news-details

الساعات الأخيرة من حياة الأسرة المالكة في العراق: بغداد عشية الثورة (1)             

لقد بلغ الغليان الشعبي أشده، وكان الشغل الشاغل للعراقيين في تلك الفترة هو الحديث عما سيقوم به الجيش من حركة تصحيح للنظام  يعيد للعراق وجهه الحقيقي، كان هذا الحديث منتشرًا بين أوساط الضباط والسياسيين والشباب المتحمس، وكانت هذه الأحاديث والاشاعات تصل الى القصر عبر قنوات عديدة تدعم ما كانت تبثه الاذاعات الموجهة من القاهرة ودمشق.

انعكست هذه الأوضاع على عبد الآله باعتباره حاكم العراق الأول، كونه اقوى وأهم رجل داخل العائلة المالكة، فقد كان وصيًا على العرش سنوات طويلة، منذ مقتل الملك غازي عام 1938 حتى تولى فيصل الثاني العرش عام 1953، عبد الآله كان المسؤول الأول عن تدهور الأوضاع في العراق، كما أنه يتحمل مسؤولية تشوية صورة العائلة المالكة في نظر العراقيين لأنه نكل بأبنائهم، وعشية قيام الثورة يوم 14 تموز عام 1958 ظهر البؤس والتعب على عبد الآله، وقد لاحظ مرافقوه ذلك، ولاحظوا أنه لم يعد يهتم بما يجري ضده في الخفاء من قبل المعارضة، داخل الجيش وخارجه لم يعد يهتم بالمعلومات التي كانت تصله من المخابرات البريطانية، وهذا مؤشر لحالة اليأس التي وصل اليها.

عبرت الصحف العراقية عن حالة القلق والتوتر التي عاشتها بغداد عشية قيام الثورة، ونقلت هذه الصحف الصادرة في صبيحة يوم الأثنين الرابع عشر من تموز عام 1958 اخبار نشاطات رجالات القصر الملكي، وقد أبرزت على صدر صفحاتها خبرًا عن سفر الملك فيصل الثاني والوفد المرافق له الى اسطنبول لحضور اجتماعات رؤساء دول حلف بغداد، فإذا كان يوم الأحد الموافق الثالث عشر من تموز 1958 هو آخر يوم من أيام العهد الملكي، فإنه يمثل الحد الفاصل بين عهدين، العهد الملكي والعهد الجمهوري.

أما عن سير أحداث الانقلاب، فقد أصدرت القيادة العراقية أوامرها للواء العشرين في الجيش العراقي، وكان يرابط في "جالو لاء" للاستعداد للسفر فورًا إلى الأردن  للمشاركة بحماية عرش الملك حسين بن طلال، كان يتولى قيادة اللواء الزعيم الركن أحمد حقي، والسفر الى الاردن عادة يتم عن طريق مدينة بغداد العاصمة العراقية، وذلك لاجتياز نهر دجلة فوق نهر الخُر، الواقع على مقربة من قصر الرحاب.

انتشر هذا الخبر بين الضباط الأحرار، فقرروا اغتنام الفرصة لتنفيذ الانقلاب العسكري الذي ينتظره الشعب، لا سيما وأن السياسيين الكبار العراقيين الثلاثة: وهم الملك والأمير عبد الآله ونوري السعيد رئيس الوزراء موجودون في بغداد، كما أن المرور فوق جسر الخُر، يعطي المتآمرين الفرصة للوصول الى قصر الرحاب حيث تتواجد الأسرة الملكية، دون اثارة أية شبهات، أو تعريض القوات المتحركة لأية حركة التفافية.

كان الملك فيصل يتأهب للسفر يوم 14 تموز الى لندن، وكان الأمير عبد الاله قد عاد في العاشر من تموز من اسطنبول ليحل مكان الملك لإدارة شؤون الدولة أثناء غيابه، وكان نوري السعيد قد رجع الى بغداد من رحلته كي يرافق الملك إلى لندن، في ليلة الثاني عشر من تموز، وضع عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف خطة العمل، على أن يتولى عبد السلام عارف توجيه الضربة الأولى في بغداد، حال مرور لوائه منها وهو في طريقه إلى الأردن، واتصل بالضباط من الخلايا العاملة معهما في بغداد، وأنذرهم بأن يكون على أهبة الاستعداد للتنفيذ يوم 14 تموز، أما بقية الضباط الأحرار في الخلايا الأخرى فلم يبلغوا بشيء.

في الساعة من ليلة 14 تموز تحرك اللواء قاصدًا بغداد، وكان  يتألف من ثلاثة أفواج، الفوج الأول بقيادة العقيد عبد اللطيف جاسم الدراجي، والفوج الثاني بقيادة الركن ياسين محمد رؤوف والفوج الثالث بقيادة العقيد عبد السلام عارف، ومما هو جدير بالذكر أن الأفواج الثلاثة لم تكن مجهزة بالعتاد، اذ جرت العادة أن لا يوزع العتاد على القوات العسكرية خارج مهماتها، غير ان عبد السلام عارف قد جهز عتادًا لقواته في تلك الليلة بينما ظل الفوجان الآخران بلا عتاد، واتضح أن عبد السلام عارف حصل على العتاد خلال التدريبات الليلية التي كانت التي كانت تقوم بها وحدات الجيش.

وكما هو متبع فإن كل فرقة في الجيش العراقي مؤلفة من ثلاثة الوية، وكل لواء من ثلاثة أفواج أو كتائب، وكل فوج من ثلاثة سرايا، ويناهز عدد أفراد كل لواء الثلاثة آلاف جندي، ويتراوح عدد الفوج أو الكتيبة بين 800 – 1000 جندي.

تحرك اللواء العشرين من جالو لاء عند التاسعة مساء، وهذه المدينة تبعد عن العاصمة بغداد حوالي مئة كيلومتر شمالًا باتجاه الغرب , يتقدمه الزعيم الركن أحمد حقي، وهو ليس من المشتركين في الثورة بل كان عبد السلام عارف أحد كبار المدربين للانقلاب، مع عبد الكريم قاسم، توقفت قوات اللواء وهي في طريقها الى بغداد في أحد المواقع الذي كان يبعد عن بغداد 25 كم، وقد اختار الثوار هذه النقطة التي تدعى كاسل بوستلكي، ليستعدوا للهجوم وليوزعوا التعليمات على ضباط الصف الذين اعتقدوا انهم في طريقهم الى الاردن، وليس الى بغداد، وكانت هذه المحطة مركزًا لثكنات الجيش البريطاني قبل استقلال العراق.

قبل الضربة الأولى، تمكن الضباط الثائرون من التخلص من قائد اللواء الزعيم أحمد حقي الذي لم يكن يعلم في الانقلاب، بعد ذلك قاموا باعتقال قائد الفوج الثاني ياسين محمد رؤوف، لأنه رفض الانضمام الى الانقلابين، وعلى الأثر عين عبد السلام عارف نفسه، قائدًا للواء بدلًا من أحمد حقي، واخذ يوزع المهام على الأفواج الثلاثة، فكلف سرايا فوجه احتلال العاصمة بغداد، أما الفوجان الآخران، فكلفا بالاسناد، لأنهما مجردان من العتاد والذخيرة، عهد عبد السلام عارف الى الرئيس الأول بهجت سعيد باحتلال بيت نوري السعيد، يرافقه العقيد وصفي طاهر الذي وصل بغداد الساعة الثالثة صباحًا، كما عهد الى الرئيس عبد الجواد حميد باحتلال القصر الملكي، ووضع تحت تصرفه سرية مؤلفة من 100 جندي.

 عند الساعة الرابعة صباحًا، بدأت السرايا تتحرك باتجاه بغداد، وفي أقل من نصف ساعة، كانت سرايا الفوج الثالث من اللواء العشرين، قد دخلت العاصمة بغداد التي كانت نائمة، وبدأت تنفذ الخطط المرسومة، أي أن الف جندي فقط دخلوا بغداد ليقوموا بالانقلاب، فيما كانت العاصمة والدولة وقواتها المسلحة كلها تغط في نومها. (يتبع)

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب