تكتب شعرًا حداثيًّا من مادّة تراثيّة شعبيّة كأن تبني بيتًا عصريًا بعض حجارته من بيت حجريّ قديم. ونحن نرى هذه الظاهرة الجميلة كثيرًا في قرانا ومدننا. الجفراويّة هي كذلك، هي مصالحة فنّيّة جميلة بين الفوقيّ والتحتيّ، بين النخبويّ والشعبيّ، بين العصريّ والعتيق. حين ترتفع جفرا من قاع الواقع إلى مصافّ الشعر الحديث فإنّ الشاعر يؤسطرها ويجعلها في مقامها الأسطوريّ الجديد كمقام عشتار وأفروديت وفينوس ومثيلاتهنّ. 

تذييل
أظهر النقاش في الجفراويّة أربع أفكار كبرى: متلازمة الألم والأمل، الحالة الوطنيّة، الحالة القوميّة، والعمق الإنسانيّ. وأثبت أنها تتناغى مع أربع آليّات توافقها بالترتيب: الحقيقة والمجاز، التخريط، التناصّ، والأنسنة/الاستعارة.. الجفراويّة بهذا الترسيم النوعيّ، الرباعيّ المضاعف، تمثّل الوجهة العامّة لتجربة مفلح الطبعوني الشعريّة. ما يعني أنّ مفلح الطبعوني جفراويّ في فكره وأسلوبه.  
ما يفرق بين الجفراويّة والأنساق المأنوسة في الشعر الفلسطينيّ هو إصرارها على أن يكون التنصيص فلسطينيًا أيضًا. أن تكون القصيدة في تكوينها وتشكيلها وصنعتها فلسطينيّة. لا يكفي أن تكون الأفكار فلسطينيّة بل على الشكل أيضًا أن يكون فلسطينيًا. وكأنّ الطبعوني، والمناصرة من قبله، ينحاز إلى فلسطينيّته حتى في مادّة البناء والتنصيص. حين قال محمود درويش أنا يوسف يا أبي فقد صاغ وجعه الفلسطينيّ من مادّة لا تنحصر في الفضاء الفلسطينيّ حتى وإن كان يوسف فلسطينيًّا. لأنّ نبيّ الله يوسف لم يولد ولم يُبعث أصلا ليؤدّي رسالة وطنيّة فلسطينيّة بقدر ما جاء ليرسل رسالة إنسانيّة عابرة للزمن. أمّا جفرا فهي من بيت فلسطينيّ نقيّ في قصّتها ومنشئها التراثيّ وتفاصيلها وعمقها وتداعياتها ومرادفاتها، كالحبّ والحرمان والألم والقتل والهجر والمنفى.. والأمل. من عمق فلسطينيّتها سارت جفرا في مسار أفقيّ أحاديّ الاتجاه إلى فضاء العالم.     

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب