news-details

الخطاب الأيديولوجي في رواية "سيرة بني بلوط" (2)

إن مراجعة قطعة "الجرة" التي افتتح الروائي بها روايته تحيلنا إلى نهاية أربعينيات القرن العشرين، وإلى شكل البيوت من الخارج والداخل، إلى أزقة القرية، إلى الأثاث الذي كان يستعمل في تلك الأيام، إلى شكل الأرض وعلاقات الناس بها، وأهمية هذه العلاقة، كمصدر رزق أساسي، وإلى نوع النباتات والحشائش، مثل "الخافور" و"السبيلة" و"البسباس"، وإلى الحيوانات والطيور وطريقة تعامل شخصيات الرواية مع هذه العناصر كلها.

 إن هذه القطعة صورة حية لأسلوب حياة الإنسان الفلسطيني بكل حيثياتها وأبعادها. وللزمان والمكان علاقة وثيقة بشخصيات الرواية التي يجب أن تتلاءم تصرفاتها وروحَ العصر وفضاءه. فلهذه الشخصيات أسلوب حياة وطريقة تفكير، لها عاداتها وتقاليدها وخرافاتها، وحكمتها ومكرها وجهلها وقلة حيلتها في التعامل مع مستجدات الأمور، وهو ما انعكس على طريقة مواجهة أهل القرية، أسوة بأهل البلاد، لليهود الذين ينافسونهم في السيطرة على الأرض، مزودين بأسلحة حديثة وعتاد متطور لا تنفع معه العصي والمناجل.

إن الفضاء لا يتوقف عند بعده الجغرافي، ولا يقتصر عليه، وهو ليس جبلا، أو سهلا، واديا أو بحرا، بل هو المحيط العام في زمن بعينه، حيث تحيا شخصيات معينة ترتبط ارتباطا وثيقا بزمكانية مميزة عبر تقاليدها وعاداتها، قيمها، أخلاقها، همومها، أفراحها، ملبسها، مشربها، لهجتها ولغتها. فتتكرر في الرواية أسماء المواقع، أسماء الطيور، أسماء النباتات، أنواع المأكولات والأدوات بشكل ملفت للنظر. (انظر الرواية، ص47-49) 

إن تصوير الفضاء بكل مكوناته وعناصره أشبه بالديكور في المسرح، وفي الرواية هو جزء من واقعيتها، مشيا على عادة الروائيين الواقعيين، وقد رأى مؤلفا كتاب نظرية الأدب أن الاهتمام التفصيلي بالفضاء يعود إلى عصر "الرومانتيكية الواقعية". (Wellek, p.220) فإن كان محمد علي طه يجهد لكي يُصنَّف، من خلال روايته، ضمن كتّاب الواقعية الاشتراكية، فإنا نرى أنه يجمع ما بين الرومانتيكية والواقعية.

لماذا ألف الكاتب روايته؟ أو ما الدافع إلى ذلك؟ سؤال يطرح نفسه مع كل قراءة. إن وضعية الكاتب العربي الذي مرّ، ولا يزال، في تجربة فريدة بهمومها، وإشكالاتها، وتعقيداتها دافع ملحّ لخوض غمار تلك التجربة. إنّ العربي الفلسطيني ما انفك يعيش تبعات "النكبة" و"النكسة" حتى اليوم ملاحقا بأسئلة لا تبرح ضميره ووجدانه وعواطفه: ماذا حدث؟ لماذا؟ وكيف؟ أين الخطأ والصواب؟ أين كنا؟ وأين أصبحنا؟ إنها أسئلة ملحة لم تترك كتابنا، روائيين وشعراء، دون تناول هذا الوضع المعقد. إن "نكبة" 1948 أفرزت حالة مأساوية فريدة من نوعها بعد أن ترك الغالبية العظمى من أبناء الشعب الفلسطيني قراهم ومدنهم إلى الشتات يكابدون ألم الغربة، ولم يبق في البلاد سوى قلة مجروحة مفككة تعيش واقعا جديدا في ظل دولة باتت فيها أقلية بعد أن كانت أكثرية. 

من هنا لا يمكننا فصل الفضاء بأمكنته ومركباته كلها عن الأيديولوجيا الموجهة للروائي، لأن مركبات الفضاء هي جزء من الكاتب، يسعى إليها بكل جوارحه لترسيخها وحفظها خوفا عليها من التلاشي والضياع. إنه دافع خفي أكبر من مجرد وسيلة يلجأ إليها الكاتب عمدا، بل هي نبض لاإرادي يتفجر عبر الفضاء محسوسا وملموسا ومصوّرا بلغة ومفردات لها فرادتها عبر التصاقها بالزمان والمكان الخاصين بأحداث الرواية. إن الحنين والذاكرة، معا، يلعبان دورا هاما، وحافزا لاإراديا لتحريك عناصر الفضاء حفاظا على الكيان والوجود الإنساني. 

إن الرواية ليست تاريخا جافا، بل إنها تشارك الشعر في كونها مشاعر وأحاسيس وعواطف، فضلا عن مركباتها الأخرى. إن الفضاء في هذا السياق دليل وجود مادي وعاطفي، لذلك تجهد الشعوب في ترسيخ وجودها عبر الأمكنة والمحافظة عليها إثباتا على الوجود والكينونة، ودليلا على البقاء، وهكذا يتحول المحسوس إلى دلالات وجدانية.

يذهب بعض المنظرين مثل جورج ماتوري إلى التشديد على أهمية الفضاء في حياة الإنسان بحيث يرون بأن له قوة قادرة على اختراق حياتنا كلها معيشا وكتابة. (نجمي، ص40) "وإذا كان علينا أن نستعير تعبيرا لغابريئيل مارسيل، فسنقول بأن الإنسان غير منفصل عن فضائه، بل إنه هذا الفضاء ذاته". (السابق) من هنا نرى إلى أهمية التوكيد على رسم الفضاء في رواية محمد علي طه سيرة بني بلوط، وكأنه من خلال تصوير الأماكن، بأبعادها وحيثياتها يسعى إلى ترسيخ المكان في وجدان القارئ، والتأكيد على أهمية هذا الإطار العام في حياة الإنسان الفلسطيني، خاصة وأنه يعيش "غربة" زمانية ومكانية عبر تغير معالم الأرض والبيت والشارع والزقاق والنبت والشجر. وربما، دون وعي منه، يسعى إلى ترسيخ هذا الواقع الزمكاني في وجدانه هو كإنسان قبل أن يكون روائيا. 

لا نبغي الدخول في الوصف ودوره بشكل مفصل، لكن يجب علينا أن نؤكد على أهميته كلغةضمن زمانية معينة لا تحيد عنها أبدا، وإن لم يتمكن الروائي من توظيف لغة غنية، فإنّ الوصف ليبدو منبتّا عن أصوله الزمانية، مجافيا لواقعه، غريبا على القارئ. وللوصف وظائف عدة منها التخييلية، والمجردة والاستشرافية. (للمزيد انظر: عبد اللطيف محفوظ، وظيفة الوصف في الرواية)ويرى جيرار جينيت أن للوصف دورين أساسيين، الأول ذو طابع تزييني ويشكل استراحة للقارئ وسط الأحداث السردية، ويكون له دور جمالي خالص مثل دور النحت في الصروح الكلاسيكية، أما الوظيفة الكبرى الثانية للوصف فهي ذات طبيعة تفسيرية ورمزية في نفس الوقت. (جينيت، ص76-77)

إننا نؤكد أن الوصف عنصر هام من عناصر الرواية لأنه يكمل السرد ولا ينفصل عنه، وفي روايتنا هناك اهتمام كبير بهذا العنصر مما جعل الفضاء يتحول إلى مركب هام جدا من مركبات الخطاب الروائي، وبالتالي لعب الفضاء دورا مهما في بناء الشخصية المركزية، وفي التعريف بأهم مواصفاتها، فاكتملت واتخذت هيئتها بانسجامها مع الفضاء العام للرواية. إن صورة القرية بكل مركباتها ليست مجرد زخرف أو زينة، فالقرية مكان جميل فيها مركبات عدة لا يمكن لأبنائها العيش بدونها، بل تستحق النضال من أجل حمايتها كي يحمي أبناؤها ذاتهم ومستقبلهم. ولذلك هناك اهتمام بارز بتصوير القرية بكل مركباتها وعناصرها من جغرافيا وأدوات وأمكنة، مرورا بناسها وحيواناتها لتكوّن مع بعضها صورة عزيزة على نفس الراوي والروائي في آن معا، لتنتقل فيما بعد إلى المتلقي ليكتمل الخطاب الروائي، وتتحقق الرسالة التي يحملها هذا الخطاب في تواصله مع المتلقي.

 

  1. الشخصية الرئيسية

نعلن بداية أن ولوج عالم الشخصيات يتأتّى من زاوية الرؤية التي تؤمن بالعلاقة الوثيقة التي تربط بين جميع مركبات وعناصر الخطاب الروائي، "ذلك أن الروائي أكثر تنبّها إلى العلاقات التي توجد بين الشخوص التي يبدع، والعالم الروائي الذي يحيط بها. فهو يقيم الديكور الذي يتحرك أبطاله في داخله لكي يتيح لنا أن نراهم رؤية جيدة". (كولدنستين، ص19) فلقد بينا، أعلاه، أن وصف المكان هو وصف لمستقبل الشخصية كما يرى المنظّر فيليب هامون، "فحيث لا توجد أحداث لا توجد أمكنة فيما يعتقد جورج بولان، والمكان لا يظهر إلا من خلال إحداثية زمنية يندرج فيها، كما يرى جيرار جينيت، ومنظور السرد هو الذي يحدد أبعاد الفضاء الروائي ويرسم طوبوغرافيته، على حد قول فرانسواز روسم". (بحراوي، 2002، ص6).

قبل الخوض في التحليل والدراسة علينا أن نطرح بعض التساؤلات التي تساهم في فهم الشخصية المركزية وما يتعلق بها: من هو بطل الرواية؟ ما هي مواصفاته؟ من أي بيئة أتى به الروائي؟ ولماذا؟

إن أخلاق الناس وتصرفاتهم لها علاقة وثيقة بالمكان، فساكن القرية يختلف عن ساكن المدينة، وساكن المدينة اليوم مختلف عن ساكنها في الماضي. وهكذا الملبس والمشرب واللغة واللهجة. (الماضي، ص39-40) يقوم الكاتب ببناء الشخصية المركزية بشكل تسلسلي، لكن ذلك يسبقه مقدمة عبارة عن فصل كامل بعنوان "الجرّة"، (الفصل الأول من الرواية) يخبرنا فيه الراوي أن الوالد قد توفي تاركا وراءه جرّة مخبّأة تحمل سرا. يقوم الأبناء والوالدة بفتحها فيجدون فيها مخطوطا. كان ذلك مفاجأة لهم جميعا إذ يكتشفون أن والدهم كان يجيد القص، وأنه كان يدوّن ذكرياته وأسراره. أما الفصل الثاني فهو بعنوان "أنساب الأشراف" ينتقل فيه السرد إلى السارد الرئيسي/الشخصية المركزية بضمير المتكلم الذي يتّبع أسلوب السرد التسلسلي حتى نهاية الرواية.

نتعرف إلى مصطفى بلوط الشخصية المركزية بدءا من عهد الطفولة حتى الحاضر، زمن توقف السرد. كما نتعرف إلى جذور الشخصية منذ الوالد جابر بلوط وما صادفه من تحديات ومغامرات تدل على رجولته وشجاعته، مما اضطره إلى الرحيل والهجرة حتى وصل إلى قرية غريبة هي قرية "كفر الزعتر". يقع هناك في حب فتاة من النظرة الأولى فتصبح زوجة جابر وأم مصطفى. يقتل المحتلُّ الإنجليزي جابر بلوط تاركا وراءه أرملة صغيرة فريسة لعيون الرجال، وطفلا في مقتبل العمر. يكبر الطفل حاملا جينات والده الرجولية، التي تتفتح وتتكشف لأمه ثم لمحيطه وبيئته منذ سن مبكرة.

هذه الخلفية ما هي إلا تمهيد لما قد يحدث مستقبلا، من ناحية، وهي، من ناحية أخرى، وضع للّبِنات الأولى في بناء شخصية تحمل مواصفات الإنسان الشجاع الذي واجه صعوبات الحياة ومشاقها على أكثر من صعيد؛ أب شجاع مغامر يتعرض للملاحقة من مجتمعه، يقتله الإنجليزي المحتل، وأم قوية شريفة ومكافحة من أجل لقمة العيش، تبذل قصارى جهدها للحفاظ على عرضها وعلى ولدها رافضة أن تتزوج بعد جابر بلوط، وهناك بيئة اجتماعية فقيرة يكدّأهلها من أجل توفير لقمة الخبز، ومجتمع كامل يتعرض للظلم من المحتل والإقطاعي معا. وكان والده قد غرس فيه حبّ الأرض أولا وصفة الشجاعة ثانيا. 

فعندما يقوم الابن بتصوير والده وهيئته وشكله، فإن القارئ يتلقف صورة الأب غير مفصولة عن الفضاء والبيئة والمحيط: "وقف بجوار شجيرة البطم وفحص المكان بعينيه السوداوين الصغيرتين مثل عيني النسر". (الرواية، ص16) إن المتابع لقراءة الفقرة المتعلّقة بصورة الأب فسيراه مُعملقا في عيني الابن، كما هي العادة، أصابعه غليظة، ويملك عينين كعيني النسر، وكلامه مختصر دون حاجة إلى الإفاضة، ولا يجرؤ الطفل على طرح الأسئلة لأنه لن يتلقى إجابة ترضيه. إنّ الصور والتشبيهات التي ترد هناك هي جزء حيويّ من البيئة القروية والأجواء الفلاحية من نبات وتراب وأدوات. هذا المكان هو جزء حيويّ من شخصية الوالد فهو فلاح يده متشققة ولونه بني كلون التراب الذي يحفره يوميا، وصورته خشنة كأدواته التي يستعملها، وهناك ارتباط وثيق حميم ما بين الأرض والإنسان، فهي كرامته وعرضه ومصدر رزقه وضمان امتداد للأجيال القادمة.

هذه الصورة المُعملقة للوالد وطريقة تصرفاته وارتباطه بالأرض هي عبارة عن خلفية لدور الابن الذي سيكبر ويتطبع بصفات والده في القوة الجسدية وفي الشجاعة وحب الأرض والارتباط بها والذود عنها. 

تكبر هذه الشخصية في ظل هذه الظروف الصعبة ليصبح فتى تتكشف شجاعته تدريجيا أمام أترابه، وأمام من هم أكبر سنا، يتغلب على بعضهم جسديا ويقوم بمغامرات فلاحية تصل أخبارها إلى أبناء البلد، فتتفتح أعين الحاسدين، والمختار والأفندي من ناحية، وعيون العذارى من ناحية أخرى، حتى جّرته إحدى نساء الأفندي إلى سريرها معجبة بشجاعته وجماله، يكتشف الزوج صدفة هذه العلاقة، فيهرب مصطفى خوفا على نفسه تاركا أمه وحيدة في القرية. يصل إلى المدينة ويتعرف على الثوار ليصبح واحدا منهم، ويترقى ليصبح قائد مجموعة يُحسب لها ألف حساب، تقارع جنود المحتلين وتسبب لهم الإحراج، وتضحي بدمائها من أجل الوطن. تصل أخباره إلى أهل القرية ومختارها والأفندي الذي يضطر أن يسايره ويتحاشاه رغم "الاعتداء" على عرضه. (يتبع)

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب