news-details

الراحي الذي لا يكلّ: حول مواطن الإبداع في أدب محمّد نفّاع

علاقتُنا بالكاتب محمد نفاع  كعلاقتِنا بحجر الرحى؛ كلما درنا على قطبه، غنمنا طحنًا جديدًا وخيرًا مديدًا. دروتي الأولى في رحى أبي هشام -ومثلي كثيرون- منذ أن كنت على مقاعد الدراسة، ودرسنا قصته المعروفة "الله أعطى والله أخذ". ثم وقفت في غرفة الصف ودرّست القصةَ ذاتَها لطلابي. ثم كنت مفتشة للغة العربية، وكان قد جاد علينا بقصّة  "مختار السمّوعي" التي زيّنت منهاج الأدب الجديد، وكتاب "البيادر" (2012)، وهو كتاب تدريس الأدب العربيّ الذي قمت بتأليفه مع الدكتور محمد حمد لطلاب المرحلة الثانوية. استضفته أكثر من مرة في الجامعة في مساق الكتابة الإبداعيّة، وكان يسافر من بيت جن إلى حيفا في الباص أو النقليّات، لا يبتغي أجرًا ولا يحمّلنا  منّة، ليلهمني وطلابي بذائقته الأدبية وغيرته على لغتنا وتراثنا وهويتنا. ولا يزال رحاه يدور، ولا يزال يدهشنا بنتاجات جديدة مثل "جبال الريح" (2019) و"غبار الثلج" (2019)، وهي مؤلّفات زاخرة، نذر نفسه لها طواعيَة، لا ينظر فيها إلى ذاته ولا إلى لذّاته، بل ليحفظ تاريخ مجتمعه وهويّة شعبه. 

في هذه المداخلة سأتتبّع مواطن الإبداع  في العمل الفنّي الأدبي لدى محمّد نفّاع؛  بمعنى أنني سأعرض أهمّ الميزات التي جعلت منه كاتبًا مبدعًا أصيلًا؛ مع الإقرار مسبقًا أنّ الإبداع في الأدب هو محصّلة تفاعليّة بين الفنّ الجماليّ الأصيل والمُبتكر، وبين رسالة العمل الفنّيّ ، سواء كانت هذه الرسالة ذاتيّة أو أمميّة، إنسانيّة أو كونيّة. 

 

الثراء الفكري والثقافي

وهو شرط أوليّ لكلّ كاتب مبدع؛ فعملية الإبداع بالدرجة الأولى هي عمليّة معرفيّة واسعة، وفهمٌ متنامٍ للعالم والإنسان نفسِه. ولا ينكر أحد حجمَ الثراءِ الفكريّ والثقافيّ الذي يتمتّع به محمد نفاع. فهو ذو ذاكرة خصبة، متمرس بخبرات الحياة عميقها وعريضها، متذوّق للجمال، متعطّش للمعارف، يملك ثروة من الحكي الصافي والجميل، يأتي بلغته من مساقطَ غيرِ معهودة، يكتبها بتخصّص الباحثين وتعمّق الدارسين، شديدُ الإخلاص لأدبه، وحريصٌ على التجويد فيه. 


 

كاتب مؤدلج وملتزم 

هنالك من ينادي بنظرية الفنّ للفنّ والأدب للأدب؛ بمعنى أننا يجب أن ننشد من الفن والأدب الجمالَ فقط، وأن نجرّدهما من أيّة ملابسات سياسيّة أو أيديولوجيّة أو فلسفيّة، فلا ننظرُ في الأدب  مثلًا إلى معاييرَ سياسيّةٍ أو دينيّةٍ وما شابه. ولكن الحقيقةَ هي أن الأدب لا يمكن أن ينجوَ من السياسة ومن قضايا الشعوب الكبرى. الأدبُ الحقيقيّ كان دائمًا سجلًّا خالدًا لقضايا الإنسان، ولم يكن في يوم من الأيام منفصلًا عن الواقع، بل كان لصيقًا بالهمّ الإنساني. 

ومحمد نفاع كاتب مؤدلج، وملتزم سياسيًّا، وأدبه رسالة وطنيّة وقوميّة من الدرجة الأولى. وانغماس السياسة في أدبه أمر بديهي، طالما أنه مرتبط بقضيّة عادلة كالقضيّة الفلسطينيّة. ذكرت الكاتبة الأمريكيّة توني موريسون (1931-2019)- وهي كاتبة أفرو- أمريكية شهيرة، حائزة على جائزة نوبل للآداب، وتوفيت حديثًا، والتي تناولت في رواياتها تاريخ السود ومعاناتهم وعبرت عن مناهضتها للعنصرية تجاه الشعوب بضمنهم الشعب الفلسطيني- قالت: "أنا لا أتخيل مبدعًا غير مُسيّس! كيف يمكن ذلك؟ أن يدير ظهره للعالم"؟ القضية إذًا ليست في وجود السياسة، بل في كيفية التعبير عن الموقف السياسي، ولا ينبغي للالتزام السياسي أن يحول دون جماليّات الكتابة الإبداعيّة إذا وظّفت بشكل متوازن.

هذا التوازن بين سطوة الآيديولوجيا وجماليّة الأدب حقّقه محمّد نفّاع بما أسماها أستاذنا الباحث والناقد البروفيسور إبراهيم طه "الأدوات التعويضيّة" لدى نفّاع،  وهي أدوات التفافيّة تعوّض القارئ عن عنف الاقتحام العقائدي في النصّ الأدبي؛ كاللغة الاستثنائية المميزة، والفكاهة، والسخرية، والتراث الجميل والاستطراد. (إبراهيم طه، "محمد نفاع والأصالة الأدبية"، مدارات، 2013). 

 

استعادة الفردوس المفقود

أجمل ما في الأدب كالشعر والقصّة، أنه يتغلغل في أماكن عميقة في الإنسان، وأحيانًا يتسرّب إلى عوالمَ وذكريات مهجورةٍ فينا، لطالما نتوق للعودة إليها. وبالتالي يكون الأدب وسيطًا لاستعادة هذا الفردوس المفقود في داخلنا. ومحمد نفاع بارع في استعادة ذلك العالم السحري الآخذ في الزوال من حياتنا. 

في كتاباته، يتمسّك أبو هشام بعالم البسطاء والفلاحين والعمال، ويعود بنا إلى أمكنة قديمة، نمشي في دروب القرية الوعرة.. ونسمع أجراس الماعز تدندن... نفرش حصائرَ الديوان.. ونجلسُ على مصاطب البيوت ساعة العصاري... والكتابة عن هذه الأجواء الريفيّة والطبقات الشعبيّة بل الطبقات المسحوقة، دائمًا ما تبدو للقارئ أشدَّ حرارة ودفئًا، بل تستقطب قرّاءً أكثر وانتشارًا اوسع. كاتبنا لا يزال حالمًا إلى اليوم، يعيش على أطراف العالم الافتراضيّ الذي بات ينهكنا ويتآمر على إنسانيّتنا. حسبي أنه ليس في كتابات أبي هشام ذكر للهاتف المحمول وربما حتى للكهرباء العاديّة. إنه الذي لا يهاتف إلا أرضه، ولا يتواصل إلا مع حبيبته. مصابيحه زهر القندول وكهرباؤه شمس الجرمق.  

لاحظوا كم تشعّ هذه الصورة حرارة وغبطة دافئة نحبّها، وهي تنتزع صورتها من نطاق الزمن المفقود الذي عشناه مرّة، لتكون معيشة فينا في الحاضر بصدق وحرارة: 

"أفاقت مبكّرة هي الأخرى، وراحت تْحوتك في البيت، وبيتها نظيف على الدوام، بضحك إلُه ولحالُه، وراحت تمسح الأثاث، وأيُّ أثاث!! نمليّة ولْيوك، فْراش مغطّى بشرشف أبيض، وسَبَت، وجرّة فخّار عكّاويّة على إكليل شيح، وخابية زيت، وأطباق ومناسف قش معلّقة على الحيطان، سفط ملح وإبريق شاي، ونعاير دبِس ولبنة، ومعقّد سفرجل وعنب، ومَنْشَل زيتون مملّح، وخليّة قمح، والباب مغلوق نصّ غلقة..."(رواية فاطمة: ص80).

 

عناد المبدع

للأدباء الأصيلين عناد متعصّب يحملهم على الحوْم طويلًا حول الفكرة، والبحث بشراسة عن التعبير المناسب لما يفكّرون فيه. وكثيرًا ما أعاد أجدر الكتاب مؤلفاتِهم أو مزّقوا أوراقَهم، لأنهم لم يمسكوا بالفكرة المقصودة، أو لم يقعوا على التعبير المناسب لها.الكاتب الأصيل والمبدع لا يغادر الفكرة التي يريد، بل يبقى في محيطها حتى يُحرّرَها و يأتي بما تستحقه من التعبير على أكمل وجه. وهذه عادة أخرى تشهد على إبداع أبي هشام؛ وهي السعي الدؤوب، والبحث عن الكلمة التي تصف الفكرة بأكبر قدر ممكن من الدقة والوضوح. وهذا الإحساس المرهف بالكلمة وإيقاعها، بل الوله حدّ الهُيام بمفردات اللغة، هو سمة واضحة في أدبه، حتى ليخيّل للقارئ أن هذه العادة قد  اكتسبت طابع الوسواس القهري عنده.  

انظروا مثلًا إلى أي درجة يتأنى عند الفكرة، فيلاحق صورة قلوح العنب على أذيال الكرم من كل جانب، بدقّة ورويّة وبعد نظر حتى يمسك بتلابيبها:

"وعلى أذيال الكرم تعربشت قلوح العنب السرطباني والمدوَّر والمرواني والصفدي القرْقَشاني، عاليةً على رؤوس الأجباب وفي عُبابها، ورؤوسها طريّةٌ ريّانةٌ، بنّيةٌ من طراوتها. وشواربُ القُلوح تلتفُّ على غصون الشجر لتظل رؤوسُها فالتةً، تلوحُ في رقْصاتٍ متمايلةٍ رائعةٍ. عزا ما أشلب الورقات ... تأقوم أورّق صفطة" (فاطمة : ص85).

وانظروا كيف يتخيّراللفظ بدقة ليؤدي المعنى المقصود بشكل محسوب:

"الكونُ هاجع في سكينة وغفوة عميقة. وعلى الطريق الترابيّ الوعريّ آثارٌ واهيةٌ لأصابع الطيور، والعصافير قشّرت بخفة وجه التراب المرطب المنمَّشِ بالطَّفَل، ولاحت تحتها خرابيشُ غبرةٍ ناعمة (التفاحة النهرية: عمشق الوادي، ص51). 

 أو: "في قرنة البيدر تينة بُقْراطية يحط عليها غبار القمح والشعير. كل يوم واحد يأخذ العقفة عن أذيال التينة ويدملها في شول القش"(فاطمة: ص23).

إن مفردات من قبيل "قشرت "، و"يدملها " لهي كلمات محسوبة بدقّة وموضوعة في مكانها بحيث يصعب علينا حذفها أو إيراد لفظ آخر بديل عنها. 

 وقد لا يهتدي الكاتب أحيانًا للفظة الدقيقة فيقول: "لو أنني أهتدي لألطف التسميات وأحلى الكلمات وأرقِّها لهذا الغيم الذي يغطي وجهَ السماء ببرقع رمادي، وينسدل على وجَناتِ الجبالِ بمهابةٍ، ويتهادى على أعناقها وصدورها وبطونها، ويمسد ما تحتها ويتعربش على ثغر الوادي متغلغلا بين الشجر المتطاول في الوعر الغزير" التفاحة النهريّة، عمشق الوادي، ص50).

 

الإبداع في الخيال

يُعرف عن محمد نفاع  -وقد كُتب الكثير حول ذلك -أنه واصف ماهر وحاذق للطبيعة الريفيّة والبيئة الجغرافية الفلسطينية، بالإضافة إلى معرفته الدقيقة بالحيوانات والطيور والنباتات وسلوك مجتمع الريف. فمن صاحب الفضل في اللوحات الطبيعيّة الخلّابة التي تزيّن كتبه؟ هل هي الطبيعة بجمالها وألقها؟ أم هو محمد نفاع بحساسيّتِه وعمق خياله؟ 

أرجع الفلاسفة في نظريّاتهم، ومنهم الفيلسوف الإنجليزي ألفريد وايتهيد ((Whitehead، مفهوم واقع الطبيعة إلى الإدراك الحسّي الإنسانيّ لها، وليس إلى الواقع الموضوعي فيها. بعبارة أخرى: تتجه الفلسفة إلى أن الطبيعة بلا ألوان ولا أصوات ولا عبير؛ وكل تلك السمات والخصائص هي سمات إنسانيّة بحتة. وأنرؤيتنا للعالم رؤية شخصيّة، تخرج طبقًا لإحساسنا وخيالنا ومواهبنا. وفي نظريّات المكان يقال: إن الجغرافية المكانيّة خالية من  أية أغراض جماليّة وثقافيّة وتاريخيّة، وأنّ الإنسان هو الذي يحمّلها القيم والجمال والتاريخ.وكلّ مكانهو مجرّدمن الفاعليّة التاريخيّة والاجتماعيّة ما لم تجرِ عليه خبرة الإنسان. 

"الوقت يتطاولُ ويمرُّ، والشمس تميلُ، وطيّاتُ النقاب تخفق مع هباتِ الريح وتلثِمُ السالفَ والخدَّ لثْماتٍ قصيرةً مسروقةً وتعودُ. هذه النَسَمات لا يتقنُها إلا الخريف. ومن قُرنة السما الشماليّة فوق الجبالِ الوقورةِ طلعَ رفٌّ من الطيورِ المهاجرةِ. بطونُها البيضاءُ تلمعُ قِبالةَ الشمسِ وبعضُها 

يغوصُ في نُتَفِ الغيمِ. تسبحُ في الجو بمهارةٍ وقد أفردت أجنحتَها، عدا صفَقاتٍ متفرقةٍ هنا وهناك. المئاتُ والألوفُ في رفٍّ واحدٍ متطاولٍ بطيرانٍ دائريٍّ. والطيرُ الدليلُ يحافظ على مسافة معتبرة من المجموعة، تعطيه مكانة لائقة، وهذا القائد يعود أحيانًا ويرقُبُ النظامَ ويسوّي الصفوفَ ببعض التعليمات. حوّامُ الخريف. بشارةُ خير . الدنيا على أبواب الشتاء" (التفاحة النهرية، حوّام الخريف، ص38). 

كم تستوقفنا هذه اللحظاتُ والمناظر في حياتنا؟  ألا نمرّ بها فلا تسترعي انتباهنا ولا تشغل تفكيرنا؟ إنه إبداع الكاتب إذًا، الذي يقوده إدراكه الحسّيّ اليقظ وانتماؤه العاطفيّ للمكان، وشغفُه الواضح بالتأمّل والاستغراق إلى اجتراح هذا الوصف الإبداعيّ المنمّق للطبيعة.

 

المحور الخامس: الفكرة المتسلّطة

لدى الكاتب المبدع أحيانًا فكرة متسلطة تلاحقه وتطارده وتضغط عليه من المناطق الأكثر إلحاحًا. وإذا كانت كتابات محمد نفاع في الفترات السابقة تحيل إلى النضال والمقاومة والدفاع عن حقوق المظلومين والمضطهدين عبر ثيمات محبوكة ومتنوعة؛ فهو اليوم مسكون بهاجس التوثيق.. توثيق التاريخ واللغة وملامح البيئة المحليّة بطبيعتها ونباتاتها وحيواناتها وطيورها، عبر لغة تراثية  آخذة في الاندثار ومبنى حكائي بسيط. الكاتب الحقيقي لا يستطيع أن يكتبَ إلا مدفوعًا بهاجس داخلي لا يمكن له مقاومته. وهذه الفكرة الثابتة المتسلطة التي تطارده في السنوات الأخيرة هي ما تميّزه، وهي ما وسمته بمؤسّس مدرسة "حكي التراث" أو "رائد الحساسية التراثية في الأدب الفلسطيني"،الوسام الذي وسمه به البروفيسور إبراهيم طه.

وبعد، يقول الروائي المصري إبراهيم أصلان: "في كل مهنة تضعف الكفاءة ويقل الانتاج مع تقدم العمر، لكن في الابداع يحدث العكس، لأن موهبة المبدع تصبح أكثرَ نضجًا وابداعَه أكثرَ تألقًا مع التقدم في العمر، والموهبة تنمو بفضل الاستفادة من الخبرات المتنوعة في كل نواحي الحياة". 

وهذا هو حال إبداع أبي هشام.. على وقع رحاه  نلتمّ ونجتمع، ومن جَوْدِ رحاه نسوم الكتابة والنقد، فدمت راحيًا لا تكلّ يا أبا هشام.

(ألقيت المداخلة في حفل تكريم الكاتب محمّد نفّاع في عرّابة بتاريخ 15.11.2019)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب